قالت العرب: "أخسر صفقة من أبي غبشان" و" أحمق من أبي غبشان". وأبو غبشان رجل من خزاعة كان يلي البيت الحرام، اجتمع يوما مع قصي بن كلاب بالطائف على الشرب، فلما سكر اشترى منه قصيّ ولاية البيت بزقّ من خمر! وأخذ منه مفاتيحه وأشهد عليه، وذهب مسرعا يبشر قريشا ويقول: هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم ولا دم! ولما أفاق أبو غبشان من سكرته ندم أشد الندم ولات ساعة مندم.
علّمتني الثورة أن أبا غبشان هذا ليس شخصا إنما حالة، وأن أحفاده في كل عصر ومصر ما زالوا يتكاثرون ويعرضون مقداستهم ومبادئهم في أسواق النخاسة على حين سكرة، فمنذ أعوام -وكما يقول جدِّي- يكاد لا يختفي ذنب لأبي غبشان من جهة حتى يطالعنا رأسه من جهة أخرى.
فالسياق صار محفوظا عن ظهر غيب، وكذلك المآل، إذ إننا لم نكد ننسى عام الجماعة المزعوم وما رافقه من سيل مفردات: (انبطاح، تمييع، اندماج، إفشال الاندماج، إدخال الجيش التركي المرتد- وركزوا على كلمة مرتد لا لشيء إنما للولاء والبراء فقط- وما شابهه من إطلاقات وتوصيفات)، حتى يطالعنا عام جديد بحجج جديدة مثل: ( تصحيح المسار، العودة إلى منهج القادة الشهداء، الحفاظ على الجماعة، تعطيل الجهد العسكري، حالة الشلل والعطالة، إرسال بعض المجموعات لضبط بعض الإدارات...الخ).
فالأمر يبدأ عادة باتهامات ثم بتغريدات ثم بلقاءات ثمّ ببيانات مذيلة بعبارة: (و الله من وراء القصد)، ثم بإمداد أرتال وسلاح من قوات فضِّ النّزاع المحايدة، ثم بانشقاق وانشطار حفظا للجماعة والثورة والجهاد، ثم بخازوق يخرج من الرأس، مع عار الأبد ولعنات الدهر.
نعم، هذا هو السياق وذاك هو المآل، سقوط والظن بهم صعود، وانحطاط والظن بهم علو، وذلٌ والظن بهم عز. ولا غرابة، فمن ابتغى عزا بباطل أورثه الله ذلا بحق، كما يقول أحمد مطر:
وعلى لحن خرير الجدول.. أنفسهم تنزل للأعلى.. والمصعد يصعد للأسفل.
ما بال أقوام يبدأون الدروب بتفويضها لله، فإذا انتصفوها وألفنا وجودهم بدت عليهم ملامح (أبي غبشان)، فغلب العمى على الرشد و بان كذِب ما يدعون ، وانتشت رؤوسهم المثقلة بخمرة السلطة، وباعوا مفاتيح مشروع أخرجهم من الظلمات إلى النور بثمن بخس مناصب موهومة.
كان عليهم معشر (الطامعين) أن يعلموا أن النفس جِدُّ خذول، وأن الذين كانوا ملء السمع والبصر صاروا ببلاهة أفعالهم، وسوء صنيعهم موئل خيبة .خذلان، لقد خسروا الرهان، فغابوا وذابوا واستسلموا للسياق الخاطئ.
وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنّ المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، فماذا يكون توصيف الملدوغ من ذات الجحر مراراً وتكرارا؟
هم قوم غرتهم غاياتهم و أساؤوا اختيار الوسيلة، فارتقوا إليها على معارج من خسة وهوان، وسلكوا إليها مسالك لا تلائم شمم مبادئنا، تلك المبادئ التي حملوها ما أوصلتهم، وألقوا قسطا منها في الطريق ما أثقلتهم، حتى وصل بهم الحال في نهاية الطريق حفاةً عراةً من أي قيم.
وإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إياكَ أخي، أن تنخدع بهم أو تكون معهم، فالغاية -وإن عظمت- لا تبرر الوصول إليها بالوسيلة الدنيئة، فما بالك والغاية أصلا دنيئة، وعود بسلطةٍ زائفة، مكانهم فيها مكان النعل من القدم، ثم يُلقى بهم لينتعل غيرهم، كما انتعل من قبلهم وألقى بهم بعد أن قضى منهم وطره.
فلئن أعمى الله بصرهم وبصيرتهم عن مآل السابقين ومآلهم، فلم تعمَ بصيرتنا عن ذلك، وما علينا إلا أن نعيد تعريف الخسارات بخبرة أولي البصيرة الذين تلقوا كل الحراب و النبال، فما آلمهم غير سهم كان غصنا من فرع، و امتدادا من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فضمد جراحها، واشدد يديك على رايتها، وقاتل عنها سنانا وبيانا ما استطعت، ولا تتبع بني غبشان فتكون من النادمين.