الأمة الإسلامية أمة عظيمة، قادت البشرية إلى النور والعلم في العصور الماضية، في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش التخلف والانحطاط، لكن سرعان ما تخلفت أمتنا وانقلبت من قائدة وسائدة إلى متأخرة ومتخلفة بسبب مشاكل تمكنت منها، فما هي أهم هذه المشاكل يا ترى؟
كثرت أزمات الأمة بسبب الطغيان والاستبداد والحصار والتهجير، ولجوء الشباب إلى الهجرة وغرقهم في البحار، والحروب وكبت أنفاس الشعوب التي ثارت لأجل الحرية والكرامة، وعلماء دين خضعوا للحكام وأصبحوا يُفََصِلُونَ الفتاوى على مقاسهم بالاضافة إلى أزمات في السلوك والفاعلية والتخلف وغيرها الكثير.
لكن هناك ثلاثة أزمات رئيسية عصفت بأمتنا، وهي السبب فيما تعيشه من ضياع، وتخلف عن باقي الأمم، وإذا عولجت هذه المشكلات ستنهض أمتنا، وتعود إلى سابق عهدها تنافس باقي الأمم والشعوب.
لماذا تخلف المسلمون؟
بدايةً هذا التخلف أصاب المسلمين وليس الإسلام، لأن دين الله الإسلام خالد ومحفوظ، قال الله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [ سورة فصلت الآية: 42] كما قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[سورة الحجر الآية: 9].
بعض المجالات في بلاد المسلمين لم يصبها التخلف الكلي مثل التعليم والبنية التحتية والاقتصاد، وهذه ليست أول مرة يتخلف فيها المسلمون، فقد انهاروا سابقاً أمام الصليبيين والمغول وفي الأندلس، ولكي نفهم لماذا تخلفنا؟ لابد أن نعرف نتائج تخلف المسلمين والفرق بين النتائج والأسباب؟
هناك من يرى أن سبب التخلف يكمن في بعض السلوكيات مثل:
- ضعف العقيدة.
- تدني المستوى الأخلاقي.
- العشوائية في التسيير مما أدى إلى الفوضى.
- التفكك الأسري وغياب المودة والرحمة، وتفشي التشرد والطلاق وغيرها من الآفات المهددة لكيان المجتمع.
وهذه كلها نتائج التخلف وليست أسباب له، وهناك من يرمي سبب تخلف أمتنا على أعداءها الذين يحاولون دائماً ولا يفلحون إلا إذا كانت ضعيفة (قل هو من عند أنفسكم)!! وهناك من يقول أننا تخلفنا بسبب الضعف العسكري أو المالي ونحوه، وهذه أيضاً نتائج التخلف وليست سببه! ويرى البعض أن الاستعمار هو السبب، ولكن تخلفنا داخلي وليس خارجي، يقول البعض أن السبب عقائدي، نعم هناك منحرفين لكن العقيدة الأساسية للجمهور الأغلب في الأمة سليمة، وقد يرى البعض أن مواجهة التخلف تكون بالتقدم العمراني، ولكن هذه مظاهر للحَضارة وليست هي الحضارة نفسها، وكل من معه أموال يمكنه أن يصنع ذلك، إذاً فما هو السبب الرئيسي للتخلف؟!
3 أسباب رئيسية للتخلف
1- الفكر: (العلماء)
أي الفهم الأعوج للإسلام، فالله تعالى وعدنا أن التمكين سيكون عندما نتمسك بالدِّين الذي ارتضاه لنا، وليس الدين الأعوج الذي طرحه ويطرحه كثير من العلماء والفقهاء في القديم والحديث، مثل شيوخ السلاطين الذين يلعبون بالدِّين و يخدرون الناس باسمه لأجل تكريس العبودية للطغاة، وتحليل كل حرام لهم بالتحايل على النصوص والتلاعب بها، وللأسف تم استعمال الدين والعلماء استعمالاً سيئاً من أجل تثبيت الطغيان، وإباحة دماء الأبرياء ومصادرة الحريات.
الدين هو الذي يدعو إلى الحرية والكرامة ومقاومة الطغاة، وإلا فهو (أفيون الشعوب) كما سماه الشيوعيون. وكذلك تقنين الفتوى يجعلها محل استغلال من الأنظمة وعلماء السلطان تذكيرا بما فعله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما شكى له غلو وشطط الخوارج في أقوالهم وفتاويهم ضدّه التي وصلت إلى التكفير ووصْمه بعدو الله، وهو أمير المؤمنين، فلم يلجأ إلى تقنين الفتوى وإنّما قال لهم: “قوم رأوا رأيا فدعوهم وما رأوه”، تأكيدا على أنّ الفكر لا يواجه إلا بفكر، إلا إذا وصل إلى التعدي ورفع السلاح، وأن يفتح الباب أمام الحرّيات الفكرية والسياسية والدينية.
يقول ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن العلوم على صنفين:
الأول هو العلوم البشرية: وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره وعلمه.
الثاني هو العلوم الشرعية: وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مجال فيها للعقل، إلا بإلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، وقيل في مثل عربي "إذا قُدِم التفكير حسنت الأفعال".
فتخلف الفكر وضعف الوعي يؤدي إلى تخلف الأمة الذي يشكل القرارات والأعمال ومن ثم النتائج، والفهم الأعوج للفكر هو الذي أبعدنا عن التمكين، ويظهر ذلك لدى فئة المفكرين والعلماء والدعاة، وعلاج هذه الأزمة لن يكون إلا بتحرير الأفراد من اتباع بعضهم البعض، إلى إتباع الوحي وهكذا يتكون لدينا جيل جديد من العلماء والدعاة متمكن من العلم الشرعي، ومنفتح على العصر، ومتَحرر من التبعية للحكام.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "الراشدون من رجالات الفكر يتفقون على أن شفاء العالم من سقامه مرتبط بعودة الإيمان إلى القلوب الفارغة" ويقول أنور الجندي أيضا: "كان الفكر الإسلامي ثمرة عملية نقد كبيرة، وعملية تصفية للفكر السابق وتجديد وبناء استغرق قرونا زاهرة في حياة العقل في الإسلام"
شمولية الفكر
أكبر أزمات اليوم هي أزمة الفكر، على اعتبار أن كل شيء في الحياة هو فرع من تصوراتنا للفكر، وإذا نظرنا إلى الفكر سنرى أنه يعكس لنا كل جوانب الحياة، فهو يشمل قضايا العقيدة ومسائلها، كما يشمل القيم والمبادئ التي يؤمن بها الإنسان، وكذا الطموحات التي يسعى إلى تحقيقها في الحياة، بل وفهمه للحياة.
والخلاصة أن الفكر يشمل الحياة بشقيها الديني والدنيوي، وأن هذه الأمة لن تنهض وتعز إلا بما نهضت وعزّت به في أيامها الأولى، وعصورها الذهبية، بالفكر الأصيل، المتصل بالإسلام النقي الصافي، الذي يمكنها من منافسة الغرب والتفوق عليه، مع المحافظة على هويتنا المتمثلة في ثوبنا العربي الإسلامي الأصيل.
خصائص الفكر الإسلامي
إن السبيل إلى نهضة أمتنا هو الفكر الإسلامي الصحيح، ولن تنهض بالأفكار الدخيلة، ولا بالثقافة الغربية، وللفكر الإسلامي خصائص ميّزته عن غيره كفكرٍ حضاري إنساني عادل ومتوازن له هدف واضح يسعى لتحقيقه، وهو فكر شمولي للعالم أجمع وليس محصورًا على العرب والمسلمين، وهو فكر واقعي عملي وعقلاني قابل للتحقيق، يحترم قواعد المنطق والعقل، فهو ليس فكرا لاهوتيا ولا ماديا خالصًا، بل هو فكر واقعي مادي ممدود بحبل إلهي سماوي، كما أنه يقبل المستجدات بما يتوافق ومضَامينه ومحتواه، فلا تجد مستجدًا إلا وللإسلام رأي فيه وإحاطة، وهذا ما يكسبه مرونة تساعده على الانتشار في مختلف بقاع الأرض.
"ومن أنك حين تلتقي بكثير من صانعي الخطاب الإسلامي تجد أن طروحاتهم ورؤاهم وآمالهم في الإصلاح والتجديد والنهضة بعيدة كل البعد عن اعتبار المعطيات الجديدة." مثل عربي
2- القيادة: (عند الطبقة الحاكمة)
عندما تولى أمر المسلمين من لا أهل للولاية، صار همهم مصالحهم ومصالح من حولهم، وضربوا بمصالح الأمة عرض الحائط، ووجدوا من العلماء أصحاب الفهم الأعوج من يسبح بحمدهم، ويخدر الأمة بوجوب طاعتهم! هؤلاء الحكام أساس كل بلاء ومنكر، فالإسْتبداد يفتح باب الظلم على مصْراعيه، ويشجع الفساد المالي والأخلاقي، ويعطل التنمية مما يؤدي إلى زيادة الفقر، ويفتح الباب أيضا لأعداء الأمة للسيطرة علي خيراتها باسم التحالفات، وهم أكثر من يحاربون الدعاة والعلماء المخلصين، حيث يعتبرونهم خطرا عليهم، وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر باليد فإن لم نستطع فباللسان، فإن لم نستطع فباِلقلب وذلك أضعف الإيمان، وأكد صلى الله عليه وسلم أيضا أنه ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل.
يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى "اعلم أن السلطان شخص ضعيف في نفسه، لكنه يحمل مسؤولية ثقيلة، خاصة وقد استرعاه الله تعالى أمر خلقه، وهو محتاج لمن يعينه لردع الأعداء، كما يحتاج إلى كف أذى رعيته بعضها على بعض، وإلى حماية أموالهم ومصالحهم ومعَايشهم"
تحدث ابن خلدون عن المهام الأصيلة للسلطان، المتمثلة بتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، وحماية أموالهم ومصالحهم، فكيف الحال إذا كان السلطان نفسه الناهب لأموال الناس، والمعتدي على مصالحهم، والمنتهك لحرُماتهم، والسالب لحُرياتهم؟!
الحل لانتشال الأمة من أزماتها بالقِيادة الواعية، التي تعتمد على الرؤية الرشيدة، نبحث في التاريخ وسنجد أن نهوض الأمم يأتي عبر قادة لهم هدف ورؤية، سواء كانوا قادة دينيين أو مفكرين أو علميين وإداريين، فأمة بدون قائد لا يمكن أن تسير بنفسها، ونحن لا نختصر الأمة بقائد وفرد واحد، لكن دور القائد حيوي ومهم في النهضة والريادة، ولذلك من الأسباب الرئيسية في تخلف الأمة هي القيادة لدى الحكام الخونة أو المستبدين أو غير الأكفاء، فهم السبب باستمرار الاحتلال الصهيوني وتخلف الأمة وشدة الظلم الذي ينتابها، وعلاج ذلك هو إعداد قيادات شابة ذات هوية إسلامية ووعي عميق ولغة عصرية ومهارات عالية، مع الولاء الكبير للأمة، يقول ابن القيم رحمه الله: "صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفَسادهما.. العلماء والأمراء"
القيادة من مفاتيح النهضة
من أسرار نهضة الأمة في عصورها الذهبية، هي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هدفه من تربية جيل الصحابة هو صناعة قادة من ذوي القدرات العالية والمميزة، الذين فتحوا البلاد من بعده، و أناروا للشعوب دروب الحياة، وغياب هذا الهدف اليوم عن برامج الدولة ومشاريع الحكومات أدى إلى تخلفنا، فأين هي الدول والحكومات التي تضع ضمن خططها تخريج القادة في كافة المجالات والتخصصات، فالأمة لن تنهض من كبوتها ما لم تكن القيادة والتدريب وتخريج الكفاءات القيادية ضمن أهدافها، بل ومن أولى أولوياتها.
التجربة الماليزية
لنا في إخواننا الماليزيين عبرة ومثال، فالتَجربة الماليزية قفزت بالبلاد في عشر سنوات من ذيل الترتيب بين الأمم إلى مراتب متقدمة، وهي ماضية في التنافس والعالمية.. ما السبب؟ تغيّرت القيادة، فتولت زمام الأمور قيادة ذات رؤية وفكر، وهنا بيت القصيد، فمتى وجِد القادة الذين يحملون الفكر والرؤية فإن حياتنا.. كل حياتنا ستتغير نحو الأفضل.
3- الوهن (الشعوب)
بين لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سَتتكالب علينا الأمم عندما يصيبنا الوهن، وشرحه بأنه (حب الدنيا وكراهية الموت)، وللأسف صارت اليوم الشعوب مستكينة أمام طغيان الحكام، بل تسبح بحمدهم خاصة عندما يتكرم عليهم الحاكم بهدايا وهبات هي أصلاً من أموال الشعب وليست أمواله الخاصة!! واستسلمت الأمة للدين الذي يطرحه علماء السلاطين وهو الدين الخانع المستسلم البعيد عن أسباب النصر والعزة والتقدم.
يقول سيد قطب رحمه الله: وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا، إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى!
فهذا الوهن والضعف العام في شعوب الأمة، جعلنا غثاءً كغثاء السيل وهو من أهم أسباب تخلف الأمة عن ركب الأمم، وتكالب الأعداء عليها، وعلاج ذلك يكون بتربية جيل جديد من الأمة، وكل ما نحتاجه من مجموع الأمة هو 2٪ منها التي ستقود الباقية، من خلال جيل يعتز بهويته، ومستعد للموت من أجل دينه وأمته وبلاده وحريته وكرامته.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي: سر الوهن الذي نحن فيه هو حب الدنيا وكراهية الموت، فإذا غيرت الأمة ما بنفسها، ولم تعد الدنيا أكبر هَمها ومبلغ علمها؛ هنالك يغير الله ما بها، ويبدل حالها من ضعف إلى قوة، ومن ذل إلى عزة، ومن هزيمة إلى نصر وتمكين.
مرض الوهن
فأمتنا اليوم مصابة بمرض الوهن، وهو مرض قد يضعفها ويبطئ من حركِيتها، لكنه لا يقتلها، ولكن الظلم إذا تفشى وانتشر سَيهلكها، خاصة إذا غاب من يتصدى له، ويقيم العدل بين الناس.
وكما قال ابن تيمية: "الأمة العادلة تبقى ولو كانت كافرة، والظالمة تزول ولو كانت مسلمة، لأن العدل هو الميزان الذي قامت عليه السموات والأرض.
ضريبة الذل
يرضى بعض الناس بالذل والإستبداد رغم أنه أوصل الأمة إلى التخلف، وسبب تلك الطاعة المطلقة هو الخوف الذي لخصه النبي صلى الله عليه وسلم بِالوهن (حب الدنيا وكراهية الموت) يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه "الناس من خوف الذل في ذل" ولذلك فإن السبب الرئيسي في الرضى بالذل والاستبداد هو الخوف، والخوف يؤدي إلى الذل ويزيد في الاستبداد فلا تقبلوا بالذل.
يقول سيد قطب: بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة! هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، وأقْدارهم، وسمعتهم، و من اطمِئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.
هذه هي الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تخلف الأمة، وتأخرها عن ركب الحضارة، وهي في الغالب ليست موكلة إلى شعوب الأمة بقدر ما هي موكلة لحكامها وعلمائها، ودورنا اليوم كبير ومسؤوليتنا عظيمة في إعداد الجيل القادم الذي سيدير شؤون الأمة لينهض بها، وينافس العالم ويصنع مجد الأوطان وعز الأمة.