قُدّر لي أن أتغرب عن وطني وأن أعيش مثل كثيرٍ من أبناء بلدي متنقلًا في بلاد الغربة، تارةً بحثا عن العلم والمعرفة، وتارةً أخرى سعيا وراء الرزق. تحمل كل تجربة خضتها طعمًا مختلفًا ونكهةً مميّزة. لكننّي ظللت أحمل همّ الوطن، حاولت كثيرًا المقارنة بين المجتمع الذي أعيش فيه والمجتمع الذي خرجت منه. إذ ظلَّ السؤال الذي يشغل بالي منذ غادرت أرض الوطن: "أين الخلل؟ لماذا نجحت الأمم من حولنا، وكان نصيبنا التراجع والفشل؟".
لا اُذيع سرَّا إن قلت أن تجربة العيش والدراسة والعمل في أمريكا هي التجربة أكثر التجارب التي خُضتها تميُّزًا. هذه البلاد تضع بصمتها فيك (شئت أم أبيت)، لكنها تجبرك على احترامها. تأتي إليها وأنت مبرمج على نظرية المؤامرة التي تربينا عليها، لا يخالجك أدنى شك أنّها سبب البلاء الذي أصابنا، وأنها تتربص بِنَا ليل نهار. لكنك مع مرور الأيام تتبدى لك حقائق أخرى، حقائق لا يستوعبها من لم يعش التجربة. هذه الحقائق الجديدة تجعلك تعيد حساباتك وتفتح لك آفاقًا جديدة للتفكير والتأمل.
لم يعد سؤال "أين الخلل؟" هو فقط ما يستحوذ على تفكيري، إذ أخذت القائمة في التوسع، حتى أصبحت مشغولًا بسؤال "كيف اكتسب هؤلاء قيم العمل والعدل واحترام الآخر؟ هل هي عطية ربانيّة؟ أم أنها خصال مكتسبة؟”.
عنّ لي أن أدخل في حوار مع مختلف قطاعات المجتمع سعيًا وراء فهمه وتحليله، أخذت أقضي أوقاتا طويلة في أستاربكس (القهوة المشهورة التي يعشقها الأمريكان، ويرتادها كبار السن من المعاشيين للمسامرة والقراءة) أحاور وأناقش كبار السن، مستفيدًا من خبراتهم ومعارفهم، ومستغلًا الفراغ الذي يعيش فيه معظمهم. كما أنّني عملت سائقا لسيارات الأجرة (تاكسي درايفر) فترة دراستي فوق الجامعيّة، وهو ما أتاح لي أن أتعامل مع كثيرٍ من شرائح المجتمع. كنت حريصا كل الحرص على تجاذب أطراف الحديث مع زبائني وطرح الأسئلة والاستفسارات عليهم (وغالبا ما كانوا يتجاوبون معي ويستمتعون بأسئلتي وملاحظاتي، بل أنّ كثيرًا منهم كان يُعبِّر عن سعادته بالحوار من خلال البقشيش المحترم الذي كانوا يضيفونه إلى تكلفة المشوار). ربما لن يصدق القارئ كمية ونوعية الحوارات التي أجريتها إذ أتيح لي أن أحاور أساتذة جامعات، رجال أعمال، رجال دين، سياسيين، نجوم هوليود، رياضيين، ربّات بيوت، ملحدين، يهود، شواذ، بل إن القائمة تشمل تجار المخدرات، وبعضا ممن يمارسون أنشطة ممنوعة قانونيًا. لا شك أنّني ممتن جدَّا لكل هؤلاء، لقد استفدت كثيرا من حواراتي معهم، لم يكن بوسعي لولا انفتاحي عليهم أن أستوعب ملامح المجتمع وأتبين ثقافته وأكتشف أمزجته.
في خضم محاولاتي لإيجاد خيوط لفك طلاسم المجتمع الغربي، وقفت على حديث نبوي شريف، مَّثل لي هذا الحديث مفتاحا جوهريا لما ورد فيه من وصف دقيقٍ لأهل الغرب، فقد ورد في صحيح مسلم وغيره عن موسى بن علي عن أبيه قال، قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس فقال له عمرو أبصر ما تقول، قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك."
من واقع تجربتي الشخصية، تبين لي أن ساستنا وعلماءنا ومفكرينا يعرفون القليل عن المجتمع الأمريكي، وأن ثقافتهم ثقافةُ سماعيّة لا تستند إلى دراسة ولا تتسلح بتحليل.
وهو ما يدفعهم للتساهل في إصدار الأحكام وتعميم الانطباعات السالبة عن الحكومة الأمريكية على كافة قطاعات المجتمع (وهذا منهج عوام).