الوقوف على أطلال الأحداث دوما ينبئ بعظمة الحدث، ويجعل المرء يسبح في عالم الخيال مستصحبا معارفه من التاريخ وأخبار الرواة والسّير، وبين مصدّقٍ ومكذّب تستبين معالمٌ وشواهد. فالأسماء التي ذُكرت على صفحات التاريخ تظل خالدة بالتداول والتناول، وبالحفظ المستمر المتبادل بين الرواة وقراء التاريخ، أما الأسماء القرآنية وهي التي ذكرها الله -جل شأنه وعلا- في كتابه الكريم؛ تظل تُردّد وتتردد في الأذهان والألسن صَباح مساء، فذكرها لم يكن إلّا للعبرة، والتفكُّر في مراحلها الزمنية، وتداعياتها من الأحداث وتفاعلاتها، ينبئ بحتمية صلاحها لبقية الأزمان المتعاقبة.
آل عمران...؛ حفظ الله لهم سيرتهم بسورة من كبار السور، وذكر قصتهم في أكثر من موضع آية، وحفظ تجربتهم بأن اختار من نسلهم مريم فسُمِّيت باسمها سورة مريم، ووصفها فيها، وبيّن حالها اصطفاءً وطهرًا وتفضيلاً على نساء العالمين، بقنوتها وسجودها وركوعها الإعداديّ لتحمل تكليف عجيب وآية عجيبة في الخلق، فوهبها ووهب البشرية جمعاء عيسي عليه السلام يمده بإذنٍ الإصلاحَ الروحي والجسدي وإحياء الموتى.
ارتبط اسم عمران عندي بقيم التوكل بعد الاصطفاء، فهم القوم المصطفون بوعد الله وإذنه، يُتوارث فيهم الصلاح بالنسل والمنهج "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)" سورة آل عمران.
فالموضع الاصطفائيُّ الانتقائي ما كان ليأتي إلا لرسالة محددة مبعثها الإصلاح، فبدأ بإصلاح العلاقة بين العبد في أضعف حالات الجسد والإرهاق والتعب لامرأة حبلى لا تدري من تحمل في بطنها، فتلجأ إلى الله بكل معاني التوكل والإخلاص، تنذر حملها لله وتوصد باب حظ النفس فاتحةً بابًا للتوكل وإخلاص النيّة، ثم لمّا جاءتها النتيجة، علمت أنّ كل الذي من عند الله خير، ولا تحجر على نفسها حرية الاستدراك فتناجيه، وليس الذكر كالأنثى، وبقيمة الرضا تسمي وليدتها (مريم)، هنا تعلمنا أم مريم مفهوم الرضا باستكمال الأسباب، ولا تنسى أن تعبر وفق الحدث لمرحلة جديدة في عمر الزمان المستقبلي، فتحدد الرؤية المستقبلية لوليدتها وثمرة صبرها "إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)" سورة آل عمران.
يأتي في مثل هذه المواقف الحوارية المباشرة بين الخالق والمخلوق جواب السؤال بأكثر ممّا تتمنى الأم لوليدتها "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا".
مريم ابنة عمران كانت سيرتها مشروعا عظيما، فوالدتها قيّمت وضعها بعد أن بيّنت رؤيتها بالنذر المحرر، وأكملت معايير الرضا وتحديد أهدافها المستقبلية بطلب القبول الربّاني وفق نسق يضمن لها التمييز، فكان القبول، والذي أعقبه الإعداد والتهيئة لميلاد مريم المشروع الحاضن لعيسى عليه السلام، فأنبتها ربُّها نباتًا حسنًا وكلّف مدير المشروع زكرياء، وله من الصلاحيات الكفلُ المعنوي، أما المّادي فقد تكفل به ربُّ العزّة من رزق يأتيها من حيث لا تحتسب، في تجسيدٍ ماديٍّ لمعنى التوكل الحقيقي على الله، ويُحمَد لزكريّاء مدير المشروع دورُه الإداري الناجح الذي ركز فيه على تنمية الدوافع ومعالجة الأحداث الناشئة، وصدّ الصدمات الخارجية وتعميق مفاهيم الانتماء، ولم يغفل عن المسائل المادية بل تقبل فيها بالبدائل، واستثمر في ذات الوقت الفرص، فهو يعمل نواقصه ومطلوباته ومعايير المطلوب، "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)".
وتظل سيرة آل عمران تحمل في طياتها كل تحديات المشاريع، فالتفاعل والتواصل لابُدّ له من اختلاف في وجهات النظر تحتاج إلى إعدادٍ مسبق، وفهمٍ متعمق لحجم المشكلة، ومن ثم الاستعانة بما يناسبها من تدابير.
أوّل هذه التحديات؛ سمعة القائمين على المشروع فهي أساس النجاح والقبول فبرغم كل النتائج الظاهرة بطفل محمول لا أما ولا أبا له، كان العاصم من القاصم سمعة ومعرفة الناس بخلفية أصحاب المشروع من صدقٍ وصلاح "يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)"، وهذه من تحديات أي مشروع قائم، لا يعالجها إلا المباشرة والشفافية والوضوح المبني على ثقة أهل المشروع بمشروعهم، وهو الذي جعل من مريم تشير إليه دونما تردد، وتستعد لكل النتائج رغم التشويش من الأطراف الخارجية "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)".
تتحدث المشاريع دوما إذا استمدت قوتها من معين روحيّ ودوافع إيمانية متشبعة بمفاهيم التوكل، والتي يكون حافز الوفاء بالنذر فيها محرّكًا لقيم ومراحل المشروع، يعضد من ذلك الكفالة الموفقة والصلاح القائم على رعايتها وإدارتها والثقة المنشأة بواقعية من تفاعلاتها الداخلية "فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)" والخارجية "يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)"، تجاوب على كل أسئلة المخاطر، وتواجه كل المشاكل بثقة عالية وتجردٍ والتزام "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)".
ويبقى نجاح المشروع رهينًا بأن يكون متفرّدًا، يشعر الجميع فيه أنه لهم، وهم جزء منه، فيه عنصر المعلومات حاسمٌ لبناء المواقف وتحديد الاتجاهات وصناعة الولاء واتخاذ القرارات "وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49)"؛ يحمل رسالة محددة، وله من التفاعل التنوع في معالجة المشاكل والقضايا العامة والخاصة، "وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ" وهنا تستبين رسالة المشروع في وضوح المهمة، بين ناظر ومنظور، وبين قيمة الفردانية بعلاج الأكمه، والمجتمع بإضافة عناصر جديدة أكثر قبولًا وصلاحا لذاتها ولمجتمعاتها.
ولئن كان قد انقطع نسل آل عمران المادي فقد بقي نسلهم المعنوي في ولاء أهل الرسالة، والقيمي في تعاليم المسيح السمحاء كالتسامح والتعاون والتآخي...إلخ، ويبقى آل عمران اليوم، حملة لمشعل العمرانيين ممن بارك الله في توكلهم، ونذروا الصالح للصلاح، بعدما انصلحوا بالصدق والتجرد وأصلحوا حالهم بكثير القيم، تعينهم على التعاون والعبور بالأمة الإسلامية إلى نهضتها، تعمّر الأرض بالقيم والمشاريع الناجحة التي تستحق أن يورث الله بها قوما صالحين ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) ﴾ سورة الأنبياء.