لستُ هنا لأكوّن منصة لتشريع الدين أو مقتضيه بكل ما يحمله الدين، فأنا لا آمنُ على ذاتي من فتن الدنيا وإن كنت أقعُ فيها وأطلب من الله المغفرةً دائماً، لكني لا أعاند في الصحيح ولا أخالف في الفروض بقدر المستطاع، ثمّ إنّنا جميعًا حتى وإن تغيرت مبادءنا لسنا مُعديين للدين وإنما شهوات الدنيا تثقل ما فينا وتقتل ما يصلح منا لنقابل به الله، لكن ما أود أن أجعل الجميع يتلقّاه هو أن لا نستهين بالأمر مهما صغر شأنه ولا نقلل من شأنِ أحدٍ مهما ظهر منه، فكم من مغمورٍ في الأرض مشهورٍ في السماء وكم من أشياء تبدو هيّنةً في أعيننا وهي عند الله عظيمة فلا تستهِنْ بأبسط الأمور ولا ترمي بنفسك في ما لا يستحق وابتعد قدر الإمكان عن أشباه الطرق، حتّى لا تتعدد عليك الطرق وتختلف مقاصِدُها فأفضلها الطريق لله، فلا تماري في ذاتك بما لا تستطيع تحمله فتقعد ملوماً محسورًا ولا تترك أهواءكَ للشيطان فتهلك، وأعلم يا صديقي أن الله دائمًا أقرب منك لذاتك فما تقرّب العبد إلى الله شبراً إلا تقرب إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليه ذراعاً تقرب منه باعاً، وإذا أتيتهُ تمشي أتاك هرولةً.
لكن اليوم أصبح الأمر أشدّ صعوبة على قلبي لما وصلنا إليه؛ أصبح الإسلام اسماً نسمعه فقط، أصبحنا لا نمتلك القدرة على الحفاظ على ما تبقّى من رسالتنا نتفاخر بموضة الغرب ونتقاضى بها في أمور حياتنا وننسى أنّ الله هو مَرجعنا ومُبتدأ رحلتنا
فقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيلَ: يا رسول الله! ومن الغرباء! قال الذين يصلحون إذا فَسَدَ الناس"، فأصبح الإسلام اليوم غريباً وإن كان المتمسّك به كالشاذ في وطننا هذا، وأنا هنا لستُ بصدد إلقاءِ اللوم على أحد، واختلف الناس في مستوطنات الحكم فأضحت مظاهر الدين دعوة للإرهاب ومقصداً مباشرًا للجماعات المتطرّفة، وأضحى التعفف مرض وصار الحجاب ظاهرياً والربا موضع تعاملنا والتفاخر والتباهي بالأنساب والألقاب محطة تفكيرنا.
ولو نظرت للصورة بشكلٍ كامل لوجدت أن من أهدر الدين فعلاً هو كلُّ من حمل رايته، لقد اختفى علماء الدين عن الساحة بعد أن اتجهوا إلى السياسية، وأفكارهم أصبحت ممزوجة بأهوائهم فأمسى الحديث عن الدين محصور في الأشياء التي ليست لها قيمة، ولا أقصدُ من هذا التغاضي عن أهميتها لكن هناك أمور أعظم أشدُّ.
منذ عدة أيام، شاهدتُ مقطع فيديو لأحد علماء الدين يبكي بشكل هستيري من أجل ممثلة خلعت الحجاب ويحكي مقتطفات من حياتها،بينما في الجهة الأخرى من العالم تُقصفُ غزّة على مرأى الجميع فصارت قضايا أمّتنا منغمسة في ذاك وذاك، وصارت مواضيعُ خطبة الجمعة موجهة و الآذان محدد، حتى القرآن ارتبط بالحزن فقط، وعند الحديث عنه تشعر وكأنك إنسانٌ معدوم القيمة، فصار الإسلام وكأنه غريباً لذا لا ألقي باللوم على من يستقبل الرسالة طالما كان من يرسلها لا يهتم بمحتواها بل يسعى من ورائِها إلى التضليل.
فقد صدق الله سبحانه وتعالى حين قال: "فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ".
فهذه الآية تدل دلالةً قطعيةً على أنَّ الناجينَ منّا قِلة، وعلى أنَّ المستقيمين قِلة، وعلى أنَّ الطائعينَ قِلة، فإذا وجدتَ نفسكَ في عصرٍ ما مع القِلة الطائعة بعيداً عن الكثرة العاصية، مع القِلة المنيبة بعيداً عن الكثرة المعرضة، مع القِلة المتبّعة لسنة النبي -عليه الصلاة والسلام-بعيداً عن الكثرة التائهة والضالّة فإنك يا صديقي أصبحت من الغرباء!
في عصرنا هذا صار الغريب هو المتمسك بدينه، وأصبح المنعم الفقيه الذي يفهم علوم الحياة هو من يستطيع التعامل مع جميع الأجناس بلا حدود أو قيود زاعِمًا أنّ الدين مغلقاً، وليس من الضروري التمسك به فلكل عصر دينه!
وكل ما أخشاه أن تكون هذه الأفكار عقيدتنا وموصل فكرنا، وهذا ما ذكرني بكلام رسول الله الأخير في "خطبة الوداع" أنه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، وقد قال:
"أيّها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً...
ألا هل بلغت... اللهم فاشهد.
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه – ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
فلا ترجعن بعدى كافراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه...
ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى
ألا هل بلغت... اللهم فاشهد.
قالوا نعم... قال فليبلغ الشاهد الغائب.
أتمم رسول الله رسالته بوصيته على النساء خيراً ولهم على رجال أمتنا حقاً، ونهى رسول الله عن الفواحش والزنا ولم ينسى أن يطلب منا أن نحفظ على فروجنا ونحمي ما تبقّى من عقيدتنا، وأكّد على أننا جميعاَ إخوة متحابين مهما اختلفت مناسكنا ومذهبنا، مهما اختلفت طريقة صياغتنا للحياة، فلو لم يختلف الناس لهلكوا...
ثمّ أكد على رفض العنصرية وتفضيل أحدٍ على أحد، فكلنا لآدم وآدم من تراب، مؤكداً في نهاية رحلته أنه لن نضلّ بتمسكنا بكتاب الله وسنّته عليه أفضل الصّلاة والسّلام...
ها قد ترك لنا رسول الله رسالة، فمهما اختلفنا فلابدّ أن نتّفق عليها، فلقد مات رسول الله ولم تمُت رسالته؛ ترك فينا ما لابد أن نتمسك به... "فاستقيموا يرحمكم الله".