التقاء السيرورة التاريخية بالحتمية النصية
إن الحكم على الأحداث التي تتعلق بالأمم سيكون قاصرا مجانبا للصواب حين يقاس بمقياس عمر الإنسان القصير، ويكون دقيقا قريبا من الحقيقة حين يقاس بعمر الأمم وتطور أحوالها عبر الزمن.
إننا حينما ننظر إلى الصورة المعبرة عن حال الأمة وهي جامدة في اللحظة الراهنة سيصيبنا كثير من اليأس والإحباط وقد يصيبنا الشلل ونفقد الرغبة في العمل ومواصلة مسيرة الإصلاح لعمق المآسي التي حولنا وهول الفتن التي تُصبّ على أمتنا وقوة الصّادّين في طريقنا والمخاطر التي تحوم على القدس ومقدساتنا، ولكن ما إن نُحوّل النظر نحو الصورة وهي متحركة عبر شريط الأحداث في الزمن سيزول اليأس وتُفتح آفاق الأمل، ويحصل اليقين في أننا نزيد ولا ننقص، ونتقدم ولا نتأخر، فتشتد العزائم وتنطلق الخطى بثبات وسداد نحو استكمال رسالة الإصلاح والتغيير في الأمة وفق متطلبات جديدة يكشف عنها ذلك الشريطُ المتحرك.
إن هذا التطور في سيرورة الحركة الإسلامية عمره قرن من الزمن، بدأ منذ نهاية عشرينيات القرن العشرين حين ظهرت هذه الحركات على إثر تهاوي الخلافة الإسلامية التي سبقها تراكم التراجع الحضاري الذي دام ثلاثة قرون.
لو تفكرنا في حال الأمة قبل قرابة قرن من الزمن، بل قبل سبعين، ستين، خمسين، أربعين سنة، سنتذكر أن الأمة كلها كانت تحت الاحتلال، وكانت شعوبها غارقة في الجهل والغفلة والشعوذة والفقر والاستسلام والخضوع والخنوع، وكانت نخبها القليلة المتعلمة مستلبة حضاريا مدمجة في ثقافة الأجنبي الغالب، لا ترى لأوطانها من خلاص إلا بمعاداة الإسلام أو تحريفه أو ركنه بعيدا عن الحياة في زوايا المساجد والمقابر. أذكر جيدا أننا حينما انطلقنا في الدعوة إلى الله في الجزائر في منتصف السبعينيات كانت المساجد كلها خاوية لا يَؤُمها إلا عدد قليل من كبار السن، وكان اقتراف المعاصي وشرب الخمر عند الكثير من الشباب والكهول "رجولة" والعياذ بالله، وكانت المرأة إذا أرادت أن تدرس أو تعمل عليها أن تنزع "الحايك"، وكانت التيارات الشيوعية اليسارية هي المهيمنة في الجامعات وكانت المجاهرة بالفساد، بل الإلحاد، والاعتداء على التدين والاستهزاء بالمتدينين هي السائدة في الجامعات والإدارة، وفي الشأن السياسي لم يكن مسموحا البتة أن ينافس الإسلاميون على الحكم في أي مستوى من مستوياته، بل لم يكن معترفا بوجودهم، وفي أغلب الدول لم يكونوا موجودين فعلا في المجال السياسي..
ولو نظرنا إلى حال القضية الفلسطينية التي هي بوصلة الأمة، ومؤشر الحياة أو الموت فيها، لتذكرنا سهولة مغادرة الشعب الفلسطيني لأرضه وتشتته خارج دياره في بداية الاحتلال الصهيوني، وانهزام الجيوش العربية كلها أمام الغطرسة الصهيونية وتراجع النضال الفلسطيني واعتراف قادته بالكيان الصهيوني..
أما اليوم، فإن الدول الإسلامية كلها مستقلة، وقادت كفاحها ضد المحتل باسم الإسلام، وشعوبها كلها رجعت إلى التدين وأضحت تعتبر الإسلام هو المخلص من كل مآسيها، وأضحت النخب المتعلمة في عمومها ملتزمة بهويتها لا تكاد تجد فيها مجاهرا بالدعوة لترك الإسلام من أجل التحضر، ومن يفعل ذلك تكون الردود عليه قوية جارفة من عموم الناس ومن أقرانه من أصحاب الشهادات العليا، وأصبحت المساجد عامرة بالمصلين من كل الأعمار وبخاصة الشباب، وهذه وزارة الشؤون الدينية الجزائرية تعلن أن إحصائياتها تبين أن 20 مليون جزائري يَؤمون المساجد كل صلاة جمعة وإذا اعتبرنا أن النساء غير مأمورات بصلاة الجمعة وأن تعداد الجزائريين 40 مليونا فإن أغلب الجزائريين يصلون، وأما عن الحجاب، فإن التقديرات تشير إلى أن 85 بالمائة من النساء الجزائريات يرتدين الحجاب، وأما عن التعامل المالي، فإن دراسة للأمم المتحدة أكدت أن أغلب الشعوب العربية تفضل التعامل مع البنوك الإسلامية لو يتاح لها الاختيار، ولو بمصلحة أقل مما في البنوك الربوية، وتأتي الجزائر من الدول الأولى في هذا الإحصاء.
وفي الشأن السياسي، أصبح في كل دولة أحزاب إسلامية هي الأقوى والأكثر انتشارا، وهي القوى الوحيدة المنافسة للأنظمة الفاسدة والمستبدة، في حين سقطت كل الأحزاب والتيارات الأخرى ولم يصبح لها وجود فعلي، وما من انتخابات في أي بلد عربي أو إسلامي تكون حرة ونزيهة إلا وينجح فيها الإسلاميون، ورغم القمع والتزوير والتضييق وصعوبة المنافسة السياسية، استطاع الإسلاميون أن يبقوا موجودين بمستوى تنافسي عال جدا، وقد تنوعت تجاربهم السياسية بين المشاركة والمغالبة، وكل محاولات الاستئصال لم تجد نفعا، وأصبحت لهم مساهمات مشرفة في أقطار عدة، وتجارب سياسية رائدة على مستوى المجالس المنتخبة المحلية والمركزية وفي الحكومة.
وحتى الحكومات التي تعاديهم وتتوجس منهم أصبحت تلبس لبوس الدين في خطابها وتمظهرها حتى تقبلها الشعوب، بل لقد وصل الإسلاميون إلى الحكم واستقروا فيه في البلاد غير العربية على رأسها تركيا التي أصبحت دولة صناعية عالية التطور وقوة إقليمية يحسب لها حساب، إلى جنب دول أخرى قامت على أساس الانتماء الإسلامي هي من الدول الصاعدة في العالم، كماليزيا وإندونيسيا وباكستان، دون أن نغفل الدولة الإيرانية على ما بيننا وبينها من خلاف، إذ هي دولة تقوم على أساس الفكرة الإسلامية كذلك. أما عن القضية الفلسطينية، فإنه رغم المخاطر الكبرى التي تحيط بها، انقلبت معادلة الرعب والشك في المصير، إذ أصبح الإسرائليون هم الذين لا يثقون في إمكانية بقائهم في المنطقة، وكل مخططاتهم هي من أجل إطالة أمد دولتهم فحسب، وقد تحقق ذلك بفعل الصمود الفلسطيني عموما ووعي هذا الشعب بالنسبة إلى ما كان عليه أثناء الاحتلال، وبما أنجزته المقاومة في غزة وأخيرا في الضفة والقدس رغم التنسيق الأمني والمحاولات الطويلة لمسخ الإنسان الفلسطيني من خلال استراتيجيات دايتن، وآخر الإنجازات التي أرعبت الإسرائيليين أكثر من خوضها لحروب مسيرات العودة التي جعلت الصهاينة يدركون قدوم زمن الخروج من الديار التي احتلوها لا محالة..
إن هذا التطور في سيرورة الحركة الإسلامية عمره قرن من الزمن، بدأ منذ نهاية عشرينيات القرن العشرين حين ظهرت هذه الحركات على إثر تهاوي الخلافة الإسلامية التي سبقها تراكم التراجع الحضاري الذي دام ثلاثة قرون، بدأ الشعور بخطورة المرحلة مع صيحات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ثم جاء مفكرون وعلماء ودعاة أبرزهم حسن البنا ثم الشيخ المودودي والشيخ ابن باديس ومالك بن نبي وعلال الفاسي وعبد الكريم الخطابي والشيخ النورسي وغيرهم، حددوا الاحتياج وجددوا الفكر وأنشؤوا تنظيمات وتركوا تلاميذ ودعاة أنتجوا صحوة إسلامية في العالم العربي والإسلامي وصلت مشارق الأرض ومغاربها.
يتبع...