استضافت الصفحة الرسميّة لمشروع عمران على فيس بوك الدكتور وائل الشيخ أمين، شخصية شبابية لها إسهامات في الجانب الفكري والبناء القيادي للشباب، هيّ جلسة فكرية ناقشت موضوعًا مهمًا "نقد الحضارة الغربيّة" بنظرة موضوعيّة، وذلك يوم الخميس 21 ربيع الأول 1440هـ / الموافق لـ 29 تشرين الثاني 2018م. (لمشاهدة الجلسة كاملة هنا)
عمران: قبل أن نبدأ في موضوعنا، نتشرّف أولًا بالتعرف عليكم، من هُو الدكتور وائل الشيخ أمين؟ وكيف وُفقتُم في الجمع بين تخصصكم العلمي واهتمامكم بالجانب الفكري؟
د. وائل الشيخ: شكرًا جزيلًا على هذه الدعوة، أنا حاصل على ماجستير في طب الأسنان التجميلي، أما فيما يخص التوفيق بين التخصص العلمي والاهتمام الفكري، فإنّ كلّ من يهتم بقضايا أمته تكون هذه الأمور حاضرة لديه.
في الفترة الأخيرة خاصةً بعد الربيع العربي، زاد عدد المُهتمين بالسياسة والفكر، نظرًا لوجود تأثير كبير للفكر على الواقع، كنّا نظن أنّنا كمُسلمين نملك الفكر الصحيح – ونحن كذلك- لكن بعدما بدأ الإسلاميون تطبيق هذا الفكر في الواقع، كانت النتائج مخيبة للآمال بكل أسف، فصار الاهتمام بأثر الفكر على الواقع، وكيف يُنتج الفكرُ واقعًا ويُغيّره ويُؤثر فيه، ومن المواضيع التي هممت في دراستها "الحضارة الغربية" باعتبارها أحد النماذج الأقوى والتي تُسيطِر على العالم.
عمران: نتفق كون جِذْر مُشكلتنا "الفكر"، وعندما يُقوَّم ويُصَحَح تحدّث الكثير من التحولات الإيجابية، ماذا نعني بنقد الحضارة الغربية؟ ولماذا ننقدها؟
د. وائل الشيخ: يظن الكثيرون أنّ تناول موضوعٍ ما بالنقد، يعني أنّنا نُشيطنه ونطعن فيه وننتقص منه ونركز على سلبياته، لكن.. ليس هذا هو النقد، النقد هُو إعمال العقل والتريث في الحكم، فليست الغاية من نقد الحضارة الغربية أن نتباهى بالقول "نحن أفضل منهم"، فهذا لا يحتاج إلى تدليل، غايتنا أن نفهم هذه الحضارة المسيطرة، والفهم الأكبر سيُعيننا على الحُكم الأفضل، فالحُكم عن الشيء فرعٌ من تصوره، بعد الفهم والحُكم سنجد الطريقة الأفضل للتعامل مع هذه الحضارة التي نعيش تحت تأثيرها القوي شئنا أم أبينا، مثل ذلك أنّ أكثر قراءات الشباب المثقف المهتم اليوم بدراسة التغيير والعلوم الإنسانية وغيرهما، هي قراءات للعلوم الإنسانيّة الغربيّة، لأنّ مُعظم الإنتاج البشري في هذه المجالات إنتاجٌ غربي، المشكلة في أن نصير وعاءً يستقبل كل ما يُلقى فيه، فنصبح بذلك جزءً من تلك الحضارة، لكن إن أردنا الاستفادة منها حتى ننهض بما يتوافق مع ديننا وقيمنا فعلينا أن نتعامل معها بعقليّة ناقدة.
عمران: حبذَا لو نُحدد تعريفًا للحضارة؟
د. وائل الشيخ: من سنة سعيت إلى تأليف كتاب عن "الحضارة" ولم يتيّسر ذلك، بحثت كثيرًا في تعاريفها، وهي كثيرة وأغلبها مُعقد، يتفق العلماء أنّ الحضارة فكرٌ تحمله أمّة فيتجلّى بصورة مادية ومعنوية في الواقع.
عمران: إذن، نتفق كون العمران المادي لوحده لا يُعتبر حضارة؟
د. وائل الشيخ: لا شك، العمران المادي عادةً يكون ناتجًا عن ثقافة معينة، إما أن تكون ثقافة حضارية، أو متخلفة، كما قد يكون العمران المادي نتيجة لحضارة غربيّة، تُوجد بعض الدول التي تُشيد عمرانًا ماديًا هُو في حقيقته أثرٌ تابعٌ للحضارة الغربيّة.
عُمران: هل للحضارة الغربية "نموذجٌ فكري" ؟ كيف نفهم هذا النموذج الذي بُنيَت عليه؟
د. وائل الشيخ: نتحدّث عن حضارة عمرها ألفين وخمسمائة سنة على الأقل (25 قرنًا)، فلا بد من تبسيط النموذج الفكري الذي بُنيّ عليه هذا الواقع، وهو مُكوّن من ثلاثة مستويات.
بدايةً، علينا أن نُشرِّح العقل الغربي الذي أنتج هذا الواقع:
1- نظرته للوجود عامةً: كيف ينظر إلى وجود ذاته؟ من هو؟ من أين أتى؟ أين سيذهب؟ وما هي غايته؟ وهو ما يسمى في الفلسفة بمبحث "الوجود" الأنطولوجي.
2- هل يستطيع هذا العقل الوصول إلى أية حقيقة؟ وهذا ما يُسمى في الفلسفة بنظرية المعرفة "ابستمولوجي".
3- مبحث القيم "أكسيولوجي": المبحثان الأوليّان يختصان بفهم الوجود فهمًا لا حُكمًا، أما هذا المبحث فيهتم بالبحث عن كيفية تعامل الإنسان الغربي مع الواقع.
رغبةً في التبسيط لن نتحدّث عن عصور الظلمات، لأنّها لم تأثر كثيرًا في العقل الغربي والواقع الذي نراه الآن، حتى الغربيون يرون أنّ حضارتهم اليوم هي امتدادٌ للحضارة الإغريقية لا المسيحية التي كانت موجودة فيما يسمونه العصور الوسطى، رغم أنّ هذه الأخيرة امتدت لقرون.
نبدأ بالتصورات، أيّ أسئلة الوجود ونظرة الإنسان الغربي للصراع:
1- العقل الغربي صُنع ابتداءً في المرحلة الإغريقية واستأنف ذلك الآن، هو ينظر للوجود على أنّه مادة، كل ما هو غير مادي يُسمونَه ما ورائي أو ميتافيزيقي ولا يؤمنون بوجوده أصلًا مثلًا: الله ، الملائكة، الجن..، لذلك هم اليوم يعتبرون الفيزياء "علم المادة" أُمًا للعلوم، لأنّها أكثر العلوم قابليةً للضبط.
2- يرون أنّ هذا الوجود ليس هناك ما هو بعده، أي لا يُؤمنون باليوم الآخر، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، فالحياة هيّ فترة يحيون فيها ثمّ يفنون، هذه من أهم التصورات، وسنرى أنّ كل ما بعده تَبَعٌ له، يقول علي عزت بيجوفيتش أنّ " مشكلة كلّ فلسفة في أسّها –بدايتها- ".
عمران: عفوًا دكتور، إذا كانت الحضارة الغربيّة مبنيّة على هذه التصورات، فهذا يعني أنّ المسيحيّة والكنيسة ليس لهما أي دور رغم وجودهما؟
د. وائل الشيخ: نعم بالضبط، سأجيب على هذا لاحقًا، الذي يهمنا الحضارة الغربية القائمة الآن، والتي لم يؤثر فيها الدين المسيحي، وإن كان مؤثرًا فأثره يقتصر على ردة الفعل الهائلة التي ولدها، سببت فيما بعد عصر النهضة.
في التصورات الغربيّة نتحدث أيضًا عن طبيعة علاقة الإنسان بهذا الوجود المادي، أفضل من عبر عن هذه العلاقة أسطورة "بروميثيوس" الإغريقية المُسماة بالأسطورة العلمانية الكبرى لأنّها تُجسد تمامًا هذه النظرة، وهي تقول أنّ كبير الآلهة "زيوس" أراد أن يخلق الإنسان، فذهب إلى آلهة أخرى أصغر منه يُسمى ""بروميثيوس" وطلب منه أن يفعل ذلك، اهتم "بروميثيوس" بخلق الإنسان وأتقنه إتقانًا عاليًا، وهذا ما أغضب "زيوس" الذي لا يُريد وجود كائن متطوّر لهذه الدرجة، فسرق منه "بروميثيوس" شعلةً من النار وأعطاها للإنسان من أجل أن يتدفأ بها ويتغذى والأهم أن يستنير في الليل، ظلّت هذه الشعلة رمزًا للاستنارة وهي تظهر اليوم في الأولومبياد مثلًا، انتقم "زيوس" من "بروميثيوس" حينما عرف بذلك، فكبّله في أعلى الجبل وأتى بنسر ليأكل من كبده، الذي كلما أنهاه، ظهر مرةً أخرى إلى ما لا نهايّة.
ماذا تقول الأسطورة؟ تلك الشعلة رمز الاستنارة هيّ أهم ما يملكه الإنسان، ويُعبرون عنها بالعقل، وزيوس هو رمزٌ للطبيعة، أيْ أنّ العلاقة بين الإنسان والإله هي علاقة صراع، لأنّ الإله لا يُريد للإنسان الفهم والاستنارة، كما أنّ العلاقة بين الآلهة صراعٌ أيضًا.
إذن، يرى العقل الغربي أنّ طبيعة جميع العلاقات هي "الصراع"، مثال ذلك حديثهم عن تقدم المجتمعات، جاء كارل ماركس بنظرية "صراع الطبقات" وجاء فوكو ياما بنظرية "صراع الحضارات"، كذلك داروين الذي تكلم عن التطور وسماه "صراع الأنواع"، ثمّة كتاب جميل لروبرت غرين "ثلاثة وثلاثون إستراتيجية للحرب"، الذي يمهد لك في بدايته أنّ علاقتك بكل ما هو حولك علاقة صراع.
السؤال الآن: كيف ينظر الإنسان الغربي إلى المعرفة والحقيقة؟
ينفي العقل الغربي وجود حقيقة موضوعية غير خارجة من ذاتنا، وينفي قُدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة، لأنّ وجود الحقيقة يعني وجود إله حاكم مطلق متجاوزٍ عنّا، ممّا عزز هذا نظرية داروين التي أثرت على العقل البشري عُمومًا والغربي خصوصًا، لماذا؟ لأنّ داروين يرى أنّ الإنسان جاء صدفةً وبالعشوائية، كلّ الكائنات الحيّة جاءت من خلية حية كانت موجودة قبل ملايين السنين، تكاثرت وأوجدت الكثير من الأنواع المتصارعة فيما بينها، بقيّ الأصلح منها، وتطورت عشوائيًا حسب الظروف، هذه النظرية أفقدت الثقة بالعقل الذي تراه مُجرد صدفة لا منحة إلهية، وهذا ساهم في انتشار فكرة "العنديّة" التي ظهرت قديمًا عند الإغريق السفسطائيين.
المشكلة الأكبر في نظرية المعرفة هيّ النسبية، لم يعدّ هناك شيء مُطلق، لا حقائق ولا أخلاق، كان لذلك عدّة سلبيات خصوصًا في اعتبار القيم نسبية، لكن ساهم أيضًا في عدم تقديس الإنسان الغربي لأي شيء، وهذا ما أتاح له الإنتاج والتجديد والإبداع.
كتاب "صراع القيم" لرضوان زيادة وكيفيه جيه أتول تناول الفرق الأساسي بين القيم الإسلامية والغربيّة؛ الأولى مُطلقة ما تساعد على الثبات والتحلي بالأخلاق والمحافظة على فطرة الإنسان حسب رضوان زيادة، أما القيم الغربية فنسبية، حيث يرى الأمريكي كيفيه أتول أنّ نسبيتها ساهمت في الإبداع والتجديد والتقدم.
بعد هذه المقدمات، نتساءل عن القيم المسيطرة على الفكر الغربي، القرار الذي اتخذه الإنسان الغربي ليتعامل مع هذا الواقع مبنيٌ على قيم تنطلق من التصورات السابق ذكرها:
1- تقديم المُتَع الحسيّة لاعتبار الحياة ماديّة والإنسان مادة، أما الأمور الروحية والدينية لا تلقى حيزًا كبيرًا في اهتماماتهم، لذلك طغت الشهوات: السياحة والجنس والاستهلاك الذي قد ينفرد كقيمة لحاله، لأنّه تضخم وصارت قيمة الإنسان في قيمة ما يشتري وما يركب وما يلبس.
2- سيطرة المنفعة والمصلحة: لذا من أكثر الفلسفات التي أثرت على العقل الغربي الفلسفة "البراغماتية"، حيث نقلت السؤال المعرفي من هل هو صحيح؟ إلى هل هو مفيد؟ أدى هذا إلى سيطرة سؤال الكيف (كيف نكون أقوى؟ كيف نستفيد أكثر؟ ) على العقل الغربي بدل سؤال الأخلاق أحقٌ أم باطل، ما أدى إلى انحسار الدين والأخلاق، لكن ساهم هذا في تطور العلم، على سبيل المثال: أصبح تقييم النظريات العلميّة حسب ما تحقق من إفادة لا حسب صحتها.
نحن كمسلمين، لدينا سؤال الصحة أهم -لا شك- من سؤال الجدوى، لكن كثقافة فقد أفرطنا! فصار من المهم أن نعمل ما هو صحيح، ومن غير المهم أن نحصل على نتيجة.
عمران: دكتور، تقصدون أن يكون التركيز على الأجر والأثر معًا؟ لا التركيز على الأجر فقط؟
د. وائل الشيخ: تحقق الأثر يُضاعِف من الأجر، الخلل في أن نرى أنّه من المهم أن نسير في طريق الحق ولو عرفنا ابتداءً أنّه طريق مسدود سيؤدي إلى الكوارث، ولا نسير في طريق فيه حق بنسبةٍ أقل وجدوى أكبر، خصوصًا في العمل السياسي.
عمران: رغم أنّ هذا يتناقض مع موروثنا الفقهي الذي يحثنا للتركيز على الأثر؟
د. وائل الشيخ: صحيح، أين تجد المصلحة فثمّة الشرع، لكن مشكلة الكثيرين في فهم الدين.
سؤال الدين أيضًا، تجاوزوا هل هو صحيح أم لا؟ قال ديفيد هاوكينز الذي يعتبر "نبي الملحدين" :(( نحن أمامكم نتحدث هل الدين صحيح أم غير صحيح؟ هل الله موجود؟ لكن.. في الغرف المغلقة نتناقش هل نحتاج الدين في حياتنا؟ )) هم بذلك لم يجعلوا الدين حَكَمًا في الثقافة الغربية، بل مُجرد أداة.
عُمران: تحدثنا عن قيمتي المتعة الحسيّة والمصلحة، ما هي بقية القيم السائدة في الثقافة الغربية؟
د. وائل الشيخ: القيمة الثالثة والأخيرة "القوة"، باعتبارها تحقق ما سبقها، كلما كنت أقوى أصبحت أكثر قدرةً لعيش الحياة التي تُريدها، الفيلسوف نيتشه الذي تحدّث عن موت الإله، ورأى الرحمة خلق الضعفاء الذين اخترعوه ليحنّ عليهم الأقوياء، من أشهر كتبه "هكذا تكلم زرادشت" والذي اتخذه هتلر كتابًا مُقدسًا، فكانت أفعال هتلر هي التطبيق العملي الحقيقي لما قاله نيتشه، من ذلك تصنيفه لبعض الناس إلى فئة "أفواه تأكل ولا تُنتِج" ثمّ قتلهم بدافع فكري لتكون الدولة أقوى لا بدافع الكُره والحقد.
أنهينا النموذج الفكري للعقل الغربي، أولًا من حيث التصورات يرى أنّ الوجود مادة، وطبيعة العلاقات الصراع. ثانيًا نظرته لنسبية المعرفة، ثالثًا وأخيرًا القيم الثلاثة الحاكمة، المتعة الحسية والمصلحة والقوة.
عُمران: فضلًا، قبل الانتقال إلى المحور الأخير، بينما نحن نتحدّث عن أساسات الحضارة الغربية يتساءل أحد المتابعين، هل ترون أن الحضارة الغربيّة على خَطر الانهيار بسبب أساساتها الفاسدة، حيث جعلت المادة مرتكزًا أساسيًا ومُنطلقًا؟
د. وائل الشيخ: رُبما، لكن الأمر صعب، نحن كمسلمين لا نريد أن تسقط الحضارة الغربية، بل نرغب في أن تكون صحيحة، بإدخال الجانب القيمي لأنها حضارة على مستوى عالٍ من الفاعلية والإنتاج، وإن كنّا لا نتوقع حدوث ما نرغب، بسبب أساساتها القائمة على عكس ذلك. هل يعني هذا أنها ستنهار؟ لطالما القوة العسكريّة موجودة، فهذا صعب، لكن ستزيد حدّة مشاكلهم.
عمران: كيف تجلّى النموذج الفكري في الواقع؟
د. وائل الشيخ: من التجليّات التطور العلمي؛ كان نتيجةً للنسبيّة التي حررت العقل للمزيد من البحث، إضافةً إلى أنّ الوجود المادي أدى إلى مادية المنهج العلمي، الذي رغم قصوره يظّل أفضل ما أنتجته البشريّة، لكن المشكلة الأكبر: على ماذا صار يُركز العلم؟ سعادة الإنسان الحقيقية أم غير ذلك؟ ركز العلم على الجانب المادي وقد حقق ترفًا ونجاحًا كبيرًا أدى إلى راحة الإنسان الجسديّة، ركز أيضًا على الربح، أن ينتج ما يُمكن أن يُسوَق ويُشترى.
ثانيًا، الديمقراطيّة والنُظُم السياسيّة، بما أنّ طبيعة علاقة الإنسان مع ما حوله هي الصراع، وأنّ الجميع جاء بصدفة وعشوائيّة، ولا شيء يُميّز أحدًا عن الآخر، وبما أنّه لا وجود لحقيقة مُطلقة يدين لها الجميع، فالأفضل أن يتفقوا على حقيقة ما، شرط أن تكون مُفيدة، فجاءت فكرة الديمقراطية للبحث عمّا نتفق عليه، حيث ترى أنّه من غير المهم البحث عن الخيار الأصح والأفضل، بل صار الأفضل فيما تراه الأغلبية، ودُون وجود قيم مطلقة أصبح كلّ شيء قابلًا للتفاوض حتى إنسانيّة الإنسان وفطرته، فأصبحت المشكلة أنّ صاحب القرار ليس من يمتلك الحق بل من يمتلك القدرة على التأثير الأكبر.
التجلّي الثالث هُو الجنس، كيف ينظر له الإنسان الغربي؟
بناءً على ما ذكرنا من مقدمات، الإنسان مادة والحياة لا حساب بعدها، الجنس البشري جاء صدفةً وبالتالي كلّ إنسان مُخيّر في حياته "اختر لنفسك"، هذه من الأسباب التي أدت إلى انتشار عدّة ظواهر منها: تغيير الجنس والمثليّة، وقد تنبأ د. عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- بتقنين هذه الظواهر فيما يُسميه "المتتاليّة العلمانيّة".
أخيرًا، إنّ الكثير من الكتب الغربيّة تزعم عرض أفكارها من منطلقٍ موضوعيّ وحيادي وهيّ غير ذلك، يستندون على يقينيات مُطلقة وقبليّات موجودة في العقل الغربي، لذا، يجب على القارئ المُسلم أن يعي أنّهم ينطلقون من تلك القبليّات قيمًا وتصورات، يجب أن يُشغل العقلية الناقدة حتى لا تتسرب إلى نفسه تلك القيم دُون أن يشعر، ثمّ تترجم إلى سلُوك، فيعيش كالإنسان الغربي.
إذن، أسّ الفكر الغربي ومُشكلته هو تصور عدم وجود إله، ونهايته القضاء على إنسانيّة الإنسان الغربي وفطرته، يذكرنا هذا بقوله تعالى: { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}، أدت هذه التصورات إلى ميوعة ونسبيّة القيم، إضافةً إلى جملة من التجليّات الآنف ذكرها.
عمران: جزاكم الله خيرًا دكُتور، مضّت ساعة من المتعة الفكريّة، التي خلصنا فيها إلى جوهر وحقيقة الفكر الغربي وآلية تعاطينا معه، يسأل أحد مُتابعينا: هل من الممكن أن يشهد ذاك الفكر صحوةً تساهم في تصحيح مساراته وتُعيد له إنسانيته؟ هل من بوادر؟
د. وائل الشيخ: لا أعتقد لعدّة أسباب، وهم في حاجة إلى وجود حضارة أخرى دافعة تقوم بذلك، لأنّه من الصعب تغيير القناعات القبلية التي ينطلقون منها، إضافةً إلى أنّ صُناع القرار في الغرب من الأثرياء وأصحاب الشركات العابرة للقارات لن يُرضيهم أن يتخلى الإنسان عن تلك التصورات الماديّة، والله أعلم.
عمران: دكتور، لماذا لا يهتم مفكرو الأمّة بنقد الحضارة الغربيّة وإظهار ما يُكمّلها من التصورات الإسلاميّة؟
د. وائل الشيخ: هذا عملٌ واجبٌ عليهم، مشروع "أسلمة المعرفة" للدكتور المسيري وفريقه اتخذ من ذلك غايةً، إلّا أنهم لم ينهوه بعد، وقد ظهرت عدّة اجتهادات لكنها إلى الآن قليلة، لماذا؟ لأنّ العقلية الفلسفية الناقدة عند الإسلاميين ضعيفة جدًا، وتتسم نظرتهم للأمور بالسطحية، وهذا ما تُؤكده ندرة الفلاسفة الناقدين.
عمران: يتساءل متابعٌ آخر، هل نجد قيمًا مشتركة بيننا والغرب؟
د. وائل الشيخ: للوهلة الأولى سنقول نعم دون أدنى شك، لأنّ القيم تصلح أن تكون للجميع، الاختلاف القيمي يأتي من أمرين: ترتيب القيم؛ أي ما هي القيم التي تُقدِمُها؟ مثلًا: الحرية الفردية أم مصلحة المجتمع؟ أيضًا، تفسير القيم؛ كاختلاف نظرتنا حول قيمة "القوة"، تُوجد تقاطعات في هذه التفاسير، لكن كلّ قيمة ناتجة عن تصورٍ مُختلف.
عمران: ختامًا دُكتور وائل، بماذا تنصح الشباب المُتطلع لنهضة الأوطان والأمّة فيما يخص الجانب الفكري؟
د. وائل الشيخ: من يرغب في تغيير الواقع، ينبغي عليه أن يبدأ بفهمه أولًا، بأن يقرأ في مجال العلوم الإنسانيّة باعتبارها وصفيّة لا معيارية، ثمّ يدرس الحضارات، كيف قامت؟ كيف تسقط؟ ما أثر الفكر على الحضارة؟ ومن الضروري معرفة القيم الإسلاميّة الأساسية وطبيعة العلاقات بين الإنسان وغيره.
عمران: بوركتم دكتور، نسأل الله أن ينفعنا بعلمكم، وندعو الشباب المسلم للاهتمام بصناعة نموذج فكري إسلامي ينطلق من التصورات الإسلاميّة مرتكزًا على قيمنا الأصيلة، ليتجلّى ذلك في واقعنا.