في ظل الظروف التي تمر بها الدائرة الأولى (الأرض المقدسة: بيت المقدس)، والدائرة الثانية (الأرض المباركة: مصر وبلاد الشام وقبرص)، والدائرة الثالثة (المشرق الإسلامي: العراق والحجاز وتركيا)، هنالك حاجة ماسة إلى لفت الانتباه إلى نكبتنا المعرفية والأولوية المنسية (الإعداد المعرفي). ولهذا تهدف هذه الورقة إلى التذكير بنكبتنا المعرفية وحاجتنا الماسة إلى تحرير العقول والإعداد المعرفي، الذي يعد الأولوية المنسية لتحرير الأرض المقدسة (بيت المقدس) وبيتها المقدس (المسجد الأقصى المبارك)، وفهم وإدراك دور المعرفة المحوري والأساسي في التغيير والتحرير، لتصبح المعرفة (بمعنى الإدراك) من أولويات القوى الحية لأمتنا، وحاجتها الماسة للتحالف مع المعرفة ضمن سياسة "التخصص والتكامل".
الدور المحوري للإعداد المعرفي في التحرير الأول والثاني لبيت المقدس
على الرغم من ربط المسلم ببيت المقدس (الأرض المقدسة) وبيته المقدس (المسجد الأقصى المبارك) روحياً ومعرفياً منذ بداية البعثة النبوية الشريفة بمكة المكرمة، فإن التغيير الجذري الذي تمثل برحلة الإسراء من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس المحتل، زاد من هذا الارتباط المعرفي والروحي بحياة المسلم، فأضحى بيت المقدس مقر الأمل والأمان الدائم للمسلمين ومصدره، ويمثل صورة حية في أذهانهم وتصورهم، كما أنه عبأ نفوس المسلمين ومشاعرهم وعواطفهم حوله، وعلق قلوبهم وعقولهم به، وجعلها تحن شوقاً إليه. ومنذ ذلك الحين، أضحى بيت المقدس يمثل الأمل والأمان في عقل المسلم وتطلعاته للتغيير. كما لم يكن بيت المقدس مجرد أرض للأمل فحسب، بل كان مصدراً للأمل والسعادة والأمان، ومقراً ملهماً للمسلمين الأوائل المضطهدين في مكة، ومصدراً للتغيير الجذري وبدايته وصولاً للعالمية من بيت المقدس. وهذا يعني - كما شرحت في كتاب نظريات ونماذج بيت المقدس لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي - أنه إذا كان التغيير هو الشكل العملي للأمل، فإن الأمل والتغيير هما من دلائل البركة، ومن ثم فإن الأمل والتغيير والبركة يتلازمان، مما يعني أن بيت المقدس هو مركز البركة والأمل والتغيير العالمي.
ولاشك أن الجهود المعرفية قد لعبت في الماضي دوراً محورياً في الإعداد للتحرير الأول والثاني لبيت المقدس (الأرض المقدسة) وبيته المقدس (المسجد الأقصى). فما كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن يحرر بيت المقدس لو لم يسبقه إعداد، بما في ذلك الإعداد والتهيئة المعرفية المنظمة والممنهجة، ضمن الخطة الاستراتيجية التي وضعها بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم في حياته والتي تقوم على ثلاثة أعمدة أساسية: الإعداد المعرفي، والإعداد السياسي، والإعداد العسكري، واستمر عليه الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه. فلقد جاء الفتح الأول لبيت المقدس بعد وفاة النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم - (12 ربيع الأول 11 هجري/ 6 يونيو 632م) بخمس سنوات تطوراً طبيعياً لذلك، حيث ساعدت الخطوات العملية الأولى التي اتخذها النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – ولاسيما الإعداد المعرفي ضمن خطته الاستراتيجية لبيت المقدس، على إيجاد الجو المناسب الذي هيَّأ بشكل مباشر إلى أحداث المستقبل. إذ كانت في واقع الأمر خطوات مبدئية في الطريق إلى الحملة الكبرى التي أطلقها أول الخلفاء الراشدين أبو بكر – رضي الله عنه - ووجهها إلى الشام، ثم توِّجت بفتح ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - لبيت المقدس في 4 جمادى الثانية في العام 16 هجري/ 4 يوليو 637م. وهو ما حدث – كذلك – في زمن حروب الفرنجة (الصليبيين) عندما بدأ الإعداد بالعلماء وعماد الدين، مروراً بنور الدين وتوج بالتحرير الثاني زمن صلاح الدين، الذي قال مخاطباً جنوده يوم التحرير"لا تظنوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل".
واقعنا الأليم: نكبتنا المعرفية وملامحها
وفي المقابل، فعلى الرغم من حب العرب والمسلمين– بشكل عام - لبيت المقدس ومسجده الأقصى، فإن حبهم لا يعدو أن يكون حباً عاطفياً تنقصه المنهجية في البحث والتمحيص، وغير مبني على منظومة معرفية متكاملة. ولاشك أننا – وبعد أكثر من مائة سنة على احتلال الأرض المقدسة (1917 – 2019) - قد وصلنا إلى درجة التخمة من دغدغة العواطف والانحياز العاطفي فقط، والانتصار بالانفعال وردة الفعل والإثارة والخطب الحماسية، أو البكاء على الأطلال.
ومن المؤسف - كذلك - أنه لا توجد جامعة عربية تدرس تخصص "دراسات بيت المقدس" الذي كانت تمنح فيه درجتا الماجستير والدكتوراة من جامعة أبردين العريقة في المملكة المتحدة، وحالياً من جامعة شمال ماليزيا (UUM) - أول جامعة في العالم الإسلامي تدرس هذا التخصص على مستوى الدكتوراة – ومؤخراً جامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية بتركيا – ثاني جامعة في العالم الإسلامي تدرس هذا التخصص على مستوى الماجستير - أو حتى تطرحه مساقاً يتيماً يدرس في الجامعات العربية والإسلامية لطلبة البكالوريوس (الإجازة) على الرغم من النص على هذا الأمر في التوصيات الصادرة عن عدد من المؤتمرات، التي منها - على سبيل المثال - بيان دندي الذي صدر في ختام الندوة الدولية الأولى للدراسات الإسلامية، التي نظمتها رابطة الجامعات الإسلامية في 18 مارس 2004م على أن "تعزز رابطة الجامعات الإسلامية بشكل عملي تطوير الحقل المعرفي الجديد لـ "دراسات بيت المقدس" ليكون مساقاً إجبارياً في مناهج كل الجامعات الإسلامية"، أو التوصية التي نص عليها بيان صنعاء "لدراسات بيت المقدس" - الصادر في ختام المؤتمر الأكاديمي الدولي الحادي عشر لدراسات بيت المقدس تحت عنوان "البعد الأكاديمي والمعرفي لبيت المقدس: التعريف بأركان الحقل المعرفي الجديد في العالم العربي" في 20/11/2007 – التي تتمحور في: "توجيه توصية إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجمهورية اليمنية بالحاجة الماسة إلى طرح (فرض) مساق دراسات بيت المقدس مساقاً إجبارياً على جميع الطلبة والطالبات في الجامعات اليمنية الحكومية والخاصة. وتوجيه توصية إلى اتحاد الجامعات العربية بالحاجة الماسة إلى طرح (فرض) مساق دراسات بيت المقدس مساقاً إجبارياً على جميع الطلبة والطالبات في الجامعات في الوطن العربي".
الدراسات الحالية
من خلال عملي الأكاديمي في عدد من الجامعات العربية والإسلامية والأوروبية، ولا سيما في المملكة المتحدة خلال 33 عاماً (1986 – 2019)، كنت في غاية القلق نتيجة لقلة أو ندرة البحوث والدراسات المتوفرة عن بيت المقدس التي تتناول وجهة النظر الأكاديمية المسلمة. ووجدت أن الدراسات المتوفرة قد تعرضت للتشويه والتزييف، بل والتحريف. فمعظم الدراسات المتوفرة عن الموضوع هي دراسات تركز على جانبها اليهودي أو الاستشراقي، مع قلة الدراسات الأكاديمية الرصينة عن هذه المنطقة أو انعدامها. فمعظم البحوث الأكاديمية الغربية والإسرائيلية اقتصرت على الدراسات التوراتية أو الاستشراقية التي تميل إلى التعامل مع الموضوع بطرق متعصبة، أو أقل ما يقال عنها إنها وجهات نظر خارجية متحيزة غير متوازنة، وليس من المتوقع أن تقدم لنا دراسات حقيقية وأمينة عن منطقة مقدسة لها مكانة بيت المقدس وأهميتها، حيث تتلاقى مطالب وادعاءات الأديان الثلاثة والأطماع الدولية وتتصادم. ثم إن البحوث والدراسات التي تتناول وجهة النظر الأكاديمية المسلمة هي بحوث قليلة أو نادرة.
ويمكن تقسيم الدراسات المتوفرة عن بيت المقدس إلى قسمين.
أولاً - الدراسات الإسرائيلية والاستشراقية:
فضمن محاولاتهم للتقليل من أهمية المصادر العربية والإسلامية المتعلقة ببيت المقدس بعد الفتح الأول لها، أو للتقليل من أهميتها ومكانتها في الإسلام، تأتي دراسات بعض الأكاديميين الإسرائيليين والمستشرقين لإلغاء الحقائق وكتابة تاريخ بيت المقدس من وجهة نظر أحادية متعصبة. ويعود هذا في حقيقته إلى أسباب دينية وسياسية مرتبطة بمعركة المؤسسة السياسية الحاكمة في إسرائيل للسيطرة على بيت المقدس، خاصة من خلال إكساب دولتهم واحتلالهم لبيت المقدس شرعية تاريخية وأثرية.
ثانياً - الدراسات العربية والمسلمة:
فعلى الرغم من أن بعض الباحثين العرب والمسلمين قد وضعوا بحوثاً قليلة في نواح متعددة عن بيت المقدس تتفاوت قيمتها من الناحية الأكاديمية، فإننا لم نزل أميين في ميدان البحوث المتعلقة ببيت المقدس بالمعنى الأكاديمي للبحث. فمعظم الدراسات العربية والمسلمة عن بيت المقدس هي دراسات عاطفية تدور في دائرة ردة الفعل، وتنقصها المنهجية في البحث والتمحيص. إذ إن الباحثين قد توقفوا عن تطبيق المنهج العلمي في بحوثهم، أو حتى تحري الدقة فيها، وذلك نظراً لما قد يلاقونه في البحث من مشقة وعناء، أو لأن بعضهم نهج طريق السرعة في دراسته، وفضل أسلوب النقل عن المراجع بلا نقد وتحليل، إما لأن هذه هي طبيعته في تجنب بذل المجهود المطلوب في البحث، وإما لأنه مضطر أو متأثر بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيشه الباحث أو المثقف العربي والمسلم – في بعض الأقطار العربية والمسلمة بصفة عامة – الذي يكبله ويمنعه من إطلاق إمكاناته.
وفي ظل انحسار حضورنا الثقافي وشهودنا الحضاري، وغيابنا الأكاديمي الرصين من جهة، وانصراف الإسرائيليين والمستشرقين للتصنيع والإنتاج الأكاديمي والتسويق في بلادنا العربية والمسلمة الخالية من إنتاجنا الأكاديمي من جهة أخرى، أضحى إنتاجهم – الذي يملأ الساحة الأكاديمية اليوم – يشكل المصدر والمرجع لنا، مما أثر تأثيراً خطيراً في تفكيرنا وتعليمنا وثقافتنا. وبذلك أصبحت "حصوننا مهددة من الداخل"، وسقطنا ضحايا أسر حضارة أخرى مع خسران حضارتنا الذاتية، أو أصبحنا في حالة ما يعرف "بالانغماس الحضاري". ووصل الأمر إلى احتلال العقل المسلم والتكوين العقلي للأمة، والبحث العلمي عن انتماءات تاريخية لإعطاء شرعية لتلك الوحدات السياسية التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا نجح المستعمر ليس في احتلال أرضنا بل وفي احتلال عقولنا، فأضحى الاحتلال مركباً مزدوجاً: احتلال الأرض واحتلال العقول.
فمن المعلوم أنه قد سبق نكبةَ احتلال الأرض نكبةٌ معرفية ركزت على الهوية والمفاهيم والمصطلحات وأدت إلى إنتاج كيانات وحدود وأسماء ومفاهيم جديدة. فأضحت "عقولنا مستعمرة ومحتلة"، وتفكيرنا محصوراً في التفكير بأوعية الآخرين الفكرية، فأصبحنا نصفق ونطبل لها. وهذا ما حصل – على سبيل المثال - عند احتلال مدينة بيت المقدس من قبل المحتل الإنجليزي عام 1917م حيث خرج الناس يحيُّون "المحرر الإنجليزي". فكان كامل الحسيني – مفتى القدس – في استقبال الجنرال اللنبي في 11/12/1917. كما شارك المفتي كامل الحسيني في وضع حجر الأساس للجامعة العبرية في 24/7/1918، التي افتتحت في 1/4/1925 بحضور بلفور وحاييم وايزمن. ووصفت جريدة الكواكب الأسبوعية (25/12/1917) – التي كان يرأس تحريرها الشيخ الأزهري محمد القلقيلي (من مدينة قلقيلية) وتصدر في القاهرة – دخول الجنرال اللنبي للمدينة المقدسة "لا يشبهه دخول أحد من الفاتحين تلك المدينة في التاريخ إلا دخول عمر بن الخطاب الذي كان مرموقاً بالتسامح الديني".
أما الشاعر إسكندر الخوري – من بيت جالا – فقد نظم قصيدة ترحيبية بالمحتل الإنجليزي، قال فيها:
بني التايمز قد فزتم وبالإنقاذ قد جئتم
بلاد القدس شرفتم فأهلاً أينما بتم
الأولوية المنسية: تحرير العقول والإعداد المعرفي
فمنذ الحملة الصليبية الاستعمارية المعاصرة، والتي أدت بداية إلى الاحتلال الاستعماري الغربي المتمثل في الاحتلال البريطاني لمصر في سنة 1882، ثم الاحتلال البريطاني للأرض المقدسة في نهاية سنة 1917، قامت القيادات السياسية ومن يتصدرون المشهد السياسي بإعطاء الأولوية للعمل السياسي والعسكري، وأهملت ضرورة تحرير العقول والإعداد المعرفي وأغفلتهما في المائة سنة الماضية (1917 – 2017)، كخطوة أساسية ومحورية لتحرير الأرض. ولا يمكن لأمة أن تحرر أرضها، وعقول أبنائها وبناتها محتلة ومستعمرة من القوة التي تحتل أرضها وتسرق خيراتها. كما أن القوى الحية في الأمة أهملت أولوية الرباط على هذا الثغر المنسي من ثغور قضية بيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك "الثغر المعرفي"، الذي أغفل/أهمل/نسي في المائة سنة الماضية (1917 – 2017) – عن قصد أو عن حسن نية نتيجة للانشغال بأبعاد ومسارات أخرى هامة، لمعالجة الآثار المترتبة على النكبات المتتالية التي حلت بالأمة كنكبة 1948، أو هزيمة/مسرحية 1967، فتم التركيز على نكبة احتلال الأرض و"نكبة التهجير" للإنسان بدلاً من الاهتمام بنكبة احتلال العقل و"نكبة التجهيل" لهذا الإنسان.
فبعد الدور المميز الذي قامت به جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ تأسيسها في عام 1928 تجاه قضية الأرض المقدسة، فإن المحنة الأولى التي أدت إلى استشهاد الإمام حسن البنا في 12/2/1949، والمحن المتتالية التي تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، أدت إلى تراجع وإهمال الإعداد المعرفي كخطوة أساسية ومحورية نحو تحرير بيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك. بل إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أسَّستها جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين مع بداية الانتفاضة الأولى في عام 1987، التي قامت خلال الثلاثين (30) عاماً الماضية (1987 – 2017) بتكوين العديد من الأجنحة، والتي منها: الجناح العسكري (كتائب الشهيد عز الدين القسام)، والجناح السياسي (المكتب السياسي)، ولكنها – مع الأسف - لم تقم بتكوين الجناح المعرفي. وهذا خلل كبير وخطير بحاجة إلى معالجة جدية وعاجلة، ولاسيما في ظل ما يجري محلياً وإقليمياً ودولياً والمحاولات الحثيثة لتصفية القضية. ولكن من الإنصاف القول أن جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص والحركة الإسلامية بشكل عام سعتا في عدد من الأقطار خلال السنوات العشر الماضية (2008 – 2018) إلى تشجيع ودعم تأسيس عدد من المشروعات/المؤسسات الثقافية التي أوكل إليها عقد دورات في معالم المسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى دورات في "القضية الفلسطينية" تحت عنوان "المعارف المقدسية". ولاشك أن هذه التسمية "المعارف المقدسية" بها خلل علمي منهجي، حيث إن المحتوى لا يتناسب مع العنوان، بمعنى أنه يجب أن تسمى "المعارف الفلسطينية" أو "دراسات فلسطينية"، بدلاً من "المعارف المقدسية".
كما أن القيادات السياسية والعسكرية الحالية ومن يتصدرون المشهد السياسي في الأرض المقدسة فشلوا في فهم وتفسير وتوجيه الموجة الأولى للتغيير والتحرير في منطقتنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية التي تعرف "بالربيع العربي"، ولم يستثمروها لتوجيه البوصلة نحو بيت المقدس ومسجده الأقصى، أو ربط ما حدث ويحدث في منطقتنا العربية من حراك بالتحرير القادم للمسجد الأقصى المبارك. ولم يأخذوا العظة والعبرة والدرس من تجاربهم السابقة الفاشلة، ولا زالوا يجربون المجرب. بل هنالك إصرار غير طبيعي على تجريب المجرب وتكرار الأخطاء، ولسان حالهم يقول "سنبقى نجرب المجرب، حتى لا نهاية، فهذا خيار ونحن مصرون عليه"، فأضروا "القضية الفلسطينية"، التي أضحت في كارثة حقيقية، وتمر بأسوأ مراحلها، وأضحى ما يجري على الساحة السياسية المحلية (الفلسطينية) ملهاة مبكية، وتراجع حضور القضية في محطيها الإقليمي (العربي والإسلامي). وهذا الذي يجري على المستويين المحلي والإقليمي (من ملهاة مبكية وتراجع حضور القضية)، يتحمل وزره وجريمته بشكل كبير القيادات السياسية والذين يتصدرون المشهد السياسي الفلسطيني بجميع أطيافهم وألوانهم. والنتيجة التي نشهدها – مع الأسف - تراكم فشل الساسة والعسكريين في العقود الماضية التي تصل إلى القرن من الزمان، ومساهمتهم (المباشرة وغير المباشرة) في تقزيم قضية الأرض المقدسة وتصفيتها وضياعها وإدخالنا في متاهات وتنازلات ولهايات متتالية، حتى وصلنا إلى الحالة الكارثية التي نحن بها الآن. هذه القيادات - مع الأسف الشديد - غير قادرة وغير مؤهلة، على المساهمة في إطلاق حراك للتغيير الجذري والتحرير وإدارته، ويجب أن تستبدل بقيادة مؤهلة معرفياً وسياسياً، وقادرة على إطلاق الموجة الثانية للتغيير والتحرير ضمن القيام بالواجب وفي رحاب الأمة الواسعة، مع عدم إغفال دور البعد المعرفي في قيادة التغيير والتحرير.
وبإيجاز، فإن هذا الواقع الأليم والتيه الذي يمكن تلخيصه بمصطلح "النكبة المعرفية"، يوضح أن هناك فجوة كبيرة ومعادلة غير متوزانة في الكتابات الأكاديمية الخاصة ببيت المقدس، وأن "عقولنا مستعمرة ومحتلة". كما أن من مظاهر هذه النكبة المعرفية إغفال القيادات السياسية ومن يتصدرون المشهد السياسي للبعد المعرفي وإهماله في عملية الإعداد للتحرير القادم لبيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك. ولهذا، فلم ولن أمل من تكرار الحديث عن هذه الأولوية المنسية، والتذكير بها والكتابة عنها (بطريقة مباشرة وغير مباشرة) إلى القوى الحية في أمتنا وقيادات الحركة الإسلامية، حتى نفيق من نكبتنا المعرفية، ونفهم وندرك دور المعرفة المحوري والأساسي في التحرير، والحاجة الماسة للسياسيين والعسكريين الإسلاميين للتحالف مع المعرفة ضمن سياسة "التخصص والتكامل". فلقد تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دراسة حركة التاريخ أن البعد المعرفي يمثل الأساس الذي يجب أن تبنى عليه الإعدادات والأعمال الأخرى، ولاسيما العمل السياسي والعسكري. وحيث إن الفتح المعرفي يسبق الفتح السياسي والعسكري، وتحرير العقل يسبق تحرير الأرض، فإن المعرفة (بمعنى الإدراك) يجب أن تسبق العمل السياسي والعسكري لتحرير الأرض. بل كل عمل لا ينبني علی أساس معرفي مصيره الحتمي الفشلُ. فالعمل السياسي والعسكري بدون بناء معرفي منظم ممنهج ومنظومة معرفية متكاملة؛ كارثةٌ، وإغفال تحرير العقول وإهمال البعد المعرفي والإعداد والتهيئة المعرفية المنظمة والممنهجة في الإعداد للتحرير القادم لبيت المقدس ومسجده الأقصى؛ كارثةٌ. وهذا يوضح أن هنالك حاجة ماسة إلى بديل ومشروع معرفي نملأ به هذا الفراغ المفزع، بعمل بنائي إبداعي وخلاق، لإحداث التغيير المنشود.
وفقهاً لهذا الواقع الأليم وحالة التيه التي تعيشها الأمة ونكبتنا المعرفية، وإيماناً بأن "حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد"، تم تأسيس المشروع المعرفي لبيت المقدس مشروعاً حضارياً معرفياً أكاديمياً فكرياً ثقافياً حول الأحلام – برؤية واضحة، وتخطيط ممنهج، وعزيمة صادقة متواصلة - إلى حقائق خلال ثلاثة عشر عاماً (1994 – 2007)، حتى أصبح مشروعاً حضارياً معرفياً للأمة في بداية مرحلة تأسيسه في العالمين العربي والإسلامي في عام 2012، حيث تبنى المشروع المعرفي في تأسيسه وعمله وتطوره: منهج التدرج في الخطوات، واعتماد فلسفة "لا شيء مستحيل"، ومنهجية الحقول المعرفية المتداخلة والمتعددة، وسياساته المتمثلة في: صناعة الفعل بدلاً من ردة الفعل، والتخصص والتكامل، والتعاون بين "المعرفة" و "السلطة" الراشدة في العالمين العربي والمسلم.