"إذا كان العمل رسالة الأحياء فإن العاطلين موتى" الإمام محمد الغزالي
لو أنَّكَ خرجت في يومٍ ما من إحدى الجوامع وعند المدخل اعترضك منظر لشحاذ مِسكين أفقده القدر النور من إحدى عينيه وهو ممسك بإحدى يديه بتقريره الطبي وماداً الأخرى راجياً أن لا تردها خائبة فارغة، ثم تمضي الأيام ما شاء الله لها أن تمضي وبعد عدة سنوات تجلس في منزلك لتشاهد التلفاز فيطلُّ عليك وجه تقول لك قسماته وملامحه أنَّك قد شاهدته .ولكن متى؟ وأين؟ وحين تسعفك ذاكرتك فإنك لا تكاد تصدق!.
إنَّهُ هو! نعم هو! بعينه! الشحاذ الذي أظلمت إحدى عينيه وغاب ضياؤها. الملامح هي ولكن الإنكسار للبشر قد غاب، القسمات هي! ولكن استجداء الغير قد غاب، وسكن بدلا منها الثقة والاعتزاز بالذات.الهيئة هي! ولكن الخضوع والاستسلام قد غاب. إنَّه هو نعم هو بعينه الذي ربما تفاديت أنت مسَّهُ وتفادى غيرك ربما حتى مشاهدته فلم يعطيه في ذلك اليوم ما يقوت به نفسه أو يشتري به علبة دواء يُبلسِم بها جراح الدهر في عينه.
هل تصدِّق أنَّ شحاذا أصبح وجهاً إعلامياً ومؤثّراً؟
نعم صدق إنَّ ذلك ما حدث فعلا في قصَّة ألهمت الملايين حول العالم ومازالت تُلهِم وأثارت في داخلهم الحماس وفجَّرت في نفوسهم إرادة الإنجاز.
إنَّها قصَّة علي المرَّاني القادم من اليمن السعيد.
ولد علي المرّاني في قرية مرَّان من محافظة صعده في اليمن وذلك في 15/8/1985
مرَّان تلك قرية محرومة من كل مقومات المدنيَّة المعروفة فلا كهرباء هناك ولا مياه، ولا طرق معبدة ولا بنايات، كلُّ شيء غائب سوى بساطة العيش في توحد مع كنف الطبيعة.. لم يكن هناك مدارس بالمعنى الحقيقي للكلمة. كان الأولاد يسكنون الطبيعة مدرسة لهم فالأشجار السقف والأعشاب فرشهم.
وفي هذه البيئة بقي الطفل علي المراني من الصف الأول حتى الصف السادس وهو يعتقد بأنَّ العالم هو مران فقط وأنَّ العالم عبارة عن 3كم في 3كم هي مساحة قريته، وعندما أصبح في الصف السادس كان الأول في النصف الدراسي الأول/ وكانت الجائزة رحلة إلى مركز المحافظة في صعده وهي الرحلة التي رأى فيها الطفل علي المراني ولأول مره طرق معبدة واكتشف لأول مرة الهاتف. والأهم من ذلك هو اكتشافه أنَّ العالم ليس مران فقط..أن هناك سماء غير السماء وبشر غير البشر الذين اعتادهم.
رجع علي الصغير إلى أهله وفي داخله حلم كبير، كيف يغير من واقعه؟ كيف يبدل هذا الواقع التعس؟ بل كيف يقنع أهله بأن العالم ليس مرَّان فقط؟.
وتمضي الأيام وبينما كان علي عند أحد أصحابه الذي يمتلك سلاحاً آليا وكان وقتها علي طالبا في الصف التاسع خرجت إحدى الطلقات عن طريق الخطأ لتخرج إحدى عينيه من مكانها. أسعف علي إلى المركز الصحي فقال الطبيب المسؤول وقد رأى إحدى عيني علي قد فُقأت: إنَّه ميت لا محالة بعدها أحيل للمشفى ليخرج ويجد العالم قد أصبح بلا قلب ليستقبله.. بِلَقَبٍ جديد هو الأعور، لقب بقي يلازمه أينما حل وأينما ذهب يطلقه عليه المجتمع لينكَأ به جُرحاً قديماً كُلَّما اندمل، ويطعن في نفس الشاب أيما طعن.
لكنه اقتنص فترة وجودة في المستشفى الذي تابع فيه علاجه على تعلُّم اللُّغة الانكليزية وتعرف على الشابكة (الإنترنت) للمرًّة الأولى.
بعدها انتقل علي إلى السعودية ليسكن مع أحد أعمامه هناك ولمدة ثلاث سنوات قائلا: (كانت من أصعب السنوات التي مرّت علي َّ ثلاث سنوات وأنت لا تعامل كإنسان طبيعي بقيت حتى العام 2005 م وأنا أُعاني بأنَّ كل شخص يتعامل معي على أساس بأني ناقص .فماذا أعمل؟ قدر ونصيب .جلست مع هذا الشعور سنوات طويلة).
في العام 2005 م وعن طريق الانترنت-والذي يعتبره علي عَرَّبهُ – تعرَّف بشباب عن طريق المنتديات تعاملوا معه كفكر، وأثنوا على كتاباته وأعجبوا بها وكان ذلك حافزاً له. بعدها حضر علي دورات في التطوير الشخصي وتنمية الذات. إذ يقول: "في إحدى الدورات كان المدرب يقول :تخيل نفسك سنة كاملة وأنت بنفس المشاعر السلبية المقيدة لك، وبنفس الأفكار التي تحملها.كيف ستكون علاقتك بنفسك؟ بربك؟ بأهلك؟."
"كل كلمة كان يقولها كأنَّه يطعنني بسكين لأنني كنت أعاني." عندها قمت وقلت: "دكتور أعدك من هذه اللحظة وبدلاً من القول بأنني بعين واحدة ولن أستطيع عمل شيء سوف أبحث عن عمل وأصبح عضوا فاعلا في المجتمع"
وفي اليوم التالي أخبر علي عمَّه بأنه يجب أن يعمل، وافق عمَّه بعد أن كان رافضاً في البداية فكرة عمله.
عمل علي في مكتب كان من المفترض أن يكون محاسباً فيه، لكنَّه كان يحضر القهوة والشاي وينظّف دورات المياه، وبعد خمسة عشر يوماً من الدورة وبعد عِدَّة مراسلات مع الصحف عن طريق الانترنت ظهرت أوَّل مقالة له ورأت النور في إحدى الصحف, وكانت تتحدث عن الأخطاء الطبيَّة.
ومن العام 2006 م حتى العام 2008م عمل لمدة 18 ساعة يومياً، بعد ذلك انتقل للعمل في شركة حواسيب لمدة 7 أشهر من دون أجر، فقط مقابل الحصول على الانترنت والمنامة حيث كان يعمل وينام في المكتب بعدها شارك علي في أعمال تطوعية وفي عدة أندية .
استطاع علي بعدها أن يعمل في صحيفة المدينة، التي استقبله فيها الدكتور عبد العزيز القاسم ذلك الاستقبال الذي ترك في نفسه الأثر الكبير حيث كان استقباله له استقبال الصحفي للصحفي وهو الذي كان في الأمس البعيد عالة على المجتمع.
وبقي علي يعمل في صحيفة المدينة حتى العام 2008م كمحرر مسؤول فيها، وعندما كان علي ضيفاً على الهاتف في إذاعة جدة طلب منه المخرج في الإذاعة أن يعمل معهم فقبل علي، واستمر في العمل لدى الإذاعة إلى أن أصبح لديه برنامجه الإذاعي الخاص.
أحلام علي لم تتوقف فما إن يتحقق حلم حتى ينتقل إلى تحقيق الآخر وحلمــــــه هذه المرة كان العمل في التلفزيون ومن أجل تحقيق هذا الحلم أتَّبعَ علي دورات في التقديم التلفزيوني كان مميزاً فيها حيث أثنى عليه المدربون كثيرا، ,لكن أحد كبار المنتجين للبرامج العربية أخبره بعدم امكانيته أن يكون مقدماً في التلفزيون لأن من مِثلهُ لا ينفع لمثل هكذا أمر، لكن إرادة الإنجاز التي في داخله لم تثنه مثل هذا المِعْوَلْ الهدَّام ومضى قُدُماً في تحقيق مُرادهِ مستمراً في العمل مُقْسِمَاً على نفسهِ دخول عالم الشاشة الفضية وتحقيق الحُلمْ.
وهذا ما حدث فعلاً حيث عمل علي في العام 2009 م في قناة الدليل الفضائية، وفي العام 2010 م قامت قناة المجد الفضائية بعمل برنامج في جده، وطلبت من علي أن يكون مسؤولاً عن الإعداد وبعدها كانت هناك فقرة يومية للأخبار الصحفية كان هو من يقدمها، واستمر في العمل في هذه القناة إلى أن أصبح لديه برنامجين. فأصبح بعدها مشرفاً على إعداد آلاف الساعات التلفزيونية للكثير من البرامج المنوعة والوثائقية لعدة قنوات فضائية في التلفزيون السعودي والمصري وأبو ظبي، ودبي، وقناة الرسالة وقناة فور شباب .كما أصبح يقدم الاستشارات الإعلاميَّة لعدد من الجهات الحكومية والخاصة. وفي العام 2011م كان علي المرَّاني مديراً لحملةٍ إعلامية لكُبْرى شركات السيارات.
علي الـمـرَّاني والذي قام أحد أقاربه بأخذه في العام 2004م إلى أحد الجوامع وقال له بأنَّه سيقف أمام الجامع ليشحذ ثم في النهاية يقتسم معه النقود أصبح في العام 2008م أصغر مدير تحرير لأهم برنامج يومي في المملكة العربية السعودية . علي الـمـرَّاني وهو الذي بكى في العام 2005م لأنَّه لم يكن يمتلك ثمن علبة الدواء التي كتبها له الطبيب، أصبح في العام 2011م يمتلك بيتاً في جده وأرض في صنعاء وبيت في صعده .
علي الـمـرَّاني وهو الذي كان أصحابه يخجلون من السير معه لأنَّه أعور بأسمال بالية فلا يصطحبونه معهم في رحلاتهم إلى شاطئ البحر ونزهاتهم في الحدائق أصبح الآن وجهاً إعلامياً معروفاً ومتحدثاً لألوف البشر يحكي لهم قصَّة الألم والإبداع في حياته فيثير في دواخلهم عواصف العمل والطموح بعد أن أصبح مُلهِماً للآلاف منهم .
إنَّ النجـاح الحقيقي لعلي الـمرّاَني ليس فقط في تحقيقه لأهدافه وإثباته لذاته لكن النجاح الأهم هو هذا الأثر الذي يتركه في نفس كل شخص سمع به وهذا الحافز للنجاح الذي يولَّده لدى كل من عرف بقصَّته فينتَشِلهُ بذلك من شلل الفكر والأفكار ويمد له يداً تُنْجيه من دوّامات الغرق والضياع إلى بر الأمان .