هل واجهت في وقت ما تحديا خارج نطاق سيطرتك تماماً؟ هل أردت في وقت ما شيئاً ولكنك شعرت أنه من المستحيل الحصول عليه؟ على الرغم من أنه صحيح أننا لن نحصل دائماً على ما نريده بالضبط، لكن القرآن ما فتأ يذكرنا أنّ الله تعالى لديه كامل القدرة على منح كل شيء بلا حساب أو سابق عمل، يقدم القرآن عدة أمثلة عن عطايا الله تعالى لعباده المؤمنين في حين أنهم كانوا في ذروة اليأس والقنوط وفقدان الأمل من الحصول على ما يريدونه ويتمنونه.
يقص علينا القرآن الكريم نبأ النبي زكريا -عليه السلام- عندما تقدم به العمر، وأخذ الشيب من رأسه كل مأخذ، وكانت زوجه أيضاً قد تقدم بها السن، ولم تلد له من الولد ما تقر به عينه، ويحمل من بعده اسمه، فها هو عما قريب سوف يطوي صفحة الأيام، ويمضي إلى حياة غير هذه الحياة، فمن الذي يقوم على وراثة حكمته، والاضطلاع بأمانته؟ وهؤلاء مواليه وبنو عمومته أشرار فجار، لابد لهم من وازع يردعهم عن غيهم، ولو خُلُّوا ونفوسهم الشريرة فإنهم يمحون الشريعة، وينشرون الفساد، ويغيرون معالم الكتاب.
وقد عبر القرآن عن هذه الحالة التي كان يعاني منها زكريا بقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)[1].
جاء هذا الدعاء بعد أن رأى زكريا ما يحدث عند مريم من العجب العجاب، حيث كان كلَّما دخل عليها رأى فاكهة الشِّتاء تكون حاضرة عندها في الصيف، وفاكهة الصيف تكون إزاءها في الشتاء! فتملَّكَتْه الدهشة والاستغراب، ثُمَّ سألها: من أين لك هذه الفاكهة، وهذا الرِّزق؟ فأخبرته بأنَّه من لَدُن الله تعالى؛ قال تعالى: ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[2]
هذا هو جوهر الإيمان، فهو عزاء وأمل، عزاء للفاقدين وأمل للراجين والمتمنين والطامحين، الإيمان هو ما يبرر وجود الأمل في حياة الإنسان، وأنه لا بد بعد كل عسر يسر، وبعد كل محنة منحة، وحينما تثق بالله فإنك بذلك تضع نفسك في معية رب رحيم ودود رؤوف وذي اللطائف التي لا حد لها.
وبالمثل تبرز بجانب قصة زكرياء المعجزة قصة مريم، وما حدث لها حين أخبرها جبرائيل -عليه السلام- بمنح الله لها غلاما زكيا، رغم أنها لم تتزوج من قبل، فهالها الأمر وأثار فيها مكامن الخوف والرعب، إذ كيف يتسنى لامرأة مثلها، لم يمسسها رجل ولم تكن بغياً أن يكون لها غلام، قال تعالى: (وَاذكُر فِي الكِتابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِها مَكانًا شَرقِيًّا، فَاتَّخَذَت مِن دونِهِم حِجابًا فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا، قالَت إِنّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا، قالَت أَنّى يَكونُ لي غُلامٌ وَلَم يَمسَسني بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا، قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنّا وَكانَ أَمرًا مَقضِيًّا )[3].
بين تلكما القصتين وجه مناسبة ومشابهة، وذكرهما الله معاً ليظهر لعباده ولجميع البشر قدرته على فعل كل شيء بلا أدنى أسباب مادية أو معنوية، وأنه سبحانه لا يتعامل بمنطق السببية كما يفعل البشر، فهو خالق كل شيء، وقادر على كل شيء، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فأمره بين الكاف والنون، لا فواصل زمنية بين أمره وتنفيذه وبين قوله وفعله، الزمن يتلاشى هنا إذ لا حيز زماني يمكن تصوره.
تخبرنا قصة زكرياء ومريم -عليهما السلام- أنّ في قلب المعاناة تبرز المنح، وفي قلب المستحيل تبرز العطايا، ومع كل ضائقة يأتي قدر الله بالفرج والسرور، وأنّ ما ظننته صعباً ومحالاً هو في يد القدرة الإلهية وفي صميم المشيئة الربانية، ما عليك سوى أن تلتفت إلى ربك لترى كيف يسوق إليك النعم بلا حساب.
وهذا هو جوهر الإيمان، فهو عزاء وأمل، عزاء للفاقدين وأمل للراجين والمتمنين والطامحين، الإيمان هو ما يبرر وجود الأمل في حياة الأنسان، وأنه لا بد بعد كل عسر يسر، وبعد كل محنة منحة، وحينما تثق بالله فإنك بذلك تضع نفسك في معية رب رحيم ودود رؤوف وذي اللطائف التي لا حد لها، مهما كثرت المصائب وتنوّعت الخطوب واشتدّت المِحن على المؤمن، لابد أن يحيا وثقته بالله عظيمة، وأمله بالله كبير، فيُحسّ بسكينة النفس، وطمأنينة القلب فلا ييأس من تغير الظروف، وتبدُّل الأحوال؛ فهو يأوي إلى الملك العظيم الذي إن شاء أغنى الفقير، وأفقر الغني، وقوّى الضعيف، وأضعف القوي، ونصر المظلوم وأخذ الظالم، وشفى المريض، ويسّر على المعسِّر، وأعزّ الذليل وأذلّ العزيز، قد يفعل ذلك بأسباب معتادة معروفة، وقد يفعله بأسباب غير مألوفة، لا حِجر على مشيئته، ولا ينازعه أحد في سلطانه.
[1] سورة مريم، الآيات 4 إلى 6.
[2] سورة آل عمران، الآية 37.
[3] سورة مريم، من الآية 16 إلى 25.