ذات مرة، في أرض بعيدة، توجد شركة الكهف العالمية، مبنى رطب، حزين، شاسع وغائر. تضم قاعاتها المفتوحة مئات العمال الذين يجلسون في أكشاك فردية مقيدة بشاشات فضية متلألئة عليها نقاط وخطوط لا نهاية لها، وصور متحركة بسخرية مدهشة. هذه الأشكال تتحرك في الشاشات وفق مبرمجين بعيدين والمشاهدين لا يعرفون عنهم شيئاً: يعرفون فقط إغراء الشاشات المضاءة، لا يَرَوْن غيرها. يعتقدون أنهم أحرار وأن الأشكال الإلكترونية والرسوم البيانية التي يرونها حقيقية.
الحياة في عالم الكهف منافسة، أولئك الذين استطاعوا بسرعة تحديد الأشكال، حصلوا على مرتبة الشرف من قبل المبرمجين. يُطلق عليهم التنفيذيون أو الضباط أو كبار الشخصيات، تم منحهم نقاط إضافية لشاشاتهم. إن قال وميض علامات: "أنا سعيد" أو "أنا حر" أو "أنا شخص ما" تومض جميع العلامات في لحظة واحدة بحيث يبدأ قسم كبار الشخصيات غارقاً في موجة إلكترونية نابضة رائعة، تقرأ:" أنا سعيد، أنا حر، أنا سعيد، أنا حر، أنا شخص ما"، يكون الجلوس تَحْت هذه الأضواء الساطعة أمراً مثيراً ويسعى إليه الجميع. في يوم ما، فكر الجميع، " لو عملت بجد واتبعت بشكل صحيح النقاط، سوف أحصل على علامة وميض على شاشتي تخبرني " أنا سعيد، أنا حر، وثم سأكون شخصاً ما".
ذات مرة امرأة شابة تعبت من النقاط الوامضة قليلاً، ومن التنافس الأبدي؛ الأرقام بدت لها متوقعة وروتينية ومملة جداً، وبالتأكيد فكّرت:"يجب أن تكون هناك حياة أروع من هذه". بجهد جهيد، حلّت عينيها من الشاشة ونظرت حولها. استدارت ببطء فاكتشفت الكثير، كانت السلاسل التي تحملها موجودة في ذهنها فقط.
بدأت شاشتها تومض بشراسة "توقفي!، عودي إلى الواقع، أكرر، توقفي!، عودي إلى الواقع"، لكنها لم تتوقف، كانت خائفة من غرابة كل شيء، لكنها استمرت في الدوران، هناك وراء صفوف الشاشات المتطابقة، رأت شيئاً مدهشاً، أناس يكتبون بجنون على لوحات المفاتيح، إنهم المبرمجين، يتحكمون في كُل جوانب العالم الوحيد الذي تعرفه، لكنها لا تستطيع أن تفهم، تساءلت إن كانوا سوى وهم، بدوا غريبين عنها وخطيرين، تعثرت في العودة إلى مقعدها، عادة إلى شاشتها والخوف يعتصرها، وومضة شاشتها:"بدأتِ تتعافين من نوبة ذهنية، أكرر، أنت الآن تعودين إلى الواقع".
في وقت لاحقٍ، تم إعطاؤها بعض النقاط الملونة الإضافية، ووميض علامة "السعادة" لكن الحياة لا يمكن أن تكون كما كانت من قبل، استحوذ عليها شك خبيث، أصيبت بمرض يسمى" الاستجواب". لم يمض وقت طويل، زاد القلق مرة أخرى في المرأة الشابة، لم تعد قادرة على الانهماك في جاذبية النقاط المتحركة، مهما كانت ملونة. في وقت ما رمشت، أصبحت شاشتها فارغة للحظة وجيزة، في تلك اللحظة كانت تميل إلى الأمام، وقفت مرة أخرى واستدارت، هذه المرة شاشتها تومض بقوة عنيفة، لكنها قررت متابعة أسئلتها والإستكشاف.
على بُعد مسافة، من المبرمجين، رأت لافتة قاتمة تقول: "خروج". ووراءها ضوء، بدأت تسير نحوها، تنساب إليها ضحكات المبرمجين واحتقارهم، حتى كبار الشخصيات جميعها كانت تسخر وتضحك، والذين يشاهدونها عبر شاشاتهم، لكن علامات السعادة قد خفت.
هربت المرأة من المخرج وصعدت درجاً شديد الإنحدار، عَلَى ركبتها كدمات وما زال تسمع دمدمة الضحك خلفها، لكن شيئاً أقوى من الضحك كان له حضور لطيف يرشدها. في صعودها اتبعت الضوء المنبعث من الشق البعيد إلى الأعلى دائماً، بعد فترة طويلة، وصلت مرهقة إلى باب زجاجي يتلألأ من سطوعه، ترددت ثم فتحت الباب وخرجت إلى فصل الربيع المجيد.
الصعب، أنها أصيبت بضوء شديد اللمعان، كاد العمى يصيبها بشكل مؤلم. شدها الحنين إلى سلامة الكهف المظلم؛ كانت مريحة هناك، بينما هي هنا هشة وبمفردها، دون أيةِ إشارات تسوقها وتخبرها بما ستشعر به أو تفعله. شعرت بخوف كبير من الحرية.
وجهت نظرها للأسفل لتتجنب مباشرة الضوء، في البدء رأت فقط الظلال والانعكاسات في الماء، ولكن بعد فترة بدأت عينيها تتأقلم، رأت المجد الحقيقي لهذا العالم المضاء بنور الشّمس، يالها من روعة! النباتات الخضراء، معجزة كاملة، سر السحب البيضاء العائمة في قبة السماء الزرقاء العميقة... وفي كل مكان، كل شيء يشع بالنور. موجات من الضوء اللانهائي يطفو بلا حصر. تجولتْ كما لو كانت طفلاً صغيراً، بمرح وسرور تلمس كل ورقة وزهرة عطرة وعشب تمر قربها. رقصت بقوة على ضوء الشمس فرحة لكونها على قيد الحياة، حية كما لو أنها المرّة الأولى، رفع الفرح أفكارها إلى الأعلى مثل الصقر ذي الذيل الأحمر الذي يحلق في الهواء، على مرتفعات الوجد. إلى جمال خيوط الشمس المذهبة، أنقذت روحها من الهلاك.
لاحقاً ، بعد أن أفرغت كل نشوتها، استلقت على العشب الناعم، وفكرة في رفاقها السابقين، المحبوسين في عالم الكهف القذر تحت الأرض، يتلاعب بهم المبرمجون كالدمى، يجب أن تخبرهم بالحقيقة، كان عالم النقاط الوامضة كذبة قاسية!
من الصعب ترك عالم النور. سارت نحو الأسفل إلى الكهف. صرخت عند دخولها " أيها الأصدقاء، تعالوا معي إلى ضوء الشمس، فالعالم الحقيقي أكثر إشراقاً وجرأة مما حلمت به! أخرجوا من سجون الشاشات الوامضة" لكن الناس أحبوا سجن أوهامهم وخافوا من المختلف والجديد. شاشاتهم تومض بقوّة شديدة، عندما وصلت، حاولت التخلص من هدوئها. ضغط المبرمجون على الأزرار لتدمير صورتها على الشاشات، لكن على الرغم من أنهم استطاعوا محوها من أجهزتهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من إطفاء رسالتها. كانت تسير عبر أكشاك الكهف وتغني بفرح كما في عالم النور، لكن سكان الكهف أعرضوا عنها، بإستثناء صبي في الزاوية الخلفية، لما نظر إليها، دار سؤال في خلده، في تلك اللحظة بالذات، أصبحت شاشته فارغة وامتدت يدها له، أمسك بها، وقام ببطء، مثل نجمة الصباح، معاً استداروا، وبدأوا رحلة طويلة نحو النور، لقد كان فجر يوم جديد.