السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
نعيشُ اليوم لحظاتٍ طيبة مباركة في ظلال شهرٍ كريم، وقد اعتدنا خلال السنوات الماضية أن نخصص حلقات الديوان للحديث عن السيرة النبوية، ونأنس بظلالها الوارفة، ذلك لأننا نعتقد أن سيرتهُ عليه السلام مليئة بدروسٍ للبشرية، ودروس لنا نحن معشر المسلمين، وأن هذه الدروس لا تقتصر على قيمٍ أخلاقية وتربيةٍ روحية وعلى نموذجٍ إنسانيٍ بديعٍ وصافٍ لتربيةِ نفوسنا، والارتقاء بذواتنا، وإنما هو أُسوةٌ لكلِ إنسانٍ في موقعه و تخصصه!
ضياع النسق المتكامل في «سرديّات مكررة»
تعودت على قراءة كتب السيرة منذ الصغر لأنها كانت موجودة دائماً في مكتبة الوالد رحِمَهُ الله، وكان يحُثني دائماً على قراءة هذه الكتب، مثل سيرة ابن هشام والكامل في التاريخ لابن الأثير، والكثير من كتب التاريخ الأخرى التي لازمتنا منذ ذلك الوقت.
منذ ذلك الوقت بدأت ألحظ أن نصوص السيرة النبوية في الكتب التراثية تتكرر حرفيا في كثير من الكتب، بمعنى أن روايات السيرة النبوية في معظم الأحيان تجدها مكررة من دون تحليل معمق أو سياقات موسعة.
وفي معظم الأحيان تجد أن كل قصة تُروى في ذاتها بدون أن تُربطَ بالقصص أو بالروايات الأخرى، لكي يكون لدينا نسق واحد متكامل في صيغةٍ يمكن لنا أن نخرج منها بقواعد منهجية أو بنظرية في التعامل مع السيرة النبوية في مجالات محددة.
وفي وقت لاحق، عندما أصبحت صحفياً، بدأت ألحظ أن من أهم الأشياء في الفعل السياسي والقراءة في السياسة هو السياق، فعلى الصحفي الذكي أن يكون لديه سياق للخبر.
فبإمكانك أن تسمع الخبر مجردا، لكنك إن وضعته في صياغة تشمل السياق بمعنى معرفة المكان والزمان الذي قيل فيه ولمن قيل وما المقصود منه، وما هي مآلاته فإن المعنى يختلف.
أحياناً بعض أقوال السياسيين أو الزعماء ليست مقصودة بذاتها، بل يُقصدُ منها التأثير في شيء آخر، وأحياناً تقال لإيصال رسالة إلى من يهمه الأمر .
«العمق الكافي» لصناعة المعرفة
بالتالي، إن تحليل الخطاب لدينا نحن معشر الصحفيين يستند إلى عدد من القواعد منها:
- القاعدة الأولى: أن تجد سياقا لفهم المعلومة
في كثيرٍ من الأحيان، المعلومة من دون سياق لا تتحول إلى معرفة متكاملة، لذلك تجد أن الصحفي الذي يسمع خبرا و يريد أن يتحدث عنه مباشرةً قبل أن يفهم لماذا قيل؟ وكيف قيل؟ وما المقصود منه؟ يكون في الغالب لا يملك العمق الكافي لكي يصنع من الخبر معلومةً مفيدة في سياقٍ مكتملٍ أو ما نسميه تحويل المعلومة إلى معرفة.
- القاعدة الثانية: التعرف على ما دون السطح
يميل الإنسان دائماً إلى التعميم لأنه أسهل! فالعقل يحب أن يأخذ بعض المعلومات ثم يبني سريعاً وبشكلٍ سطحي نظرية كاملة في فهم الأحداث، فيستدل على نظريته أو قناعاته بواقعةٍ أو إثنتين وبحادثةٍ أو ثلاث وهكذا.
بينما الصحفي الماهر تقوم مهنته على رؤية الظلال المختلفة للواقع، وملاحظة الشقوق في جدار الخبر، والتعرف على خفايا الأحداث التي لا تظهر عادةً على السطح.
- القاعدة الثالثة: البحث عن الاستراتيجيات غير المعلنة
الذي يظهر للعلن أقل بكثير مما يحدث في الخفاء، والسياسة ابتداءً تقوم على إخفاء الاستراتيجيات، قد يُعلن شيء منها من خلال خطاب استراتيجي عام أو من خلال وثائق تقدم للبرلمانات أو خطاب للرئيس، كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية عندما يعد مجلس الأمن القومي خطاباً للرئيس عن حال الاتحاد واستراتيجية الأمن القومي، لكن إنزال هذه البنود الاستراتيجية على الواقع يكون في الغالب سريا، وإخفاء المعلومات هو الهدف الأساسي لأن العلاقات السياسية والدولية يقوم على عدم الثقة وليس على الثقة، وهذه مسألة معمول بها بين الدول على نطاق واسع.
- القاعدة الرابعة: موازين القوة أساس للتفريق بين ما يقال وما يُفعل
كثير من الساسة والزعماء يقومون بمخاطبة شعوبهم أو الإعلام مظهرين معاني معينة تحمل محاولة لإرضاء الناس أو إظهار مواقف ذات شعبية، لكن ذلك لا يعني أن الذي يقال على المنابر وعلى الشاشات سوف يتحول إلى فعل عملي على الأرض، لأن تصرفات الدول تأخذ موازين القوة بالاعتبار، أما الكلام فله وظائف أخرى، وهذا بالطبع ضروري عندما نحاول استشراف مستقبل الأوضاع، فينبغي أن نحيط علما بميزان القوة، عندها فقط نتمكن من استشراف الأحداث.
استواء المنهج المكتمل.. «أسوةٌ حسب المتأسّي»
على كلٍ، لماذا بدأتُ بهذه المقدمة؟
لأنني عندما كنت أقرأ في السيرة بدأت ألاحظ أن هناك نسقاً واضحاً متكاملاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يحتاجُ أن تُربط الأحداث فيه ربطاً حتى يستوي منهجاً مكتملاً.
يمكننا أن نستفيد منه في فعله الإستراتيجي وتدبيره السياسي ورؤيته للعالم وكيفية إدارة الصراعات، وكذلك في طبيعةِ تغيير المجتمعات وبناء نظم وأفكار ورؤى وتصورات جديدة!
كل هذا موجود في السيرة؛ فلو دققت النظر في حادثةٍ ما وقعت في مرحلةِ ما ودرست السياقات وفهمت الواقعة كما كانت ولماذا كانت و في أي وقتٍ وزمانٍ ومكان، تستطيع عندها أن تخرج بمعرفة عميقة، فإذا توسعت إلى أحداث أخرى يمكن أن يتضح لك نسق معين، تستخرج منه نهجا ونظرية، عندها يصبح فعل النبي صلى الله عليه وسلم أُسوة لنا في كل زمن، ذلك أن التصرفات السياسية والاستراتيجية في عصر معين قد لا تنطبق في أزمنة مختلفة، أما المنهج فيمكن تطبيقه على اختلاف الأزمنة.
ليس النبي أُسوة فقط في التربية والإعداد النفسي والروحي والخلاص الشخصي والذاتي. إنما هو أُسوةٌ للإستراتيجي في بناء منهجية استراتيجية، وهو أُسوةٌ للسياسي في التدبير السياسي، وهو أُسوةٌ للمصلح في العمل الاجتماعي، وهو أُسوةٌ للنظم الدولية في تثبيت قيم عليا تضع مصلحة الإنسان في مركزها!
«تكليفٌ ثقيل» على هامش الصراع الدولي
وهذا ما أريد أن ادخل فيه تحديداً، إذا تأملنا في التكليف الرئيسي للنبي ﷺ من الدعوة وفي وقتٍ مبكر، سنجد تكليفين أساسيين، بدأ كل منهما بقوله سبحانه وتعالى وما أرسلناك (إلا).
فالأولى قال الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ: (وَمَاۤ أَرۡسَلۡناكَ إِلَّا كَاۤفَّة لِّلنَّاسِ بَشِیرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ). فالله سبحانه وتعالى هنا يخبر النبي ﷺ أنه عليك أن تعي بأنك أُرسلتَ «للناس كافة» بشيراً ونذيراً!
حسناً، تخيلوا يرحمكم الله، كيف ينزل هذا الخطاب على محمدٍ ﷺ في القرن السابع الميلادي -ربما في 614 م- في المرحلة المكيّة الأولى، ما الذي كان يحدث في ذلك الوقت؟
العالم كان فيه قطبان عظيمان يديران العالم هما الفرس والروم. و مكة بلدة صغيرة منعزلة في مكانٍ ناءٍ بعيد، لا يُعرفُ عنها إلا ما يتداوله بعض التجار الذين يديرون تجارةً عابرةً للصحراء. عدد محدود من الجمال ينقل البضائع سنوياً من اليمن للشام والعراق والعكس.
في هذه الأثناء هناك صراع دولي هائل على أطراف الجزيرة، وحرب مستمرة منذ عام 602م بين الفرس والروم طحنت الجانبين في معارك هائلة. ونزل هذا التكليف على النبي ﷺ في عام 614م وهو ذات العام الذي دخل فيه الفرس إلى فلسطين وسيطروا على القدس واحتلوا الشام ومصر، و سنأتي لاحقاً لهذه القضية.
نحن الآن أمام التكليف الأول؛ نزل على نبيّ يعيش في مكة بأدوات أهلها بتواصلهم مع العالم -الذي كان متاحا لكنه محدود-، بعيداً عن المركزيات القطبية العالمية، قيل له «وَمَا أَرۡسَلۡناكَ إِلَّا (كَاۤفَّة لِّلنَّاسِ)»!
«الناس» في ذلك الوقت تشمل الجميع؛ تشمل الصين والهند، فهو كان يعلم بها لأن منتجات هذه البلدان كانت تأتي من خلال طرق الحرير إلى عدن، ثم تنقلها القوافل عبر مكة إلى الشام.
وكان يعلم بأوروبا كذلك لأن الروم والقرشيين في ذلك الوقت كانوا ينقلون إليها بضائعهم، ونذكر هنا أن تجارة قريش جزء أساسي منها كان في اللبان والبخور التي كانت تُحرق في الكنائس في أوروبا كجزء من الطقوس الشعائرية، وكانت البضائع تنتقل من عدن عبر مكة إلى غزة ثم إلى أوروبا.
وهو رسولٌ لمصر والحبشة وإفريقيا التي يعرف أيضا عنها، فهي قريبة من مكة جغرافيا، وتجارتها مع مكة مستمرة، كما أن نسبة من سكان مكة ذوي أصول افريقية، فهو يعرف عنهم وعن عاداتهم ، ولكن ماذا عن العالم خارج هذه المناطق التي يعرفها؟ إنه رسول للناس، أي سكان الأرض قاطبة، يا له من تكليف ثقيل! ويا له من تشريف عظيم!
هدفي من هذه المقدمة هو أن أضعكم في الإطار النفسي للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما يريد أن يتعامل في الواقع بتنفيذ أمرٍ إلهي بأن يكون رسولاً للعالمين.
فكيف فعل هذا؟ كيف قام بمهامه رسولاً للناس كافة؟
تكليفٌ ثانٍ يصنع «العقل الاستراتيجيّ» المحمدي
التكليف الثاني يبدأ أيضاً ب"ما أرسلناك إلا" فقال سبحانه وتعالى: «وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمةََ لِّلۡعَـٰلَمِینَ». فمن هم «العالمين»؟ هو مفهوم أوسع من "الناس". ف«العالمين» تشمل كل ما خلق الله سبحانه وتعالى، تشمل الإنس والجن والحيوانات والجماد والنبات والأكوان وكل شيء مخلوق. فهي ليست عالم ولا عوالم بل «عالَمين»، فأنت يا محمد ما أرسلت إلا رحمةً لهذه العوالم الكثيرة المختلفة التي خلق الله سبحانه وتعالى.
إذاً أنت رحمة للإنس والجن والطير والحجر والشجر والكون والمناخ، ورحمة للبشر جميعاً ورحمة لكل المخلوقات التي وجدناها والتي سنجدها مستقبلاً في أي مكان في العالم!
هذان التكليفان، الأول أنك للناس كافة والثاني أنك رحمة للعالمين، هما اللذان صنعا الوعي الإستراتيجي العميق للنبي ﷺ.
ولذلك كنت كلما قرأت عن الفعل الاستراتيجي للنبي صلى الله عليه وسلم أصل للتساؤل التالي: ما الذي يميز نبياً -محمد ﷺ- عن غيره من زعماء وقادة العالم؟
كيف أصبح أباطرة التاريخ «عِظامًا»؟
قراءتي بدأت كالتالي؛ قرأت عن زعماء ذلك الوقت أو قبله وأباطرة التاريخ وهذا بعض ما وجدت:
أعظم زعيم لفارس والدولة الأخليمية كان كورَش في القرن السادس قبل الميلاد، أي نتحدث عن 530 ق.م، الذي بنى أكبر امبراطورية عرفتها البشرية في ذلك الوقت، وهي الإمبراطورية الفارسية التي امتدت حتى شرق أوروبا ووسط آسيا إلى القوقاز ومصر وليبيا والسودان.
ثم جاء حفيده داريوس، وكان يسمى داريوس العظيم أو داريوس الأكبر لأنه حكم 34 سنة، وبنى الإمبراطورية بناءً محكماً وعظيماً وأدارها بنظامٍ إداري عظيم، بنى طرق سريعة Highways كانت تمتد آلاف الكيلومترات، حتى أنه يقال أن الطريق الذي بناه من أكسس إلى أزمير في تركيا إلى وسط آسيا كان آلاف الأميال! وكانت هذه الطرق تستخدم للتجارة، ثم بنى التشريعات النظم والقوانين. ويقال أنه أول من بنى قناة ربطت البحر الأحمر بالبحر المتوسط وهكذا.
وقرأت عن سيرة الإسكندر المقدوني في 330 ق.م، الذي يعتبر أعظم شخصية في التاريخ العسكري الأوروبي والرمز الأهم الذي أثر في كل الوعي الاستراتيجي الأوروبي!
بنى إمبراطورية واسعة امتدت من وسط الهند وأخذ مصر وبنى في ثمان سنوات امبراطورية واسعة.
والآن يعتبر الإسكندر المقدوني رمزاً قومياً وطنياً جامعاً لليونان. وإن حاولت أن تنتقص منه عند أي يوناني سيغضب غضباً شديداً وربما يعتدي عليك بالضرب إذا حاولت أن تقول شيئاً كهذا.
ومن طريف الأمر ، الصراع بين مسدونيا واليونان حول هوية الاسكندر. نحن نسميه المقدوني لكن اليونانيون يرفضون أنه مقدوني- فمسدونيا الحالية -والتي هي مقدونيا- حاولت أن تبني تمثال له في وسط العاصمة، فقاطعتها اليونان وأجبرتها على أن تغير اسمها حتى لا تستأثر به وتدعي أن الإسكندر منها، ومنعت دخولها في الإتحاد الأوروبي! واضطرت ماسادونيا لتغيير الدستور وإعادة تسمية نفسها «بشمال ماسادونيا» حتى تدخل في الإتحاد الأوروبي وترفع اليونان الحظر عنها، فانظر إلى قدر هذه الشخصية في الوعي اليوناني!
ثم ننتقل إلى سيزر قيصر وهو أعظم شخصية رومانية ثم ابنه أوغسطس الذي أصبح الإمبراطور من بعده، فهؤلاء جميعاً اقترنت أسماؤهم بمصطلح «الأكبر»، فنقول داريوس الأكبر، الإسكندر الأكبر، سيزر الأكبر(قيصر)، وأيضاً نابليون أصبح يقال له الأكبر Napoléon the great في بعض كتب التاريخ. وهو أيضاً أقام إمبراطورية .
ثم نأتي من بعد ذلك لوقتنا الحاضر، ونرى شخصيات حاولت أن تفعل أشياء كثيرة جداً وأن تبني إمبراطوريات أيضاً وأن تخوضَ حروباً ضخمة. فما المشترك بين كل هؤلاء الزعماء في العالم؟
«الاستيلاء والاستعلاء».. وصفة تغيير خارطة التاريخ
المشترك بين أولئك الزعماء أنهم استخدموا الجيش لكي يوسعوا نفوذهم ورقعة أراضيهم! فكل هؤلاء أعادوا رسم الخرائط العالمية وضموا لهم الأراضي وأقاموا إمبراطوريات ضخمة وغنية جداً، وبنوا طرقًا ومعماراً هائلاً جميلًا. ولكن أساس كل ذلك السلطة مبنية على الفعل العنيف، أي على العمل القائم على الصراعات العسكرية.
ولذلك يغفل المؤرخون عن عدد من النقاط الأساسية:
- أولا، أن معظم هؤلاء في الحقيقة، احتلوا شعوباً ونهبوا خيراتها ثم عرفت عواصمهم الثراء من نهب خيراتِ تلك الشعوب.
- ثانياً، أنهم في احتلالهم لهذه الشعوب، سلبوا إرادتها في تقرير مصيرها.
- ثالثاً، أنهم في الحقيقة استطاعوا أن يبنوا شخصيةً قومية قائمةً على تراتبية اجتماعية طبقية.
فإذا كنت في زمن قيصر وكنت رومانيا، فإنك إن أعلنت ذلك في أي دولة فستلقى سلام تعظيم، ولن يستطيع أحد أن يعتدي عليك. أما إن كنت تحت حكم الرومان ولم تكن عرقياً روماني فأنت إنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة من المواطنين، ويمكن أن يُعتدى عليك والقوانين لا تسري عليك كما تسري على الرومان. لأن الرومان شعبٌ له قيمته الخاصة بحكم القوة العسكرية والنفوذ المختلف في العالم للدولة التي ينتمون إليها.
ولو كنت يونانياً أو مقدونيا من أتباع الإسكندر المقدوني، لكنت مميزاً عن بقية الخلق في تلك اللحظة لأنك تنتمي إلى ذلك العرق النبيل المستعلي الذي يقوده رجالٌ من أمثال الإسكندر.
وإذا كنت في زمن داريوس و كورَش وجستنيان الإمبراطور البيزنطي في عام 540م الذي عمل أيضاً في الدولة البيزنطية وبناها بالشكل الذي تعرفونه، لكان الوضع كذلك أيضاً.
أما ما عدا هذه الأعراق فكانوا يُسمونهم بمسميات دونية: همج متوحشين برابرة Barbaric، وكانت الدولة الرومانية تستخدم هذا المصطلح دائماً، ففي منظورهم وحدهم الشعوب المنضمة إلى الدولة الرومانية هم نبلاء ومتحضرين، أما الشعوب التي لا تنضم لها أمثال القبائل الجرمانية Germanic tribes فكانت تعتبر همجية Barbaric، ولذلك جاز أن يُفعل بهم كل شيء! أن يقتلوا ويبادوا وتقتل نساؤهم وتغتصب، لأنهم شعوب همجية غير متمدنة barbaric nations.
فكانت هذه التراتبية هي أساس الاستعلاء الذي بنى عليه الأباطرة إنجازاتهم التاريخية. هي العصبية التي استطاعوا من خلالها أن يحكموا العالم!
إذاً كل هؤلاء فعلوا شيئين: الأول مركزية السلطة والثاني جمع الأموال ووضعها في مركز دوّلهم-أي عواصمهم-. فتجد روما بديعة جداً ولكن أطرافها فقيرة، وتجد اليونان كذلك بديعة جداً لكن هذا لا يعني أن بقية الأراضي التي فتحها الإسكندر تعيش حالتها من الازدهار الاقتصادي وهكذا.
وبالتالي مركزية السلطة والمال والإستعلاء العرقي أو القومي على بقية الأعراق التي تحكمها الإمبراطورية هي سماتٌ مشتركة بين كل الذين غيروا خرائط التاريخ، لكن النبي ﷺ قد غير الخرائط كذلك بمنهج مختلف.
«منهج فريد» في تغيير خارطة التاريخ
بُعث النبي ﷺ في قريةٍ صغيرة نائية عن مراكز الثقل السياسي العالمي، لكن خلال سنواتٍ قليلة -23سنة- استطاع أن يوحد جزيرة العرب التي لم يسبق لها أن وُحِّدَت تحت رايةٍ واحدة، وامتد تأثيره بعد وفاته ﷺ بعد سنتين فقط لتبدأ الفتوح الكبرى التي أخضعت الدولتين الكبيرتين –الفرس والروم- أو أجزاء مهمة منهما!
إذاً فقد غير محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام التاريخ وغيّر خرائطه، ولكنه فعل ذلك بمنهج فريد! وهذا الذي نريد أن نتحدث عنه اليوم وفيما هو قادم إن شاء الله.
فما الفريدُ في منهج محمد ﷺ؟!
هنا نتحدث عن فعله في الشأن العام ( والمقصود به تفاعله مع القوى المختلفة؛ تحالفاته ومحادثاته ومراسلاته وغزواته وسراياه ورؤيته للعالم )، فمن المعروف اليوم أن كل شيء له علاقة بالمنظومة الدولية قائمٌ أصلاً على الصراع والتنافس، فهل طبق النبي ﷺ هذا المفهوم؟ هل مركَزَ السلطة والمال؟! هل قدَّم أُمةً على كل الأمم التي وصلها الإسلام في زمنه أو زمن صاحبيه أبي بكرٍ وعمر-لأنني دائماً أقول أن فترة أبي بكر وعمر كانت امتدادا إستراتيجياً لسيرة النبي ﷺ من الناحية المنهجية-؟
فكنت أتساءل ما الذي يميز النبي ﷺ؟ ما الفرق بينه وبين من ذكرنا ممن أعادوا بناء العالم وفق خرائطهم؟
إن أول شئ يجب أن نفهمه أن محمد ﷺ هو رسول ونبي، وهذه مسألة مهمة. لذلك مع أنه فعل إستراتيجياً وسياسياً أشياء عظيمة جداً و بنى نُظماً إجتماعيةً وإقتصادية إلا أننا ينبغي أن لا ننسى أن الرسالة هي نقطة البداية دائماً.
فهذا نبيٌّ لا يريد علوّاً في الأرض من خلال الفتوح أو إخضاعا للأمم، ولا يريد علوّاً لقومه المخصصين -من أبناء قريش أو مكة أو حتى الأنصار- على بقية الأمم الأخرى. ولا يريد ثراءاً كما كان يفعل الأباطرة حيث كانوا يبنون ملكهم بجلب المال من الأراضي المفتوحة إما نهباً أو بالضرائب أو الغزوات.
فكما قلنا، كان التكليف الإلهي الأساسي للنبي ﷺ منذ اللحظات الأولى، أنك يا محمد رسولٌ للناس كافة وثانياً أنك رحمة للعالمين. لهذا بُنيَ النبيُ ﷺ بناءاً نفسياً منذ البداية على أنه نبيُّ وأن رسالته متعديةٌ لقومهِ المباشرين، وأنها شاملةٌ ليس للبشر فحسب بل للخلق جميعاً، للعالمين!
ثم هناك شيء ثالث مهم جداً وهو أن الرسول ﷺ ليس كبقيةِ الأنبياء من قبله، قال الله تعالى في خطابٍ لأتباعه: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحد مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیما) هذا شيء عجيب جداً! فعندما تكون يا محمد خاتم الأنبياء بمعنى أنك خاتم الرُسُل، فإن رسالتك هي خاتمةُ الرسالات وأنت بذلك خاتم المرسلين، فرسالتك فاعلة في الأرض إلى قيام الساعة، وكل فعل أو قول ستقوم به الآن ينبغي أن يأخذ بالاعتبار هذا المستقبل الممتد لعصور طويلة قادمة.
ثلاثة مكونات شكلت نفسية النبي ﷺ
هذه العناصر الثلاثة لو دخلت في عقل أي إنسان لشكلت منهجاً جديداً! لأن أهم ما في مثل هذا الموقع -أن تكون للناس كافة-، هو أن تشريعاتك وتقديرك للأمور وقراراتك المتعلقة في تصرفاتك اليومية وتصرفاتك السياسية والاستراتيجية لا تؤخذ بعنصر البراغماتية الآنية كما يفعل الساسة عادةً، ولا بالتقدير الاستراتيجي متوسط أو قريب المدى كما يفعل القادة الكبار، وإنما تأخذ بالإعتبار أن كل فعلٍ أو قولٍ تقوله الآن سينعكس حتى قيام الساعة على كل من سيأتي بعدك متبعاً لنفس الرسالة التي جئت بها، وهذا لعمري أفق من الزمن لم يأخذه بالاعتبار من الخلق أحد!
طبعاً هذا عبئ نفسي ثقيل! شيء كبير جداً، فعندما تفكر وتضع نفسك في هذا الموقع ستعي أن عليك أن تحسب الأمور بشكل مختلف.
حسابات النبي ﷺ ليست كحسابات القادة والزعماء ولا الفاتحين، لأنه لا يحركها الطمع في النصر ولا بناء الدولة ولا تحقيق إنجازاتٍ قومية ولا تحقيق منزلة في التاريخ ليُكتب إسمه على جدران المعابد والمسلات الذهبية.
وإنما كان ﷺ يفعل الفعل ويتأمل في وقعهِ على الإنسان حتى قيام الساعة، باعتباره آخر نبي، وبما يحقق للناس والوجود كله من رحمة !
هذه المعادلة هي التي بنت الوعي النفسي للنبي ﷺ ثم انعكست من بعد ذلك على تصرفاته السياسية والإستراتيجية والاجتماعية والإنسانية وتعامله مع البشر.
ولو أدركنا التركيبة النفسية للقيصر الأكبر في روما على سبيل المثال، سنجد أنه كان يريد المجد، لأنه كان يحب أن يصل منزلةً لم يصلها من قبل أحد فاحتل جزءاً كبيراً من أوروبا، ثم أعلن نفسه دكتاتوراً في روما، وتولى ابنه بالتبني اوكتافيوس بناء الإمبراطورية. فكان مجده الشخصي هو الدافع الرئيسي.
وكان بعض الأشخاص يندفعون لمجدهم الشخصي ولحبهم لقومهم –الفئة التي ينتمون إليها- لكن النبي ﷺ لا ينطبق عليه كل ذلك، إنما ينطبق عليه أنه رسولٌ للعالمين وللناس كافة وأنه خاتم المرسلين، وأنه مكلف بأخذ هذه العناصر الثلاث وتنزيلها على الأرض التي يعيش فيها، في الزمان والمكان في مكة وفي توازنات القوة السائدة في بداية القرن السابع الميلادي.
التفاعل مع الواقع «على كرسي التنفيذ»
هنا يأتي أمتع ما في دراسة الأبعاد الإستراتيجية في السيرة النبوية حقيقةً، لأنك تستطيع أن تتوقع كيف يتصرف القائد العادي، وتستطيع أن تتوقع كيف يتصرف السياسي العادي، لكنك الآن أمام نموذجٍ جديد ومختلف عن النماذج الأخرى!
ولكنه في نفس الوقت قائد هو الآخر، يتفاعل مع نفس المكونات التي يتفاعل معها الآخرون؛ يتفاعل مع تحالفات وإئتلافات وأعداء، يتصارع ويتصالح معهم ويدرك موازين القوة والإطار الدولي ويعرف منظومة القبائل، ويعرف القوي والضعيف، ويعرف أخلاق الناس ويعرف المرحلية والأولويات. فالنبي قائد في الزمن الذي هو فيه، وهو رسول رحمة وأسوة لكل الناس حتى قيام الساعة؛ هذه ثنائية فريدة، وهذا بحث بديع!
كيف ينضبط هذا الواقع السياسي؟
بمجموعة من الأساسيات؛ أولا، بموازين قوة. ثانياً بتحالفات، ثالثاً بأولويات، رابعاً بمآلات، فعندما تتخذ قرارًا بمكان ما تعرف أنك عليك أن تدرك ما سيحدث بعد اتخاذك له وإلا سيكون كلامك خبط عشواءً.
ولكن في نفس الوقت، عندما تجلس كنبيٍ مرسل رحمة للعالمين وللناس كافة وخاتم المرسلين على كرسي التنفيذ فيصبح لكل ما سبق صبغة خاصة!
ولذلك أريد أن أشعركم بعظمة الموقع في تلك اللحظة من الزمن، بفهم هذه الأبعاد الثلاث وتكوينها لشخصية النبي ﷺ، وأن تدرك أن هذه الأبعاد الثلاث لم تصنع فلسفةً طوباويةً متعاليةً مثل تعليمات بوذا أو ماني أو زارادشت أو تعليمات كثير من المصلحين الكبار الذين جاءوا في التاريخ، وإنما صنعت تفاعلاً مع واقعٍ حقيقي بأدوات ذلك الواقع، وهذا أمر عجيب جداً! وهذا أجمل ما في دراسة سيرته ﷺ وربط النقاط وبناء المنظومة بناءً محكماً.
«أمل المساومة» إعلان حازم نهائي وقاطع
رأينا كيف رسخ الله سبحانه وتعالى في ذهن النبي ﷺ منذ اليوم الأول أن تفاعلك السياسي والاستراتيجي وموازين القوة ولقاءك مع القبائل ودعوتك وهجرتك وما إلى ذلك، تقدير تُقَدره وفقاً للأحداث التي تجري في زمانك، ولكن هناك مجموعة من القواعد التي ينبغي أن تنتبه إليها وأن لا تتعداها على الإطلاق، حدود واضحة تماماً أولها أنه لا مداهنةَ في أمر الدين!
هذا الموضوع منتهي، بإمكانك أن تتكلم بطريقة لينة وتحاول أن تدخل مداخل حسنة وتبني تحالفات جميلة، وحتى بإمكانك أن تدخل في جوار أحد الكفار كما دخل النبي ﷺ في جوار مُطعم بن عُدي عندما كان كافراً، وبإمكانك أن تتحالف مع بعضهم كما فعل مع خزاعة، ولكن عندما يأتي الأمر للدين فإياك أن تداهن أو تساوم كما نبه الله سبحانه وتعالى حين قال «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ».
فقد كان بود قريش لو جاملهم النبي ﷺ في الدين قليلاً، فقد دخلت قريش في مفاوضات طويلة لحل الأزمة مع النبي، لأنها قبيلة تجار والتجار يميلون للاستقرار وهذا يسري على أي عاصمة تجارية أو مجتمع تجاري، إذ تجد أنهم يميلون للمساومة ومحاولة وجود خطٍ مشترك لنزع فتيل أزمةٍ يرونها مدمرةً لاقتصادهم ومعاشهم.
لذلك كانت قريش تطمع أن تصل إلى معادلة سلمية مع النبي ﷺ لتحل الصراع الداخلي في قريش، لأنها لا تريد أن لا تصطدم مع بني هاشم الذين وقفوا معه، وبني عبد مناف وحلف المطيبين عموما.
حاولوا كل المحاولات مع النبي ﷺ، وقد كان ليّناً في كلامه معهم في كل شيء، لكن ما إن وصل الأمر للعقيدة حتى بان حزُمه.
فعندما جاءوا ليقولوا له يا محمد ما رأيك أن تعبد إلهنا يوماً ونعبد إلهك يوما؟ كانت هذه مسألة منتهية لا مساومة فيها، وكان من أوائل ما نزل هذه الآية: (وَدُّوا۟ لَوۡ تُدۡهِنُ فَیُدۡهِنُونَ * وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّاف مَّهِینٍ) وكذلك قوله تعالى (قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ لَاۤ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ وَلَاۤ أَنتُمۡ عَـٰبِدُونَ مَاۤ أَعۡبُدُ وَلَاۤ أَنَا۠ عَابِد مَّا عَبَدتُّمۡ وَلَاۤ أَنتُمۡ عَـٰبِدُونَ مَاۤ أَعۡبُدُ لَكُمۡ دِینُكُمۡ وَلِیَ دِینِ) وهذا إعلان حاسم قاطع لا هوادة فيه ولا تهاون !
كان المشركون يحاولون قدر المستطاع إيجاد حلٍ مع النبي ﷺ، فقالوا ما رأيك يا محمد في أن تعبد إلهنا يوماً ونعبد إلهك يوما؟ وإذا أردت أن تعبد إلهك أعبده في بيتك فهناك من الناس من هم أحناف مثل ورقة بن نوفل وغيرهم، ليسوا على دين قريش ولا يسألهم أحد لأنهم جالسون في منازلهم ولا مشكلة لدينا معهم.
لكنك أتيت بما يفسد علينا منظومتنا الاجتماعية والاقتصادية! تتكلم مع عبيدنا وتحولهم إلى أُناس يناطحون الأسياد، وتنتقد النظام القائم على السؤدد والزعامة القرشية المتحكمة في الضعفاء، وتحاول أن تبعدنا عما قامت عليه الاستثنائية القرشية من استعلاء وسؤدد وتفاخر بالأحساب . ثم إنك تدعو إلى إله واحد، فكيف إذا وافقناك على ذلك وخسرنا بقية العرب ممن يعبدون آلهة متعددة؟ وهذا البيت الذي يؤمونه جميعا على اختلاف آلهتهم هو أصل تميزنا، يحجون إليه فيحققون لنا معشر قريش المكانة والمال؟
أصبحت قريش تعادي النبي ﷺ لأنهم رأوا في ما يقوم به خطرا على تميزهم ومكانتهم وهذه مسألة مهمة، فأرادوا مساومته على الدين قليلا، فنزل الإعلان في (سورة الكافرون) حتى يقطع أملهم في المساومة على الدين! الإعلان بسيط لكنه حازم قاطع نهائي مكرر بشكلٍ واضح تماماً، لكل أعمى أو أصم، بأن الموضوع منتهي. إذاً عندما يتلى مثل ذلك الإعلان فأنت وضعتَ حداً لا يمكن إطلاقاً لأحدٍ أن يفكر بأن يقطعه، هناك مساحات للمساومة لكن لا مساومة في الدين.
اعتقاد النبي ﷺ لا يُساومُ عليه، ومبادئُ دينه لا يساوم عليها. لذلك كان على قريش أن تعي أنهم ليسوا أمام تاجرٍ يريد أن يحقق مجداً أو سؤدداً كما كانوا يظنون، ولا تميزاً على بقية أقرانه أو على قومهِ، ولا مُلكاً كما اعتقد بعضهم في لحظةٍ من اللحظات.
وإنما هم أمام رسول لرب العالمين، وتكليف الرسول هو حمل دين الله عز وجل ومهمته تبليغ ما أُرسل به وما أُنزل عليه من ربه، وهذا هو أساس الأمر وجوهره!
مساحات «اللين والحزم»
صاحبت هذه القاعدة النبي ﷺ في جميع تصرفاته، إذ حددت مساحات التعاطي واللين ومساحات الحزم، وسأضرب لكم بعض الأمثلة السريعة.
بعدما فُتحت مكة ثارت قبائل هوازن وثقيف بعد أيامٍ قليلة -ثقيف مركزها مدينة الطائف ، وكانت المدينة الثانية في الحجاز وهي ذات قوة ومنعة لأن فيها حصون.
فقام النبي ﷺ بعد حنين بحصارها خمسة عشر يوماً، ولم يستطع أن يفتحها فانسحب منها وعاد إلى المدينة المنورة. وبعد وقتٍ من الزمن، بسبب إستراتيجيات حصار ومشاغلة وضعها النبي ﷺ، اضطروا أن يأتوه مستسلمين.
حسناً، أريد أن أعيد لأذهانكم علاقة النبي ﷺ القديمة بالطائف، فقد حاول في السنوات الأولى من البعثة أن يذهب إليهم ليطلب منهم أن ينصروه وأن يؤووه في رحلة الطائف التي هاجر فيها النبي ﷺ بعد موت خديجة رضي الله عنها وعمه أبو طالب.
حاول أن يلجأ لمكانٍ آخر خارج مكة، لأنه أيقن أنها قد أغلقت أبوابها أمام الدعوة، فذهب إلى الطائف وبدأ حواراً مع أهلها، لكنهم -بقيادة زعيمهم آنذاك عَمرو بن عبد ياليل- أهانوه واستهزأوا به، قائلين إن كنتَ نبياً من عند الله فنحن لا نستطيع أن نتحدث معك لأنك أعلى منّا بكثير، فأين نحن منك! استهزاء به، وقالوا ألم يجد الله أفضل منك أو أشرف منك في قومك حتى ينزل عليك الرسالة؟ أنظر إلى نفسك، لا مال ولا عز ولا غيره، لماذا لم ينزل على شخص عظيم من القريتين –أي مكة والطائف-؟ ثم طُرد ﷺ واعتدِيَ عليه، وسال الدم من قدميه الشريفتين.
وعندها قال حديثه الجميل البديع ودعاءه الرائع الذي نعرفه جميعاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعفَ قوَتي وقِلَةَ حيلتي وهواني على الناس، يارب المستضعفين...)
هذا عمرو بن عبد ياليل كان زعيم الطائف، وكان شاباً صغيراً عمره 23سنة وقتها، والآن كبر في السن عندما حاصر النبي ﷺ الطائف، وبدأت ثقيف تفكر في كيفية الخروج من هذه المشكلة. فاتفقوا على أن يرسلوا وفداً لمفاوضة النبي ﷺ بزعامة نفس الرجل!
وفي الحقيقة لو كنت مكانه لقلت أن هذا الرجل سينتقم مني فقد أهنته، ولكنه كان يعرف عن أخلاق النبي ﷺ وأنه كان يعفوا عن من جاءه، ثم أنه ﷺ يحترم قواعد السفراء ولم يكن يقتل سفيراً أيا كانت القبيلة وإن كانت تحاربه. فذهب الوفد وعلى رأسهم عمرو بن عبد ياليل ليجلسوا مع النبي ﷺ.
وطبعاً إسلام الطائف سيكون إنجازًا تاريخيا وإستراتيجيا عظيما لأنه إنهاءٌ لآخر جيبٍ مسلحٍ في الحجاز، فإن أسلمت الطائف قامت دولة المدينة عاصمة لجزيرة العرب بلا منازع.
فاستقبلهم النبي ﷺ وأكرم وفدهم ونصب لهم خيمةً في المسجد -وكانوا كفاراً-، وأقاموا في بيت المغيرة بن شعبة، وكان ثقفيا هو الآخر. وأمر ﷺ بطبخ الطعام لهم وأن يُكرموا في بيت المغيرة بن شعبة. أما التفاوض فكان يتم في المسجد، فيقضون معظم يومهم في المسجد يتفاوضون، ولم يكن التفاوض يتم مباشرةً مع النبي ﷺ فهذه أصول التفاوض عندهم، فكان بينهم وساطة بقيادة رجل يسمى خالد بن سعيد بن العاص وكانت أمه ثقفية، ولذلك كان يعتبر مقبولا لأنهم بمثابة أخواله.
قال الوفد يا محمد نحن نريد أن نسلم ولكن لدينا شروط:
- أولاً، أن تبيح لنا الزنا فإننا قومٌ لا نصبر على النساء.
- ثانياً، أن تبيح لنا الخمر لأن كل إقتصادنا قائم على العنب وأهم خمر يُصنع في الجزيرة هو خمرنا.
- ثالثا، نبقي الربا، والطائف كانت مدينة للخدمات المالية لقريش وفعلاً كانت تقوم على الربا، وكان زعماء قريش يذهبون إليها للاصطياف لجمال الجو وبرودته، والسياحة فيها مبنية على الخمور والنساء والمتعة، فكانوا متمسكين بهذه الأشياء تمسكاً شديداً.
- رابعًا، موضوع الصلاة ثقيل علينا، خمس صلوات كثيرة فنريد أن تراعينا.
هنا ننبه إلى أنه لو كنت أنت مكانه منتصراً وكل قبائل العرب دانت لك ومكة فُتحَت وأنت محاصِر للطائف عملياً لأنهم إقتصادياً لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا، ومن الواضح أنهم جاؤوا وقرار الإسلام قد اتِخِذ وإلا لما جاءوا، لربما تصرفت معهم بعنف وغلظة .
ومع هذا كان النبي ﷺ كريماً لطيفاً يتحدث إليهم لأيامٍ طويلة، وهو يحاورهم في كل نقطة ليقنعهم بأن هذا الكلام لا يجوز في خلق العرب ولا في مصلحة الإنسان السوي.
فقالوا حسناً نوافق على موضوع تحريم الزنا والخمر، وبدأوا بالتراجع إلى أن وصلوا لموضوع عقيدتهم -وهو مربط الفرس-، فحاولوا المساومة على عبادتهم لصنمهم الشهير وقتئذ: اللات، وقد كانت أهم من العُزى في عرف العرب، وكان مركزها في الطائف وقد بنوا لها بناءً يشبه الكعبة وكان يزورها الحجاج ويعظمونها ويقدمون لها صدقات وكان لها كنز، فهي مكسب كبير للطائف على كل الصعد. فقالوا: أما ربَتُنا (يقصدون اللات) فلا نهدمها! فطلبوا أن يدعها لهم لثلاث سنين وبعدها سيتصرفون.
فقالوا له أما اللّات فثلاث سنين، فقال لهم لا هذا غير مقبول، قالوا له حسناً دعها سنة واحدة وراعنا، وكان منطقهم الذي حاولوا تبرير موقفهم من خلاله أنهم شخصيا سيسلمون، لكن عندما يعودون لأهلهم سيجدون منهم ممانعة شديدة فهم يعبدون اللّات، ويعتقدون بأنها يمكن أن تؤذيهم إن هم هدموها، فمنطقهم هو: دعنا نحن نصبح مسلمين، ونُبقي على اللات حتى يتعود الناس على الإسلام وبعدها نهدمها.
لكن النبي ﷺ رد بالرفض القاطع، فقالوا حسناً ثلاثة أشهر، فقال لا يجوز، قالوا له شهر! فرفض النبي ﷺ فالإسلام واحد، فلا يوجد إسلام خاص بأهل الطائف وإسلام خاص لبقية البشر!
فقالوا: اذن لنا طلب أخير، أن لا تأمرنا بهدمها بأيدينا فأرسِل غيرنا ليهدمها، عندها وافق ﷺ فهذا لا يمس قواعد الدين. فلما عادوا إلى ثقيف، حاولوا اقناعهم من خلال حيلة، فقالوا نحن جئنا من عند رجلٍ قد دانت له العرب –وكان ذلك بعد تبوك- وهو الآن يحارب الروم وهذا رجلٌ قاتل وفظ وغليظ وقد فاوضناه لكنه أصر أن نهدم اللّات فرفضنا لأنها ربتنا ويستحيل أن نهدمها وخرجنا من عنده من غير اتفاق!
عندها قالوا لهم : أحسنتم صنعا! فنحن لن نهدم اللات أبدا!
ثم استأنف الوفد حديثهم فقالوا: وهو الآن يحضر الجيوش ليحاصرنا ونحن مستعدون لأن نحاصر حتى نموت دفاعاً عن ربتنا، ولو استمر الحصار علينا سنتين فقوموا على الفور لبناء الأسوار وترميمها وإحضار الطعام إلى الداخل لتخزينه بما يكفي سنتين على الأقل!
فوافق أهل الطائف على ذلك وبدأوا بتحضير أنفسهم وبعد بضعة أيام راجعوا موقفهم قائلين لو حوصرنا سنموت من الجوع، فعادوا إلى الوفد، واقترحوا أن تتم جولة جديدة من المفاوضات، وأن يتم عقد اتفاق مع مجمد، فالحصار الطويل مدمر للبلد، عندها أخبروهم بالحقيقة، وأن اللّات ستُهدم فعلاً، ولكن ليس بأيدي أهل الطائف أنفسهم.
حينها وصل إثنان كلفهما النبي ﷺ بالمهمة، هما أبوسفيان الخبير بالطائف -لأن لديه زوجة من الطائف ويملك مزرعة هناك وهو تاجر كبير-، والثاني هو المغيرة بن شعبة -وقد كان من أصحاب رسول الله الأوائل، وكان قد هرب من الطائف و أسلم وكان من دهاة العرب الكبار فله مهارة دبلوماسية وفطنة غير طبيعية هو وعمرو بن العاص-.
فأراد المغيرة أن يخدع أهل ثقيف ليهزأ بهم، فحمل الفأس وصعد على رأس اللّات وبدأ بضربها. وكان كل أهل الطائف جالسون في حزنٍ على هدم ربّتهم، وكانوا يعتقدون أن شيئاً سيحدث وأن اللّات ستُدافع عن نفسها.
فلما ضرب الرأسَ ضربته الأولى مثّل أنه خرّ على الأرض صريعا فصاحَ أهل الطائف تعظيماً للّات لأنها قد انتصرت على الذي يريد هدمها. وبعد برهة وقف المغيرة ضاحكاً فقال لهم: يا معشرَ ثقيف لقد كانت تقول العرب أنكم أعقل الناس والله إني أراكم أحمق الناس، هذا حجرٌ لا يضر ولا ينفع ولا يدري من عَبَده ومن لم يعبده ولقد هدمنا العُزّى وهُبل فما دافعت عن نفسها ولا فعلت شيئاً فهل تُدافع هذه الحجارة عن نفسها؟ ونزل فيها هدماً و دمرها واستقر الأمر للإسلام في الطائف.
«حجر الأساس» في كل تصرفٍ إستراتيجي
إذاً ثبات النبي ﷺ على هذه المبادئ منتهي، لكن بإمكانه مناقشة ومحاورة خصومه باللِّين فيما يتعلق بالأسلوب والطريقة أما في أمر الدين فلا تنازل.
لقد كان النبي مرنا في الشأن العام عموما، لا سيما في تعيين الأمراء على القبائل، فلم يغير التركيبة القيادية بشكل جوهري؛ هوازن مثلا هزمها الرسول ﷺ وكانت بقيادة مالك بن عوف، فلمّا أسلم عيّنه هو نفسه أميراً عليها، وطيّ كان جزء منها كافراً و زعيمها كان عدي بن حاتم الطائي وكان نصرانيا، فعيّنه النبي ﷺ أميراً عليها.
وكذلك غطفان، مع العلم أن زعيمها كان عيينة بن حصن وهو المسمى الأحمق المطاع، فأبقاه النبي ﷺ زعيماً على قومه. وكذلك الأقرع بن حارث أقره النبي أميراً على تميم، والعباس بن مرداس على سُليم... بقيّ النظامُ السياسي قائماً على ما هو عليه لكن بقيمٍ جديدةٍ وتبعية عامة للمركز الجديد في المدينة الذي يقوده النبي ﷺ.
أما بقية الزعماء الذين ذكرناهم في المقدمة فلم يكن لديهم مهمة أو تكليف إلهى معين، فكانوا يرون أنفسهم زعماء لمجدٍ حاضر أو مجدٍ قادم ، والدين أداة للسيطرة أو تحقيق النفوذ على الأتباع،
فالمسألة ليست مسألة دين بقدر ما هي مسألة بناء مجد وسلطة؛ وطالما تدفع الضريبة فلا مشكلة لنا معك وإن حاولت المطالبة بحقوقك أو التهرب من المحتل فستُدمّر ونكسر رأسك.
أما النبي ﷺ فورّث منهجه لخليفتيه أبي بكر ثم عمر، وكان لكليهما مواقف واضحة، تبدت في حزم أبي بكر في حروب الردة لأنه أمر له علاقة بالدين، وفي لين عمر اتجاه الأمم التي فتحت أراضيها وأقرهم على دينهم ، والقدس مثال ساطع.
كان موقف أبو بكر رضي الله عنه في الردّة موقفا حاسما، لا يختلف عن النهج النبوي في تبليغ أنه يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا يختلف عن إخبار الله سبحانه وتعالى للنبي ﷺ أن ودّوا لو تُدهِنُ فيدهنون، ولا يختلف عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع ثقيف.
فهِمَ أبو بكر رضي الله عنه الرسالة وقال والله لو منعوني عقال بعيرٍ كانوا يعطونه الرسول ﷺ في الزكاة لحاربتهم، فلا لعب في الموضوع!
لكن الدين لا مساومة فيه والرسالة هي حجر الأساس للنبوة وحجر الأساس في كل تصرفٍ إستراتيجي قام به النبي صلى الله عليه وسلم.
مفهوم جنيني في «فلسفة التعاطي» مع مكونات الرسالة
أختم بكلمةٍ حول موضوع مهم جداً، وهو ما حكمة الله عز وجل في أن جعل الرحمة وليس العدل من حيث المبدأ جعلها هي التكليف الأول والأهم للنبي صلى الله عليه وسلم؟
" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"
أريد أن أسألك سؤالا، إن كان التكليف رسالة خاتمة للبشرية بمعنى أنها أولا ستستمر إلى قيام الساعة، ثانيا للناس كافة وثالثًا للعالمين، ما هي الكلمة الجامعة التي تستطيع أن تقول أنها تلخص أساس فلسفة ومنهج التعاطي مع كل هذه المكونات؟
لن تجد ولم تجد مفهوما أفضل من الرحمة! لأن العدل متحققٌ إن تحققت الرحمة، وإن كنت نبياً فكل أمرٍ وكل قيمةٍ تنبع منها، لماذا؟
الإنسان يتفاعل في محيطه مع الجماد والحيوان والبشر ومع غيره من المكونات والكائنات، لو كانت الرحمة هي أساس الفعل الذي تنفعل فيه لتحقق من بعد ذلك أشياء كثيرة لأن أساس الرحمةِ هو أسمى قيمة موجودة ما بين أشياء كثيرة كالأم وإبنها بينهم رحمة، فإذا كانت أسمى قيمة إنسانية موجودة هي بين الوالدة ووليدها وذلك قائمٌ على الرحمة.
فلو بنينا على هذا المفهوم الجنيني الأصلي الأول منهجاً في تعامل النبي مع كل ما هو قادم لاستطعنا أن نعيد الأمور إلى نصابها الأساس، ومن هنا تنطلق علاقة الأشياء والبشر بالرسالة.
ولذلك الرحمة هي التي تصنع إستقراراً وتوازناً بيئياً، تصنعُ عدلاً إقتصادياً، تصنعُ إحتراماً لحقوق الإنسان والحيوان لأن الرحمة التي بنينا عليها اليوم ونحن نتكلم عن حقوق الحيوانات بُنيّت على أننا رحماء بها، وليست مسألة عدل بقدر ما هي مسألة رحمة.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك من دخل الجنة بسبب رحمته بكلب سقاه ماء بعدما رأى عطشه الشديد، وإمرأة حبست هرّة فمنعتها الطعام والشراب فدخلت النار، لم يكن بقلبها رحمة ، فمنظومة الرحمة لا تشمل فقط تعاملات البشر المادية والسياسية والإقتصادية، بل هي ميزانٌ عامٌ للوجود لكي يصل إلى لحظة إتصالٍ مع بعضه البعض وتوازنٍ قيمي كامل.
الرحمة هي التي تصنع Climbed Change الذي نعاني منه الآن ولو كان في قلوب البشر رحمة ما وصلنا لهذا الحال الذي نحن فيه، ولو كان في قلوب البشر رحمة ما وصلنا لدرجة أن 1% يملك ما يملكه 99%.
وبالمناسبة فقط بسبب كورونا هذا الأحداث الأخيرة يوجد بعض الأغنياء خمسة أو ستة من أمريكا كسبوا 260 مليار دولار فقط في أربع أسابيع ماضية من أزمات العباد، بينما سجل ٣٤ مليون من الفقراء فقدان وظائفهم، فأين الرحمة في ذلك؟
المسألة ليست مسألة عدل ، فثراؤهم قانوني، لكنه ليس أخلاقيا، فهؤلاء يحق لهم أن يكسبوا النقود لأنهم لم يسرقوها، فالناس ذهبوا للشراء من أمازون لجلوسهم بالمنازل، فأمازون كسبت في الدقيقة الواحدة كذا مليون، ولا مشكلة في ذلك قانونياً، ولكن الرحمة خلَت من قلوب العباد، لأن النظام الذي يحكم العالم الآن استبدل الرحمة التي ينبغي أن يتواصل الناس فيها مع أنفسهم ومع الوجود بمنظوماتٍ مصلحية نفعية مادية تحقق مكاسب للأقوياء.
النبي صلى الله عليه وسلم في تصرفاته بالإمامة وفي تصرفاته بالفعل الإستراتيجي كان رحيماً بالعباد؛ تخيل أنك جالس في الطائف، تمت إهانتك، طُردت، ضُربت، نزفت منك الدماء، وأنت لا تدري ما تفعل بعدها لأنك خارجٌ من مكة للطائف ولا خيار ثالث لك.
فتجلس عند هذا الجبل وفي حالةٍ يُرثى لها ثم يأتيك جبريل ويقول لك -كما ورد في الحديث المتفق عليه في صحيح البخاري ومسلم- يقول لك معي مَلَكُ الجبال و أمره الله سبحانه وتعالى أن يسألك ويأتمر بأمرك، فقال مَلَكُ الجبال يا محمد إن أرَدتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين –الجبلين- ودمرتهم فما تقول؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، "لعل الله يُخرجُ من أصلابهم من يعبُدُه ولا يشرك به شيئا"، وكان دُعاؤه أن: اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون!
يعني أنت في مثل هذه اللحظات من الغضب على الأقل ستريد التنفيس عن نفسك ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تشرب هذا المفهوم، مفهوم أنه نبيٌ للعالمين وأنه رحمة لهم، وهذه الرحمة داخلة في تكوينه النفسي حيث استقرت وثبتت وأصبحت شئ من التكوين الأصلي الطبيعي للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك في الطائف عندما حاصرهم حصاراً شديداً، والطائف هي التي أخرجته ولم يستطع أن يفتحها وقُتل من أصحابه أربعةَ عشر بالسهام، جاءه الناس وقالوا له ألا تدعو عليهم! فماذا قال؟! قال: اللهم إهدِ ثقيفاً وأتِ بهم مسلمين.
«رحمةٌ تغلبُ الغضب».. أعظمُ ميثاق إنسانيّ
في أُحُد عندما مُثِّلَ بأجساد المسلمين بما فيهم أقربُ رجلٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وأحبُ الناس إليه حمزة بن عبد المطلب، فالنبي كغيره من الناس تأثر تأثراً شديداً، لكنه نهى أن يُمثَلَ بأحَد، ونهى أبداً من أن يُعامل البشر بالمثل فقد إرتكبوا حماقةً تخرج عن طبيعة الرحمة التي جاء بها..
هذا نبي!
لو كان قائد مثلما كان جنكيز خان لفعل الأفاعيل، فقد كان جنكيز خان يقذف الجثث الموبوءة ويلقيها فوق الجدران على الناس في المدن المحاصرة فينتشر الطاعون بينهم. وكان إذا دخل هولاكو مدينة أبادها إبادةً تامة، قُتلَ في زمنه مائة مليون إنسان! عندما كان عدد سكان الكرة الأرضية ربما لا يزيد عن 450 مليون، أنت تتكلم عن ربع سكان الأرض قُتلوا على يد رجلٍ واحد بنى إمبراطورية واحدة،.
لكن كم الذين قُتلوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟!
في كل معاركه صلى الله عليه وسلم عشرات، حتى موضوع بني قريظة و900 و700 و400 هذا كلام فيه نقاش تعرضت له في كتاب الربيع الأول ، فالذي ثبت أنه قتل مقاتلتهم، وقتل المقاتلة لا يعني بالضبط أنك تقتل كل رجل بالغ منهم.
إذا استثنينا من قتل في بني قريظة فإن جميع من قتل من المسلمين وغيرهم في كل الغزوات والسرايا لم يزد على 600 شخص.
ولذلك الذي أقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تغلبُ رحمته غضبه، وأنه كان يعلم أنه ينقادُ برسالة تكليف سماوية من الله سبحانه وتعالى أصلها الرحمة وليس أصلها أن يكون منتصراً أو محققاً لمجدٍ لا بشري أو حتى مجدٍ للرسالة قائمٍ على العنف وإنما قائم على الرحمة.
ولذلك ختم المشهد البديع لفتح مكة بخطبته العظيمة التي يجب أن تُدرَس كميثاقٍ إنساني في حقوق الإنسان، عندما قال :الناسُ من آدم و آدمُ من تراب، وأن الناس سواسية كأسنان المشط ، مبدأ عظيم في المساواة، لم يقله أي من زعماء التاريخ الذي ذكرناهم، ولم يقل أحد منهم لقوم حاصروه وحاربوه وأخرجوه من داره: إذهبوا فأنتم الطلقاء!
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.