البروفيسور نيل فيرغسون من جامعة ستانفورد، لديه مبحث مثير يتناول فيه التطور التاريخي لشبكات التواصل الاجتماعي، والقاطرة التقنية التي استخدمت، والأثر الثوري (الفكري والسياسي) الذي أحدثته في مختلف الحقب التاريخية.
تطرق البحث للثورة الاجتماعية والصحوة الفكرية التي فجرها مارتن لوثر (1520م) في ألمانيا والتي نتج عنها ولادة الكنيسة البروتستانتية، وكيف استفاد مارتن لوثر من الطابعة في نشر أفكاره. مثلت الطابعة آنذاك اختراعًا حديثًا، أسهم بصورة فعالة في نشر المطبوعات، وجعلها في متناول الجميع وليس حكرًا على الأثرياء فقط. هذه الوسيلة الحديثة أنهت احتكار الكنيسة للإعلام الرسمي، وأفسحت المجال لطرح الأفكار المخالفة والتي لم تكن الكنيسة لتسمح بتداولها.
نفس المتلازمة تكررت مع الثورة الفرنسية (1790م)، والتي استفادت من تطور الماكينة البخارية والقطارات في نشر أفكارها والتواصل بين مختلف مكوناتها. أما الثورة الروسية (1917م) فلربما استفادت من الكهرباء والتلغراف في نشر أفكارها والتنسيق بين قياداتها.
حاولت أن أدرس ثورة الخميني (1979م) على ضوء نظرية بروفيسور نيل، فوجدت أنها لم تخرج عن المألوف، بل أن اعتمادها على التكنولوجيا كان أعمق وأوكد. كيف لا وقد اطلق عليها "ثورة الكاسيت" في إشارة إلى استراتيجية التواصل الجماهيري التي اعتمدها الإمام الخميني.
كان للإمام خطبا ثورية يبعث بها من منفاه في باريس الى أنصاره في الداخل. وعلى الرغم من تفوق جهاز السافاك (والذي كان من أقوى الأجهزة الاستخبارية في المنطقة)، إلا أنه عجز عن التصدي لأشرطة الكاسيت والتي أغرقت الشارع الإيراني.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي (2011-2012م) والتي لم تكن لتأخذ زخمها ولم تكن لتنتقل عبر الحدود (بل وعبر القارات) لولا ثورة الإنترنت.
أما آخر المشاهد التي يمكن رصدها في هذا المبحث فهو تطور الفكري الاشتراكي الديمقراطي Democratic Socialism في أمريكا (أو ما يعبر عنه بالـ Progressives Movement) والذي ظل المرشح الديموقراطي بيرني ساندرز يبشر به.
بدأت هذه الأفكار تتبلور منذ عقود، لكن "احتلال وول ستريت، وحملة we are the 99%" مثل أول ظهور علني لها. وعلى الرغم من أن هذه الثورة مازالت في طور التشكل، إلا أنه يمكن الزعم بأن القاطرة التي تعتمد عليها هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence وربما تقنيات الجيل الخامس 5G.
الخلاصة التي يمكن الخروج بها بعد هذا التجوال بين مختلف الثورات: أن الفكرة هي العنصر الأول في توليد الثورة؛ لكن نجاح الثورة وخروجها من التصور النظري إلى التطبيق العملي يعتمد بصورة أساسية على نظرية الشبكات، وأن الأخيرة رهينة بوجود قاطرة (أو رافعة) تقنية فعالة، بوسعها نقل الأفكار بين مختلف المكونات.