في ضيافة كورونا..
هذا العام أتانا العيد كما لم نعهده من قبل، وأبيتُ إلا أن أُجدد نفس المعاني من مقال العام السابق لكن مع لمساتِ ضيفٍ ثقيل نتمنى أن يرفعه الله سريعاً.. ويظل دائماً ليس كمثله عيد، فهوَ هوَ لكنّ التقارُبَ زاد هذه المرّة على المستوى الأسري الصغير والود وإستشعار النعم زاد على المستوى العلائقي الكبير..
إننا في هذا العام نستعدُ لقضاء عيدنا بشكلٍ جديد لكنه جميل، نزيدُ فيهِ قرباً لأبناءنا وإخواننا ووالدينا، وإن كُنا متغَربينَ جسدياً عن أهلنا فيزيد الوُّد بيننا ونعرف بحقٍ قيمة الوَصلِ الذي كان الله يكرمنا به أعواماً عديدة.. فالحمدلله على ما مضى ونسأله أن يتقبل أعمالنا وأن يعيد لنا أيام الوصل مستشعرين قيمتها حامدين له سبحانه..
العيد عودةُ فرح..
تُطلق كلمة (عيد) على كُل يوم فيه جَمْع، وهو مُشتقٌ من عادَ يعود، وكأنك عُدتَ إليه، وقيل أيضاً مُشتقٌ من العادة لاعتيادنا عليه وهو وقت عودة الفرح والسرور، ولُكلِ ديانة عيدُها ولكُل أُسرةٍ عيدُها وكما لكُل شخصٍ يوم ميلادٍ نُسميه عيدا لإستعادة فرحتنا فيه بأن رزقنا الله إياه، وبالرغم من كثرة الأعياد إلا أنه يوجد منها المُهم وغير ذلك، فالأعياد التي ترتبط بالناس من ميلادٍ وزواج وذكرى تخلُص برحيل أصحابها فتعود أياماً عادية وقد تُصبح ذكريات حزينه، أما ما ارتبطت بالشريعة السمحاء فتبقى ببقاء الإنسانية وتتجدد بتجدُدِها، ولذلك شرَع لنا الدين الأعياد الكُبرى التي نُعبر فيها على فرحتنا، لأن ما ارتبط بالطاعة يبقى أزليًا، وقد كان أحد هـٰذين العيدين "عيدُ الفطر المُبارك" حيث يسعدُ الناس بطاعتهم بعد صيام شهرٍ كامل، ومن لُطف اللطيف بنا فقد حرّم صيام يوم العيد حتى يكون فرحةً للجميع وعودةً للحياة بطابع متجدد، وكما قال ابن الأعرابي: "سُميّ العيدُ عيداً لأنه يعودُ كل سنةٍ بفرح"، فيبقى العيدُ عودة فرح بالرغم من اختلاف المجتمعات والحضارات والأحوال.
العيدُ شهادة تقديرية!
إنّ صيام النهار وقيام الليل، والكف عن الأذى والمعاصي والشهوات، وزيادة الإرادة بالحِفاظ على القُرب الدائم، كل ذلك التدريب استمر لمدة شهرٍ كاملٍ، إنّ بذور "اللهم إني صائم" قد حان وقتُ حصادها، فيُعتبَرُ عيد الفطر جائزةً تقديرية لما بذلهُ المؤمن في شهر رمضان، ليُجدد فيه المعاني الدينية التي أكرمنا بها الله بأن لا فرق بيننا، كُلنا صائمون واليوم كُلنا لربنا ولفضله راغبون، وقد خرجنا جميعاً من مدرسةٍ واحدة، ويوم العيد هو يومُ التخرج وقد أصبحنا بفضل ذاك الشهر مؤهلين لمتابعة العمل بأخلاق ديننا التي جددها فينا رمضان ليكون "يوم الفطر" الذي جعله الله يومَ فرحٍ للجميع، ناظرين بشوقٍ وراجين من الله أن يعيد فرحنا هذا كل عام .
إنّ شعور الرضا الذي يتبع الجُهدَ يُنسينا التعب، فالعيدُ يأتي ليجعلنا راضين عن أعمالنا وليُحيّيَ فينا شعور الإطمئنان أن هذا يوم التسامح، فنجدُ المتخاصمين وقد أقبل بعضهم على بعض يلتمسون الصفوَ والعفو الجميل.
هذا العيد..
ألا قد طَهُرت القُلوبَ، وترممت النفوس، وتجددت القيم من بعد شهر الرحمة والغفران، وليالي القُرب والنجوى، لنخرج من بعدها وقد رمينا جميع أثقال الهم في السجدَات والخلوات، يحِلُ رمضان ضيفا كريمًا خفيفًا ومُربيًّا عتيقًا، يُحيي في قلوبنا معاني التآزر والإحساس بالضعفاء والمحتاجين، معاني المساواة وأنّ لا فضل بيننا إلا بالتقوى، ويُختتم الشهر الفضيل ذا الأيام المعدودات فنشعُر بأنّ دواخلنا تُحبُ هذه الأيام وهذا القُرب وأن رمضان قد مضى سريعًا، فيكرمنا صاحب الفضل العظيم بأن يختتم لنا هذه الأيام المُباركة بالعيد..
لطالما كان أثر الأعياد على نفوسنا عظيماً فالعيدُ يعني العفو والحب والصفح وفي هذا العام يجيء القُربُ المحلي خاصاً بمقاييس الخير؛ أهل بيتنا الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَ خيرنا هو خيرنا لأهله. لقد شاء الله أن نكون قريبين فيهِ لهم فها نحنُ نتهيأُ لعيدِ تزيد فيه جرعات الوصل بين أفراد البيت الواحد فنتبادل الخيرَ والحب والوصل ونصنع الذكرياتِ الجميلة "كما نتمنى أن يستمر هذا القرب على مدار العام"، فالعيد يظل كما أقول تذكرةٌ وتدريبٌ للنفوسِ على جميل الأخلاق.
هُوَ هُوَ العيدُ..
إنّ العيد الأزلي يظل عيداً للجميع، هُوَ العيد حيث نجود جميعُنا بالحُبِ واللُطف وكريم الخصال، نتشابهُ جميعنا في الشعائر والمباركات، نُقيمُ جميعنا لعيد الفطر المعاني و النفحات.
إنه ذات العيد الذي تجب علينا فيه زكاة الفطر قبل الصلاة ليكون كما عهدناه عيداً لفقيرنا وغنيّنا على حدٍ سواء. هو ذاتُ العيد الذي قُسِمَ فيه المالُ تقسيماً من شرع الله وجاءَ أجملَ وأنفعَ لفُقرائنا في هذا العام إذ حلّ بهم جراء الجائحةِ ما حَلّ ولكن الكريم أكرم وأعلم.. إنه ذات العيد الذي يجود فيه الكبير على الصغير منّا ويعطيه من المال والحلوى، وهوَ ذات العيد الذي نوصل فيه محباتنا وتهانينا وترحيباتنا إلى أهالينا، نتصل بمن أبعدتهم عنّا المسافات، ونصِل بأصدقاء الطفولة والزُملاء طالبينَ ومؤكدين للعفو، لأجل إحياء الأُنس والمودّة ويكون كُل ذلك لأجل الحُبِ لا غير.
مناسكنا، حيث اللقاء العظيم..
أينما كُنا وحيثما حللنا، فلنحتفظ بتسجيلٍ صوتي لتكبيرات العيد ونُشغله بمنازلنا، فعند صباح العيد وكما كل الأعوام نشعُر وكأننا ولدنا من جديد فنغتسل من جميع ذنوبنا مفتتحين يومنا بصوت التكبيرات التي تملأ المكان، وكأنها تنبهنا أنّ الله أكبر يغفر ذنوبنا، الله أكبرُ يُزيل همومنا، ونسمعُ أن لا إله إلا هوَ له الحمد، فله الحمد أن بلّغنا فضل الشهر الكريم، يتحلى صغيرنا وكبيرنا رجالًا ونساءً بملبَسٍ جديدٍ وكأنّنا نقول: ها نحن قد ولِدنَا من جديد بروحٍ متجدده نقيّة.. نتوجه للصلاة كما فعلَ من قبل نبيُنا الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه، ونحن اليومَ بِصُحبة أهل بيتنا أحقُ الناس بنا ومقياسُ خيرِنا، نصلي طامعين برحمته ونزول ملائكته وقوله تعالى لنا أن "لقد أرضيتموني ورضيت عنكم، اذهبوا مغفوراً لكم"، ونردد كما يردد جميع المسلمين في العالم: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
يا لعظمة منازلنا في هذا العيد! نتخيلُ المسلمين في كل مكانٍ وهم يُصغون لخطبة ولي بيتهم، تختلف ألواننا وأوضاعُنا وحالاتُنا ويظل الوزير ومن لا يملكُ عملاً، الطفلُ والكهل، الصحيح والذي أحبه الله فابتلاه، الموجود بين أهله والمتغَرِبِ عنهم، الكل يُسلّم ويُكَبِرُ ويُهنئ ويطلب العفو، فخورون بالدين الذي جمعنا وجمعُ الإختلافات تحت قالَبٍ واحد.. إنّه دائماً سيظل العيد الذي يُوحدّنا. نلتقي فيه هذا العام بين طيّات المناسك وإن منعتنا حواجز الأرض عن اللقاء.
ختاماً..
إننا نُريد من هذا العيد الروحاني أن يعود علينا بصفاء قلوبنا وعُلو أرواحنا ونزاهةِ أفعالنا قبل أن يُعيد لنا عادات وروتينات، ليتنا نعيشه عيدًا بما تحمله كلمة العيد من معانٍ ساميّة. مهما كانت ظروفُنا وأمّتنا فلنسعد باليوم الذي أراده الله لنا يومَ فرحٍ وسرور، ولنستشعر وحدة أُمتنا، التي يعيش جميع أفرادها تفاصيل هذا اليوم مُلتمسين فضائله، فهو يومٌ ليس كسائرِ الأيام. فقد أتى العيدُ ليُعيد الحب بين الناس، فهنيئاً للأُمة بعيدها الكريم. تقبلَ الله منا ومنكم وكل عامٍ وأنتم إلى الله أقرب.