في بطن غار صخريّ، بين جبالٍ صامتةٍ تهشّ حبّات الرمل الذي تحملُه إليها الرياح، تحت عيون السّحب الجاريات.. جلس قلبٌ حائرٌ نأى به ضميرُه إلى بواطن الأشياء هرباً من عبثية الحياةِ أسفل الجبل، كان يجد في نفسه صُبُوّاً لخلاء الخلاء، فيخرج من بنيان مكة إلى حراء ليهجر لغَطَ مكة وهَواها وأَوثَانَها وينقطع عما شَعُر له من ضَلال.
كان يمشي طويلاً، ثم يتسلق جبلاً من الصخر الأسود الأملس -وكان شاقاً على من يصعده- فيدافع الريح الجافة والطقس القاسي إلى أن يصل إلى قمَّتِه، فيجتازُ حجارةً مدببةّ ليتسلل إلى حراء، فيختلي فيه كما كان يفعل جدُّه، كان غاراً عجيباً، فسحة خفيّة على رأس جبلٍ عالٍ، فيها فرجةٌ لا يُرى منها إلا الكعبة.
كان في نفسه شعورٌ صافٍ دفين يجُرّه كل مرة إلى الغار، شوقٌ إلى الله وبغضٌ للأوثان، فاعتاد أن يهجر الحماقة والشقاوة مستصحباً السكون الصخري، متأملاً في ماهية الجمادات والكائنات لأيام عديدة، بين إيقاعات الطبيعة الساخرة من لهو بني الإنسان، ليبحث فيها عن طريق يدلُّه على الحق، فيُطلِق بصرَه وبصيرَته بحثاً عما يَسقيه اليقين.
كان شعوره بجهلِ مَن حوله قوياً، وكان تَوقُه للعلم أقوى، هي أسئلةُ تتقاذف عقلَه المحتار، تُلِحُّ عليه كلما عاد إليهم، فيختار الغارَ ويترُكهم.
مالِ الناسِ تسجدُ لحجرٍ مَنحُوت؟! والجبالُ حولهم شامخاتٌ تضحَك من بؤس المنظر، ما لأيدٍ تَصنعُ أربابها والأربابُ لا تنطِق ولا تُغني ولا تَضُرّ؟! ما لهذه الأبصارِ مغشيّة لا تكاد تُبصِر؟ لقد كان الغار أطهر.
بينما هو سارح في الملكوت هناك، في لحظة أُريد فيها أن تتدلّى صلة من السماء إلى الأرض، وأُذِن فيها بأن تُخرَق نواميس الكون، جاءه ملكٌ في منظرٍ مهيب اضطربَت فيه الأبعاد والمواقيت! فقال له: «اقرأ»، ذُهل المحتار عما رأى واهتز كيانُه... القلب يخفق والعقل مضطرب، امتزَجَت كريّات دمه بعلامات الاستفهام... سمع نفسَه يقول وقد طوّقه الهلع «مَا أَنَا بِقَارِئ» فلم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، فشَعَر بضمّة كادت تمزِج أعضاءَه حتى بلغت منه الجهد، في موقف سريالي... «اقْرَأ» أرسل الذهولُ الجوابَ من فيهِه «مَا أَنَا بِقَارِئ»، فتكرر ضَمُّه وتكرّر الأمر بالقراءة فكرر الجوابَ نفسَه.
فقال الملك «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».
تساقطت الكلماتُ على ذُعرِه، وحفرت نفسها في رُوحِه كلمةً كلمة...
كلماتٌ ليست كالكلمات، أمرٌ بالقراءة باسم من حُقَّت له الربوبيةُ لأنه خَلَق، تركيزٌ لفعل القراءة -كلِّ القراءة- حول هذا المعنى؛ اقْرَأ نفسَك والكون مِن حولك باسم الذي أنشَأك وأنشَأه، وكأنما سمعَ ربُّه نداءَ قلبِه، فنزل الردّ مدوِّياً... أَيَا قلباً ضالا يبحثُ في الخَلقِ عن الهدى، هاكَ المفتاح، هذه آيات من ربك منطلقُ، فسَمِّ باسم ربِّك واقرأ وتعلَّم، فأنت أيها الإنسانُ مخلوق... مخلوق ضعيف خُلِّق من عَلَق، لا طاقة لك بفقه ما لَم يُعلّمك ربُّك ما لَم تعلم.
هرع إلى بيته والكلمات تتردد في مَسمَعِه، والقلبُ والعقلُ يَقلِبان الشعور والفكر بحثاً عن تفسير لما حدث، كان فؤادُه يرجُف، وبوادِرُه تهتزّ لما شهِد! لم يَدرِ كيف قَطَع مسافةَ العودة، وهو يُجِيل ما رأى في خاطِره.
ساقته قدماه إلى شريكته في كل شيء، إلى من كانت له في وقت الشدة، وقاسمته الود والحب، وكانت رفيقتَه في مهبّات الحياة، كان بأمس الحاجة للبوح بهذا السر الثقيل وأن تصغي إليه، كان يحتاج أن يقُص لها كيف جاءه خبرٌ من السماء... أحقّا رأى ما رأى؟ أم أن به شيئا؟! كان يحتاجها لفك شفرة ما حصل...
دخل عليها وهو ذاهل، فطلب أن تزمّله والروع يعطِّلُه عن الكل، بقِيَت واجمةً تنتظر، فلما هدأ، أفضى لها بما جرى، لقد جاءه ملك من السماء بكلمات ليست كالكلمات، وقد خشي على نفسه!
فهدّأته بكلماتٍ نزلت على روعِه كالماء على النار، فقد كانت تعرِفُه كما تعرف نفسَها، وكانت تعرف جميلَ خُلقِه، ورحمةَ نفسِه، وكرمَ يدِه، وانتفاضَ قلبِه للحق، ولم يكن الله ليُخزِيهُ وهو كذلك.
وهنالك بدأت الرحلة العظيمة، وُلد محمد ابن عبد الله ولادة ثانية في تلك اللحظة، وكان المخاضُ عسيراً، كيف لا وقد تبَدَّى له مَلَك! في مشهد زاغَت فيه الخلائق عن منظرها الاعتيادي، فلا السماء هي السماء، ولا الأرض هي الأرض، ولا الجبل هو الجبل.
لحظة انتظرها الكون منذ الأزل، نزلت فيها أول كلماتٍ من الرسالةِ الخاتمة لمالِك المُلك، اخترقَت فيها طبقات السماوات كلها لتنزِل على أهل الأرض، وامتدّ حبلٌ إلهي وصلَ البشرية بالملأ الأعلى لثلاثٍ وعشرين عاماً!
خبرٌ سماويّ كُلِّف به إنسانٌ لم يكن يدري أنه سيد الخلق، لم يكن يدري بعد أن ربّه اصطفاه ليبلّغ رسالته للعالمين، خبرٌ صَنَع نبيا بشراً سيَتلقى كلمة الحق ويَتعلّم الحكمة ويبلَغها للناس، لتسترسِل الرسالةُ في البشرية، وتبقى حيةً تحيي القلوبَ الميتة وتحوّلُ حالها، فيَنفتِح البصرُ بالنور وتخرج من الظلمات إلى أن يحين موعد البعث.
كان الموقف شديداً؛ هزةٌ هزت كيانه لتُعِدّه لما سيتبعُ من الشدائد، وبدايةُ سلسلةٍ من المواقف والأحداث التي صنعت من محمد ابن عبد الله الرسولَ الخاتمَ الذي ستصلي عليه الخلائق إلى أن يرث الله أرضه، الرسول الذي سيقلب تاريخ البشرية إلى الأبد.
«صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء».