لا يستغني أحد عن أن يكون له في بعض الأحيان إنكار لما یری، ودرء المفاسد والنهي عن المنكر ومحاصرة الشرور قدر الإمكان من صلب المنهج الإصلاحي الإسلامي وغير الإسلامي، لكن المقصود هنا هو تلك الممانعة التي تصبح سمة عامة من سمات الفرد أو الجماعة حيث يكون (التمترس) خلف بعض الأفكار والرؤى والشعارات هو الغالب على منهج الصحوة، وإذا كان علي أن أكون دقيقا أكثر، فإني أقول: إن المنهج الإصلاحي هو منهج مرگب، تشكل الممانعة فيه نحوا من (20٪) وتشكل المشاركة والمبادرة والمنافسة النسبة الباقية، وإن الذي يجعلني أذهب إلى هذا هو الشرور الكامنة في جعل الممانعة شيئا غالبا على منهج العمل.
سلبيات الممانعة
أ- تعني الممانعة أخذ وضعية الراصد المتابع لما بجري، والعمل على منع ما يظن أنه مخالف لمبادئ الإسلام، أو ضار بالمصلحة العامة... كما تعني اتخاذ وضع الخمود الذي لا يزعجه سوی استفزاز من هذه الجهة أو تلك، وكما أشرت فإن عملية الرصد والمتابعة لبعض الأمور من قبل فئة من الناس شيء جيد، أما الخمود والسكون الذي ينتظر أصحابه من يستفزهم ويتحداهم، فهذا لا يحسن من أحد.
ب - المستمرون في الممانعة من غير مبادرة لفعل شيء ما يضعون أنفسهم في موضع المختبئ في مكان حصين، وقد أحاط به الأعداء من كل جانب.
وقد قالت العرب: إن المحاضر لا يأتي بخير. إن الممانع يكون في حالة تأهب للانكسار والتراجع، وهذا ما نلاحظه في مواقف العديد من الدعاة على صعيد الفتوى وصعيد فقه الموازنات وعلى صعيد السلوك، وهذا طبيعي، فإنه حين تسوء الأمور من حولك، وأنت في موقف المتفرج، فمن الطبيعي أن تخسر أوراقك واحدة تلو الأخرى وبذلك تختل الأولويات والموازنات.
ج- حين يرفض الإنسان -أو لا يستطيع- اتخاذ وضعية المبادر والمهاجم، فإنه سيتخذ وضعية المدافع ليقوم بالهجوم أعداؤه ومنافسوه، وإن من سنن الله تعالى في الخلق أن الكائن الحي ينكمش حين يهاجم؛ لذلك فإننا نعرف الكثير من الصحويين المنكفئين على أنفسهم بسبب أنهم اتخذوا الوضع السلبي الذي يعرضهم باستمرار إلى الضغوط متتابعة.
ويكفي موقف الممانعة سلبية أن أصحابه يتركون لخصومهم ساحة العراك والمدافعة: الخصوم يثيرون المشكلات، وهم ينشغلون بالدفاع عنها، وقد ينجحون في ذلك، وقد لا ينجحون!
د- إن الذي يجمع بين جميع حركات الممانعة هو التشبث بالماضي والحرص على استمراره في عصر كثير التقلب وشديد التطور، ونحن المسلمین نعتز بتاريخنا وحضارتنا، لكن الذي ينبغي أن نسترشد به في معاركنا الحضارية ليس التاريخ، وإنما المنهج الرباني الأقوم، فالتاريخ يعطي دلالات محدودة، والمنهج الرباني يفتح الآفاق الرحبة، ويمنح أصول الرؤية.
هـ - إن عقلية الممانعة كثيرا ما تكون نتاج عقلية المؤامرة، فالمرء يتملكه الخوف والارتباك حين يشعر أنه مستهدف وأن العالم كله ضده، وقد رأيت نماذج وشواهد كثيرة على هذا: أقوام يتكلمون في الليل والنهار عن تواطؤ العالم ضد المسلمين، ثم لا شيء بعد ذلك سوى تكرار الكلام الذي قالوه بالأمس؟
و لم يعد في إمكان أي دولة أو جهة أو جماعة أن تحافظ على وجودها واستقلالها من خلال الدفاع التقليدي الجامد عن الرموز أو المكتسبات، والحل الوحيد يكمن في المشاركة في صناعة مصير العالم أو الإقليم بالنسبة إلى الدول، والمشاركة في صنع مستقبل البلد بالنسبة إلى المنظمة والجماعة والفرد، وهذا يعود إلى استحالة العزلة وإلى كون المشاركة هي أهم مصدر لامتلاك القوة في العصر الحديث.
ز- قد يكون من الملائم أن نرگز على (المناعة ) عوضا عن (الممانعة) وهذا يعني أن نعمل على شيئين أساسيين:
- الأول: بناء الوجدان أو الوازع الداخلي لدى الأجيال الجديدة حتى نحصنهم من اجتياح التيار الشهراني الجارف الذي يقبل علينا من كل مكان.
- الثاني: تحسين درجة الوعي بخصوصياتنا الثقافية حتى نحمي الفتيان والشباب من تبارات الشكوك والشهات والمنهجيات المناوئة.
المبادرة والمشاركة
ذكرت أننا لن تستغني عن الممانعة، ولكن علينا أن نجعل المبادرة والمنافسة والمشاركة هي السمة الغالبة على تفكيرنا، وسلوكنا ومنهجياتنا، وأعتقد أن الصحوة تحتاج حتى ترسخ ثقافة المبادرة إلى أن تبني عقول أبنائها ونفوسهم على نحو جدید، ولعل من ملامح ذلك البناء الآتي:
أ- تشجيع الرؤية الفردية للواقع والتخفيف من التقيد بالاتجاه الجمعي السائد، وقد صار من الواضح أن الناس في عهود التخلف يلوذ بعضهم ببعض كما تلوذ الطيور ببعضها في أوقات الصقيع. ومع أن العقل الجمعي مهم جدا للتضامن الأهلي والتماسك الاجتماعي إلا أنه ينظر إلى التجديد على أنه الخطر الذي سيفكك كل منظوماته.
وإن التاريخ ليشهد بأن كثيرا من الأفكار العظيمة تلقاها الناس في البداية بالاستغراب والاستنكار، ثم صاروا يستمتعون بثمارها، ويرون أن الحياة ستكون صعبة من غيرها!
ب - حتى يبادر الإنسان فإن عليه أن يتجاوز القوالب والأنماط السائدة، وهذا التجاوز ليس مقصودا لذاته، وإنما يطلب لما فيه من كسر أطواق التقليد والركون إلى المألوف، وأذكر أن القائمين على بعض المساجد في إحدى الدول الإسلامية، صاروا يستخدمون شاشات العرض في سبيل شرح بعض القضايا، وعرضوا فيها بعض الأفلام الوثائقية الخالية من أي مناظر منگرة، وقد تلقي ذلك في البداية من بعض المصلين بالاستهجان، فالمساجد بنيت للعبادة والذين أحضروا الشاشات جعلوها أشبه بصالات العروض (السينمائية) وقد كان ذلك في البداية، وبعد ذلك لمسوا منافع الشاشات، وكفوا عن المعارضة والاعتراض. النصوص والأحكام الشرعية في الحكم في الجديد، وليس العادات والتقاليد.
ج- لا مبادرة من غير شيئين: الثقة بالنفس والتفاؤل في النجاح، ومن المهم دائما للصحوة أن تبث روح التفاؤل لدى أبنائها وفي المجتمع عامة، وقد كان لا يعجبه القان، وكان يحب تبشير أصحابه بما أعده الله لهم من التمكين في الدنيا والنعيم في الآخرة، ويمكن تعزيز روح التفاؤل عن طريق سرد الانتصارات والإنجازات التي حققتها الصحوة - وهي بحمد الله أكبر من أن حصي - بالإضافة إلى دلالة الشباب على الطرق المفتوحة، أما الثقة بالنفس، فإنها تعني -على نحو عام- اعتقاد المرء بأنه قادر على إنجاز ما نجزء أقرانه، بل تعني أحيانا الاعتقاد بالقدرة على إنجاز ما يعجز عنه بعض الأفران، وهذا يتولد لدى الإنسان من خلال تشجيعه والتسامح مع أخطائه وتحميله المسؤوليات، وتكليفه بالمهمات.
د- حين تنعدم لدينا المبادرة تتشابه أوضاعنا إلى حد التطابق، ولو تأملت في حال التعليم في العالم الإسلامي قبل قرن من الزمان أوجدت من تشابه طرقه ما بدهشك وبعد مجيء النهضة الحديثة تنوعت الأساليب والطرق، والوسائل وكثرت النظريات والدراسات. وهكذا فالمبادرة تقوم على الإبداع والاجتهاد اللذين ينفيان بطبيعة الحال إلى الشراء والتنوع.
أنا أمل أن يكون لدى الصحوة عشرات الطرق في تبليغ الرسالة وعشرات الطرق للحوار مع المخالفين والمنافسين، والكثير من الطرق في معالجة المشكلات الاجتماعية ومشکلات سوء الإدارة والفساد المالي.
نحن نخاف من التنوع لأنه يقفدنا الشعور بالوحدة، وهذا التخوف في محله، لكن من المهم أن تدرك أن التنوع في إطار الوحدة سنة من سنن الله في الخلق، وأن التشابه الجامد هو الذي يفجر التوحد الشكلي، الذي تطمئن في العادة إليه.
إذا أردنا إثراء المبادرة لدينا، فإن علينا أن نتعلم من تجارب الآخرين، وأنا دائما أقول: إن المشكلات التي تتحدانا فعلا هي المشكلات ذات الطابع المحلي، أما المشكلات ذات الطابع العالمي، فأمرها يسير؛ لأن في إمكاننا أن نستفيد من معالجات الآخرين لها، وهكذا يمكن أن نتعلم من غيرنا الكثير الكثير في إدارة الخلاف ونشر الأفكار وتنمية الموارد والتعايش مع المخالفين وتجديد الوعي...
وكم أتمنى أن يكون لدى كل جماعة وهيئة ومنظمة وجهة صحوية وحدة صغيرة، مهمتها الأساسية اصطياد الأفكار والاطلاع على التجارب العالمية، واقتباس الأساليب الناجحة، إن هذه الوحدة قد تختصر الطريق بأكثر مما نتصور أو "يتطلب بناء ثقافة المبادرة تقدير أي محاولة جادة وتشجيع أصحابها والثناء عليهم بقطع النظر عن النتائج، إذ من الطبيعي أن يكون هناك محاولات ومبادرات تاجحة وأخرى مخففة، وثالثة بين وبين، ورحم الله الشاعر أبا ريشة إذ يقول:
شرف الوثبة أن ترضي العلا… غلب الوائب أم لم يغلب
قد ورثنا عن أسلافنا تقدير النجاح وإهمال قيمة المحاولة، وهذا شيء خاطئ، فإذا بذل الإنسان جهده من أجل الوصول إلى شيء نافع، فإن له أجر محاولته وإن أخطأ، كما هو معروف و مشهور.
ز - مواقف المبادر متنوعة، فهو في موقف ينقد، وفي موقف ثاني ينصح، وفي موقف ثالث يشكر ويثني، وفي موقف رابع يقترح، و في موقف خامس يبدع شيئا جديدا، إنه مقدام متحرك، صانع للفرص، يؤمن بالسير في طليعة الركب، كما يؤمن يتجاوز المتخاذلين والكسالى والمتشككين والخائفين والنائمين، وشعاره الدائم: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) [المائدة: 23]
ح- نحن نزهد في الأعمال الصغيرة؛ لأننا نعتقد أن تأثيرها محدود، وهذا ليس بعيدا عن الواقع، لكن من المهم للصحوة حتى تستنفر همم أبنائها، وتستثمر طاقاتهم المذخورة أن تعتمد سياسة - المبادرات الصغيرة المتنوعة- حيث يمكن عن طريق عشرات أو مئات المبادرات الصغيرة حل مشكلة كبرى، أو تغيير وضعية متأسنة، حين تتوفر الرؤية الجيدة للمشكلة، والمنهجية الجيدة لمعالجتها، فإن في الإمكان إطلاق الكثير من المبادرات للتعامل معها، لكن لدى الصحوة علة قديمة تتمثل في ضعف الاهتمام بتوصيف مشكلات الأمة بطريقة منهجية صبورة، كما تتمثل في اقتراح الحلول الأحادية عوضا عن الحلول المرئية، والوضع الآن آخذ في التحن لكنه ما زال بعيدا عن المطلوب.