إن المعرفة بوصفها إرثا يتناقله الإنسان عبر الأجيال، فإنها لا تختلف كثيرا في عملية توارثها عن عملية توارث الإنسان لجنسه. هناك معلومات يتم توريثها "اختزالياً" لإضفاء شيء من التنوع، عن طريق الإضافة والحذف والتغيير، والبعض الآخر يتم توريثه " فتيلياً" عن طريق نسخه للجيل القادم دون أي تغيير فيه.
في عالم المعرفة يمكننا القول بأن المعلومات التي يتم نقلها "اختزالياً" في الغالب هي (الفروع والجزئيات وتطبيقات المفاهيم)، أما الأصول والمفاهيم الكلية، والسنن العامة في الكون والإنسان، فيجب نقلها " فتيلياَ" بالنسخ المتجرد من أي تغييرات، خصوصاً تلك التي تبديها تطبيقات هذه السنن في فترة زمنية معينة، لأن التراكم المتصل للإرث المعرفي وتماسك البنية المعرفية للإنسان يعتمدان عليها.
المعرفة إرث الإنسانية
حسناً، بافتراض صحة النقاط آنفة الذكر، فإن هذا يلقي بمسؤولية مباشرة على كاهل من يقوم بعملية توريث المعرفة ونقلها. إن على ناقل المعرفة أن يدرك بوضوح " أي جانب من المعرفة يقوم بنقله"، لأن الإتيان بمتطلبات نقل هذا الجزء، يعد جزء من مسؤولياته. على كل، فإن الجزء الذي ينقل "إختزالياً "لا يتطلب الكثير من الجهد والتدقيق، لاحتماله التغييرات؛ إن ما يمكن بذله هنا هو محاولة عدم قولبته، أو الإصرار على تقديمه بشكل ثابت أو جامد، بما يؤدي إلى تعطيل الإبداع والتنوع الذي يعد وظيفة هذا الجزء من المعرفة.
إن الجزء الذي يحتاج الكثير من الجهد في عملية نقله في تقديري هو الجزء الذي ينقل "فتيلياَ"-أي جزء الأصول والكليات والسنن- لحاجته الكثير من التدقيق، وإزالة الشوائب، ومتعلقات الفترات الزمنية التي يمر بها.
إن ثمة جهدا مُهِماً يحب أن يبذل في هذا الجانب، وهو إزالة التجارب والانطباعات الشخصية، والالتزام بالتجرد والموضوعية في عملية النقل قدر الإمكان. إن تغييراً طفيفا في هذا الجزء يؤدي عادة إلى تغييرات ضخمة في تطبيقاته.
بطبيعة الحال، فإن العلوم والمعارف البحتة والتطبيقية أكثر تماسكاً، ولا تتأثر كثيراً بتفاعلات وانطباعات من يتعاملون معها؛ لاعتمادها على مقاييس كمية وحسابات قياسية. إن ما يتأثر بصورة واضحة بانطباعات وتفاعلات من يتعاملون معه، هو جانب العلوم والمعارف الإنسانية؛ لاعتمادها على مقاييس وصفية، ونسبية عالية.
في التاريخ والعلوم الدينية على سبيل المثال، نجد تأثير التجارب والانطباعات الشخصية جليٌ جداً؛ حتى أنه أدى في بعض العلوم الدينية إلى طمس الفكرة الأصلية، وأدى في بعض الحقب التاريخية إلى طمس الأحداث الحقيقية واستبدالها بأحداث من نسج الخيال.
إن الجهد الشخصي في محاولة التجرد والتزام الموضوعية مهم جداً في جانب العلوم (الإنسانية).. وبما أن التجرد التام والموضوعية المطلقة، يتعذر تحقيقهما بشكل كامل، فإن رفع الحساسية تجاه الانطباعات الشخصية إلى أقصى حد ممكن، هو المتوقع والمطلوب ممن يريد أن يصنع جزءاً من الإرث المعرفي، لا سيما في العلوم الإنسانية.
أهمية الموضوعية والتجرد في نقل المعرفة:
إن على ناقل المعرفة- أياً كان وصفه (معلم، مدرب، كاتب، مؤرخ...) أن يلتزم بالتجرد والموضوعية فيما يتعلق بنقل الحقائق العلمية والمعرفية، خصوصاً في جانب العلوم الإنسانية.. وبما أن الموضوعية أمر نسبي وصعب التحقق.. فإنني أتوجه ببعض الإشارات إلى متلقي المعرفة- أياً كان وصفه (متعلم، متدرب، باحث،..) بأن يراعي طبيعة الأدوات المستخدمة في عملية التحصيل المعرفي؛ لما لها من قدرة على نقل مؤثرات إضافية إلى المادة المعرفية.
أدوات نقل المعرفة الأكثر تجردا
إن كثيراً من ناقلي المعرفة لا يلتزمون بالموضوعية والتجرد الكافيين، ويقومون- بقصد او بدونه- بإضافة تأثيرات وانطباعات قد تتعارض مع "المادة المعرفية" المنقولة، مما يحتم على متلقي المعرفة الإهتمام بنوعية الأدوات المستخدمة في تحصيله.. وهنا سؤال يطرح نفسه: ما الأداة الأكثر تجردا في نقل المعرفة؟.. حسناً، قبل أن نحدد "الأداة" لنتعرف على حجم المؤثرات المصاحبة لمختلف الأدوات، ودرجة التجرد المطلوبة في المعرفة المتحصلة.
إذا أخذنا الأدوات الأكثر استخداماً في عمليات التحصيل المعرفي كوسائل التعلم والاتصال (المرئية، والمسموعة، والمكتوبة)، وأخذ نسبة التأثير التي تنقلها كمؤشر لدرجة تجرد المادة المنقولة، فإننا نجد أن الأدوات المرئية "الفيديو" هي الأكثر تأثيراً؛ وقد أثبت علماء النفس والإتصال أن لغة الجسد ونبرة الصوت تؤثران في المتلقي بنسبة تقارب 70% ، وبذلك تصبح الأقل تجرداً في نقل المادة المعرفية. أما الأدوات السمعية، فإنها أقل تأثيراً من المرئية لغياب لغة الجسد، وبالتالي تصبح أكثر تجرداً من "المرئية". أما الأدوات الكتابية، فإنها الأقل تأثيراً لغياب لغة الجسد ونبرة الصوت كليهما، لتصبح الأكثر تجرداً في نقل المعرفة.
إن كنت راغبا في الحصول على معرفة مجردة من المؤثرات الإضافية، فعليك بالقوالب الكتابية. بالطبع لا نستطيع القول أن المكتوب خال تماما ومجرد من التأثيرات. إن للحروف والألفاظ قدرات فائقة في نقل المشاعر والانطباعات الشخصية، حسب مهارة الكاتب، واختيار الكلمات والجمل.
إن ما يمكننا تقريره هنا: أن الأدوات الكتابية أكثر تجرداً في نقل المعرفة، لا سيما في عصر سيطرت فيه الصورة على ساحات التواصل والمعرفة وأصبحت صناعة وتجارة، وأدى التنافس "حول الفيديو الأكثر مشاهدة" إلى إهمال كثير من متطلبات نقل المعرفة كالموضوعية والتجرد.