زرع الله -جل ثناؤه- في فطرة الإنسان الميل إلى معايشة أفراد جنسه، والأنس بهم، وإقامة العلاقات التبادلية والتكاملية معهم. ووجود المعايشة الاجتماعية شرط أساسي في تمدين الإنسان ورقيه ونموه المتكامل؛ فهو لا يتعلم اللغة، ولا يكتسب العادات والتفكير الراقي، ولا يرقي سلوكه ومنتجاته المادية إلا من خلال تعاونه مع أخيه الإنسان، وحين هبط آدم عليه السلام من الجنة لم يهبط وحده، وإنما هبطت معه زوجه حواء ليشكلا معة نواة الجماعة الإنسانية الأولى. وهبط معه إبليس؛ ليكون وجوده في الأرض جزءا من الابتلاء، وبوابة مشرعة للصراع بين الحق والباطل الذي سيمكن الإنسان من الوعي بذاته، وبلورة جوهره.
وللمجتمع تعريفات كثيرة جدا يمكن أن ندمج منها تعريفة مقاربة كقولنا: إنه «أوسع تجمع للناس الذين يتشاطرون عقائد ونظمة مشتركة من الاتجاهات والعادات، والمثل، ويتطلعون إلى أهداف عامة مشتركة، مع سكناهم في أرض محددة، واعتبارهم أنفسهم وحدة اجتماعية واحدة».
كل مجتمع مضطر إلى أن يقسم نفسه إلى وحدات أو جماعات عديدة على أساس قرابي أو إقليمي أو مهني أو ثقافي... وذلك باندفاع من الألفة أو المصلحة أو سهولة التفاهم.
ويمكن أن نعرف الجماعة بأنها: «وحدة اجتماعية تتكون من عدد من الأفراد يشغلون مراکز محددة، كما يقومون بأداء وظائف محددة بالنسبة لبعضهم بعضا، ولديها جهاز من القيم والمعايير خاص بها، ينظم سلوك الأفراد فيما يؤثر في بقاء وحدة الجماعة بصورة أخص».
إن المجتمع في حقيقة أمره مجموعة أنظمة، وإن الإنسان حين يجتمع مع أخيه الإنسان، ويتفاعل معه في موقف من المواقف لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من خلال مجموعة من النظم والمعايير؛ حتى إن الصغار من الأطفال - كما يرى بياجيه - الذين لم يتم بعد تنشئتهم اجتماعية يقيمون قواعد ومعايير للتفاعل عندما يلعبون مع بعضهم بعضا.
ويزداد المجتمع تعقيدا مع نموه وتقدمه، وحينئذ فإن علاقاته ونظمه تتجه أيضا إلى التعقيد، وتحتاج إلى بلورة وتوضيح أكثر؛ حتى لا تنشب النزاعات نتيجة سوء الفهم واستغلال الغموض في العدوان أو تحقيق مصالح غير مشروعة.
ومما يجب التأكيد عليه في البداية أن لله -جل ثناؤه- سننا ماضية تحكم علاقات بني البشر في مجتمعاتهم. وتلك السنن لا تبتعد . على المستوى النظري كثيرة عن سننه في الطبيعة والكون عامة [3].
والسنن عامة لا تكشف عن وجهها للذين لا يعترفون بها، ولا لأولئك الذين لا يعيرونها أي اهتمام؛ وإنما تتجلى للذين يبذلون عرق الجبين في استنباطها وتتبعها وتحليلها. ويؤسفني القول: إننا لم نبذل من الجهود ما تستحقه معرفة السنن الاجتماعية، مع أنها تمثل المدخل لكل إصلاح.
البناء الاجتماعي
يمكن القول: إن المجتمع عبارة عن وحدات أو مجموعات متمايزة ، يری (سبنسر) أن المجتمع البشري يشبه الكائن العضوي، وهو جزء من النظام الطبيعي للكون؛ ومن ثم فإن السنن التي تحكم الجسم الحي هي نفس السنن التي تحكم المجتمع البشري في مقوماته ونظمه وفي تغيره وتطوره أيضا.
ولا يقتصر انتماء الفرد - في أكثر الأحيان - على مجموعة واحدة؛ بل ينتمي إلى مجموعات عديدة قد تصل إلى عشرة أو عشرين. وهذا الانتماء منه ما هو قهري لا حيلة للمرء فيه، كانتمائه إلى أسرته وقبيلته، ومنه ما هو طوعي، كما في حالة انتمائه إلى نقابة أو ناد أو رابطة ثقافية. وانتماؤه القهري إلى جماعة من الجماعات يكون (رسمية) شكلية في أغلب الأحيان . ويؤمن له ذلك الانتماء نوعا من المرجعية؛ على حين يؤمن له الانتماء الطوعي تحقيق بعض حاجاته النفسية وتحقيق بعض أهدافه. وتكون درجة تفاعله وعطائه وانسجامه في هذا الانتماء أعلى وأوفر.
ويمكن القول: إن كثرة انتماءات الفرد الاختيارية تعد مؤشرا واضحا على حيويته وانفتاحه على مجتمعه.كما أن كثرة خيارات الانتماء ووفرة المجموعات والوحدات الطوعية دليل آخر على مدى تقدم المجتمع وحيويته وإمكاناته في استيعاب تطلعات أفراده.
أما المجتمعات التي لا يتوفر فيها إلا مجموعات الانتماء القهري فإنها إلى البدائية والركود أقرب.
وتميل المجتمعات على كل حال إلى ضبط سلوك أفرادها، وإيجاد نوع من التماثل والتجانس بينهم وفق القيم والمعايير التي تسودها. ويمكن القول: إن المجتمعات تمارس على أفرادها ضغوطة رهيبة كيما تحافظ على تماسكها ووحدتها. ويتذرع المجتمع إلى ذلك بجعله كل فرد من أفراده رقيبا على تصرفات غيره من أجل ضبطها وسوقها في مساقات متجانسة إلى أقصى حد ممكن.
وقد لوحظ أن أعضاء الجماعة وهم يحاولون التماهي معها لا يرتفعون عن المستوى الذي تحدده الجماعة، كما أنهم لا ينخفضون عنه في أكثر الأمر. والذين يجازفون في التحرر من قيودها فئات محدودة جدا من أمثال ضعاف العقول والشاذین وبعض العباقرة الكبار؛ إذ ليس بين العبقرية والجنون في هذا الموضع سوى شعرة واحدة!
وحرص السواد الأعظم من أبناء الجماعة على التماثل معها يحولهم إلى (مرايا) تعكس لبعضهم بعضا واقع استجاباتهم؛ ففي عقل كل فرد عملية دائبة التساؤل: كيف أبدو للآخرين وأنا أتفاعل معهم؟ وكيف يفسرون ما پرونني عليه؟ وما تقویمي لنفسي بناء على رأيهم هذا في؟ ولربما كان كثير من ذلك من باب الوسوسة؛ حيث لا يشعر كثير من الناس بوجوده، ولا يقومون بوزن ما هو فيه، ولكنه الخوف من نبذ الجماعة والرغبة في استحقاق عضويتها بجدارة.
ولا يخفى أن درجة ضبط المجتمعات لسلوك أفرادها ومدى نجاعة رقابتها عليهم متفاوتة إلى حد بعيد. وهي تتأثر بعوامل عديدة منها: بساطة الثقافة وتعقدها؛ فالثقافة المعقدة المتنوعة والغزيرة تتيح أنماطا كثيرة من السلوك؛ كما تسمح بمقتضى غزارتها بمواقف اجتماعية أكثر تباينا، على نحو ما نشاهده في المجتمعات الغربية. ويصاحب ذلك في العادة نمو للمعايير الشخصية على حساب المعايير الاجتماعية؛ فحرية الفرد عندهم قد احتلت مساحات أوسع بكثير مما هو مسموح به في المجتمعات الأخرى.
ومن المؤثرات في درجة الضبط الوضع السكاني؛ ففي القرى والأرياف وفي مضارب القبيلة تكون الرقابة الاجتماعية أشد، ويكون الفرد تحت المجهر؛ مع ضيق مساحة الخصوصيات.
أما في المدن الكبرى فتكون الرقابة أضعف، حيث الصلات بين الناس أضعف وأقل، كما أنها تكون (رسمية) في غالب الأمر، وحيث يتوكد في حسن الناس وعرفهم ضرورة الإعذار وغض الطرف عن أشياء عديدة مما لا يرضون عنه، أو مما لا يستوعبه وعيهم الاجتماعي. وعلى ما للقهر الاجتماعي من مزايا وفوائد في ضمان استقرار المجتمع وتفاهمه واستمرار الجماعة؛ فإنه يفرز بعض الأعراض الجانبية الضارة، من نحو النفاق الاجتماعي والمراءاة، حيث يكون التماهي مع الجماعة شكلية. ومن نحو إحباط كثير من المبادرات الفردية والتجارب المتفتحة على مستوى الفكر والعمل، والتي قد يكون المجتمع بأمس الحاجة إليها.
ولتلافي ذلك فإنه لا بد للمجتمع من أن يساعد الأسرة والمدرسة ومحاضن التربية الفردية الأخرى على تنمية الوازع الأخلاقي الداخلي لدى الفرد كما أنه لا بد للمجتمع حتى يضمن تجدده وتلافي أخطائه من أن يشجع روح المبادأة لدى أفراده، ويفسح صدره لكثير من الاعتراضات والمناقشات حول أوضاعه العامة.
ولا يتم شيء من ذلك إلا بعد أن يكون وعي المجتمع بذاته ومحاوره وهامشياته جيدة؛ حتى يتمكن من تقديم ثقافته لأبنائه على نحو مقنع؛ وحتى يتمكن من حوز التجديدات المقترحة لبناه المختلفة والكشف عن مساهمتها في تجديد المجتمع، إلى جانب الآثار التي قد تتركها في وحدته وانسجامه.