تستطيع الآن أن تخرج إلى الشارع وتتجول في أي مكان وأنت ترتدي الكِماَمة الطبية دون أن يثير ذلك دهشةَ الآخرين أو استغرابَهم!! لكنك لو فعلتَ ذلك منذ أربعة أو خمسة أشهر مضت لَرأَيتَ من الناس عَجَبًا...فمنهم مُندهِشٌ ومنهم مستنكِرٌ ومنهم ساخرٌ أو مُستهزئ!!
رغم أنّ الفعلَ واحد، هو ارتداء الكمامة، فما الذي جعل ردَّ فعل الناس يختلف؟!
السر في ذلك هو كلمة تُسَمَّى "السِّياق" والسياق يعني الظروف والملابسات المحيطة بالواقعة التي نتحدث عنها...فالناس اليوم لا تتعجب من ارتدائك الكمامة لأن السياقَ سياقُ مرضٍ وعَدْوَى...إنه درسٌ مهمٌ جدا يجب أن نخرج به من تلك المناسبة.
لا يمكننا أن نفسرَ سلوكَ الناس تجاه أمرٍ ما دون أن ندرك سياقَ هذا الأمر، أي الظروف والملابسات المحيطة به… قد تذُم إنسانًا بسبب فعلٍ قام به إذا لم تكن تعرف السياق الذي يكتنف هذا الفعل، فإذا عرفتَ السياق انقلب ذَمُّكَ مدحًا؛ لذلك فقد تعَجَّبَ موسى عليه السلام واستنكر بشدة خرقَ الخضر-عليه السلام- سفينةَ المساكين الذين حملوهما دون أن يأخذوا أجرا: (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهلَها لقد جِئْتَ شيئًا إمْرًا)[سورة الكهف الآية: 71] كان هذا ردَّ فعل موسى- عليه السلام- لأنه لم يكن يدري الملابسات التي جعلت صاحبَه يُقْدِمُ على هذا الفعل المُستَنْكَر، لم يكن يَدري أنه أراد بهذا الخرق أن يعيبَ السفينة حتى لا يأخذها الملكُ الظالم الذي كان يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصبًا… فلما عُلِمَ ذلك انقلب التعجب والدهشة من المتابِعِ للقصةِ إلى تَفَهُّمٍ وإعجابٍ وثناء!
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرٌ من الوقائع والأحداث التي لا يمكن أن تُفهَم دون معرفة سياقها أو بالأحرى لا يمكن أن تُفهَم إلا مع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والزمني الذي وقعت فيه تلك الأحداث… فأنت لا تستطيع أن تنظر إلى أحداثٍ حصلت منذ 1400 عام بمنظار اليوم؛ لأن الظروف اليوم اجتماعية وعلمية وتكنولوجية مختلفة تماما عنها منذ 1400 سنة مضت.
إنَّ رحلةٌ كالإسراء –مثلا- التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بفلسطين لو أنك نظرتَ إليها بمنظار اليوم متجاهلًا سياقَها الزمني والتاريخي ربما لا تجد فيها معجزة؛ فنحن اليوم أيضا بفضل الطائرات يمكن أن نقطعها ذهابا وإيابًا في جزءٍ مِن ليلة. لكنّ الذي جعلها معجزةً للنبي صلى الله عليه وسلم هو أنه في زمنه لم يكن هناك طائرات ولا وسائل نقل سريعة وحديثة كالتي لدينا اليوم.
وفي غزوة مؤتة كانت المعركة بين جيش المسلمين، الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم، وجيوش الروم تدور على بعد مئات الكيلومترات عن المدينة، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه أحداثَها وهُم جالسون في المدينة فيقول: أخذ الراية زيد فقاتل حتى قُتِل ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قُتِل ثم أخذ الراية عبدُ الله بنُ رواحة فقاتل حتى قُتل ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله.
هذه معجزةٌ بالنظر إلى زمن لم يكن هناك موبايل أو أقمار صناعية تنقل الأحداث لحظةً بلحظة صوتًا وصورة، ومعظم الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام حول بعض أحداث السيرة النبوية الشريفة إنما يثيرونها متجاهلين السياق الذي كان يحيط بتلك الأحداث مستغلين غفلةَ عوام المسلمين عن أهمية قضية السياق في تفسير الأمور.
خذ غزوةَ بدرٍ مثلا حيث يزعُمُ أعداءُ الإسلام أنَّ عزمَ المسلمين على مهاجمة قافلة أبي سفيان إنما هو من قبيل قطع الطريق، وهذا ظلمٌ للحقيقة وتَجَنٍّ عليها وتضليلٌ للناس وإلباسٌ للحق بالباطل؛ فمهاجمةُ القافلة أمرٌ مرفوض إذا تجاهلنا سياقَه؛ فالذين يثيرون تلك الشبهة يتجاهلون تماما سياقَ هذا الحدث؛ يتجاهلون تمامًا أن المسلمين لم يهموا بفعل ذلك من فراغ أو ابتداءً بالاعتداء إنما كان ردَّ فعلٍ على اضطهادِ المشركين لهم واستيلاءهم على أموالهم ودورِهِم في مكة؛ لقد كان ردَّ فعلٍ طبيعي جدا.
وكذلك معظمُ الشبهات التي يثيرها الناقمون على الإسلام وأهله اليوم، يثيرونها دون أن يبينوا للناس سياقَها وبذلك يضمنون سوءَ فهم المستمعين إليهم فإذا بهم عن الإسلام منصرِفين ولِرسولِه وكتابِه مُعادين ولِغيرِ دينِ الحق معتنِقين.
إنَّ قضيةَ السياق قضيةٌ خطيرة يجب أن نلفتَ الانتباهَ إليها حتى لا تنطلي علينا شبهاتٌ هي في حقيقتها أَوْهَى من بيت العنكبوت...ويبقى الدرس: إنَّ العلمَ بكواليس الأحداث وسياقِها هو الضمانةُ لِصوابيةِ الحكمِ عليها.