أنهيتُ للتو كتاب "استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة" للدكتور أحمد خيري العمري، ضمن مبادرة منتدى القراء التي أطلقتها مؤسسة عبير الوعي في غزة لقراءة ومناقشة كتبٍ فكرية كان منها هذا الكتاب النهضوي الذي أردنا من خلاله أن نفتح نافذة للشباب المسلم عنوانها: أن بإمكان الواحد منّا أن يكون أحوذياً، أن يكون نسيجاً لوحده، أن يصنع حضارة، أن يقود أمة، فليس صدفةً أن نختار هذا الكتاب في ظل الحديث عن فكر النهضة ونظرياتها وأسسها وطرائقها في أروقة المفكرين والمهتمّين الذين ما زالوا يبحثون عن إجابةٍ لسؤال كبير: كيف نحقق النهضة الإسلامية من جديد؟
يأتي هذا الكتاب، وهذه القراءة والمناقشة الجماعية لتقول: أن النهضة تحتاج منّا أن نستقي من النبع الذي استقى منه عمر، وأجرى ماءه في كل الميادين والبساتين وساحات الصراع، فما ذكرته كتب التاريخ عن إنجازات عمر الحضارية والنهضوية تكاد تقول: ما ترك عمرُ مجالاً إلا ولجه في سبيل رفعة الأمة ونهضتها..
ففي المجال المدني: أول من وضع تأريخاً للمسلمين واتخذ التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك أول من عسَ في الليل بنفسه، وأول من عقد مؤتمرات سنوية للقادة والولاة لمحاسبتهم وذلك في موسم الحج، وهو كذلك أول من اتخذ الدرّة (عصا صغيرة) وأدّب بها، وأول من أنشأ المدن الجديدة، ووضع مراقباً عاماً على حركة الأسواق، وأول من جمع الناس على صلاة التراويح، وهو أول من جعل الخلافة شورى بين عددٍ محدد، وأول من وسّع المسجد النبوي والمكي، وأول من أسقط الجزية عن الفقراء والعجزة من أهل الكتاب، وأعطى فقراء أهل الكتاب من بيت مال المسلمين، وأول من جعل الجزية بحسب المستوى المعاشي، وأول من دوّن الدواوين، وأول من اتخذ داراً للتموين، وأقام محطات استراحة في الطرق بين المدن الرئيسية، وأول من أذِن برواية القصص "الحكواتي"، وهو كذلك أول من منَع المسئولين في الدولة ركوب وسائل النقل الفارهة التي تميّزهم عن الناس.
وفي المجال العسكري: أول من أقام المعسكرات العسكرية المغلقة، وأمر بالتجنيد الإجباري للشباب والقادرين على القتال وحماية والثغور، وأول من حرس حدود الدولة بالمرابطين، وحدّد مدة غياب الجنود عن زوجاتهم، وهو كذلك أول من شكّل قوات احتياط لشن الهجمات المضادة وإسناد القوات في الميدان، وأنشأ لجنوده ديواناً للتنظيم والإدارة يسجل أسماءهم ورواتبهم، وهو أول من أمر قادة الميدان بموافاته بتقارير مفصلة مكتوبة بأحوال الجنود، وأول من أنشأ مخازن لإمداد الجيش بالأغذية.
ليس كل هذا ما فعله عمر، بل هذا كان جزءًا ممّا أبدعه عمر في طريقه نحو الحضارة، وليس المقام هنا مقام ذكر ما فعل عمر.. إذاً لا نستطيع!
استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة، يفتح شهيتنا لقراءة سيرة عمر وتاريخه المشرق من زوايا أخرى، ليس من زاوية التسلية والقصص وحكايا ما قبل النوم بل من أبواب العمل، والإنتاج، والحسبة، ونشر الأخلاق الفاضلة، وإعلاء راية الجهاد المستنير.. قراءة تنقلنا من الجانب النظري الذي أمات فينا روح عمر.. روح العمل الذي كان يعمله عمر، ولا شيء يعمل كالعمل، لا قيمة لكل النظريات والكلام المُنمّق إن لم يقف خلفه تطبيق عملي، ينقل الإنسان من مربع الأمانيّ والكسل إلى مربع التخطيط والعمل.
لا يمكن أن يكون الواحد مناً عمراً كاملاً، لكن يستطيع كل واحد فينا أن يكون فيه جزءاً من عمر خاصة في عالم اليوم شديد التعقيد، فقد كان عمراً مؤسسة لوحده: فتراه مرةً معلماً، ومرةً مزارعاً، ومرةً حاكماً، ومرةً قاضيا، وفي كثير من المرات معاقباً بدرته التي يخافها المقصرون.
لقد فضحت عجزنا يا عمر! .. فضحت تقصيرنا، وكسلنا، بل فضحت أساليب إدارتنا وقيادتنا للناس، ما أحوجنا اليوم، بل ما أحوج القادة إلى سيرة عمر، وإدارة عمر، وقيادته الرشيدة، ودرة عمر!
أين أنت يا عمر؟! فقد ركب القادة أفخر الموجود، وارتدى الناس ألبسة عدوهم بتكبرٍ واعتزاز، واعتدى أهل الظلم على مقدرات الدولة، ولم تُعبّد الطرق يا عمر! .. وشبع الرؤساء والملوك قبل أن يجد أطفال المسلمين ما يسد رمقهم، ونام أهل الحل والعقد قبل أن يجدوا ما يستر من لا مأوى لهم!
أين أنت يا عمر؟ فقد اشتقنا لمن يمشي فينا بمسيرتك، فيقيم الصلاة، ويحكم بالعدل، ويحمل على كتفه مؤونة الفقراء، ويرفع القمامة ويكنس السوق، ويقف مع المظلوم حتى يُعيد إليه حقه، وينزل عند رأي العامة لو كان خيراً من رأيه..
لقد أبدع الروائي الفلسطيني وليد سيف والمخرج السوري حاتم علي في عملهما الفني الرائع (مسلسل عمر) الذي يحكي قصته في شكل درامي غير مسبوق حتى استحوذ على لقب (أفضل المسلسلات العربية التاريخية)، إنها لفرصة أن يشاهده الشباب في ظل حجر كورونا، وإنّه ليُغنيك عن الكثير من كتب السير والتاريخ، فقد زادتني قراءتي في كتاب "استرداد عمر" شوقاً لمشاهدته مرة ومرّات ..!
حقيقةً، إن من يقرأ سيرة عمر يشعر أنه يقرأ في خيال، أو يشاهد فيلماً كاذباً من أفلام هوليود التي تحاول أن تصنع أمريكا القوية والناعمة والمتحضرة .. لكن الفرق أن سيرة عمر كانت صادقة، وكان يصنع من خلالها حضارة بلغ أوجها وألقها ما بلغ!، وكان صادقاً حبيبنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "لوكان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب" ..
يا عمر، يا أمير المؤمنين، يا أبو العيال .. ماذا أردت أن تقول لنا من سيرتك؟
ماذا قصدت أن تغرس في نفوسنا عبر فتوحاتك؟ وحضارة الإسلام التي أقمتها؟
عرفنا يا عمر، لقد أردت منّا أن نصنع منك في نفوسنا أمثالك ..
أن نكون عزاً للإسلام كما كنت يا عمر.. أن نكون إضافةً نوعية للإسلام كما كنت يا عمر ..
فيا أيها الشباب المؤمن: اصنع عمراً في نفسك !
كن عمراً في بيتك.. في مسجدك.. في حيّك في سريتك.. في مدرستك وجامعتك.. كن عمراً، وكفى..