«أزهد الناس في عالم أهله» هكذا جاء في الحكم، و«لا كرامة لنبي في قومه»، كما ورد في بعض الصفحات الإنجيلية، إنها العبارات التي تليق بالكثير من العلماء والمفكرين عبر التاريخ، وليس مالك بن نبي مُفكّر الحضارة في العصر الحديث بدعًا من هذه القاعدة ولا استثناء منها.
وكان لانتشار فكر ابن نبي أثر بالغ في الكثير من مناطق العالم، التي اعتبرت أن ما قدّمه يليق بالتجربة الواقعية، كما هو الأمر في ماليزيا وإندونيسيا، ومع ذلك قليلًا ما يرد ذكر الرجل على ألسنة الجزائريين أهل بلده.
ومع هذا النّسيان الذي طال صاحب «الظاهرة القرآنية» و«شروط النهضة»، عرفت الساحة الفكرية والثقافية في الجزائر خلال الفترة الأخيرة حراكًا واسعًا، تجاه التراث الفكري لمالك بن نبي، وحول ضرورة تبني أفكاره ونهجه فيما يُعرف بـ«نظرية النهضة» للمجتمعات النامية، أو كما أسماها هو «الفكرة الأفروآسيوية» أو الكومنولث الإسلامي.
وسنحاول من خلال هذا التقرير، تسليط الضوء على أهم الأسباب التي جعلت ظاهرة «بن نبي» لا تصنع الحدث اللازم والتأثير الفكري في شخصية المثقف الجزائري، بعد أكثر من 40 عامًا على رحيل أكثر المفكرين خلافة لابن خلدون، مثلما يصفه المفكر السعودي زكي الميلاد، في كتابه «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟»
ويقول المؤلف زكي الميلاد «يعد مالك بن نبي، في نظر الباحثين العرب، من أكثر المفكرين في العالم العربي تمثلًا بابن خلدون من جهة اهتماماته بقضايا العمران، والتمدن، والحضارة». وفي هذا الشأن يرى المفكر الأردني الفلسطيني فهمي جدعان أن مالك بن نبي «أبرز مفكر عربي معاصر عُني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون».
الاشتراكية الرسمية في مواجهة بن نبي
يعتبر الخيار الاشتراكي الذي تبنته الدولة الجزائرية بعد الاستقلال مباشرة، أحد الأسباب الرئيسة وراء انحسار فكر مالك بن نبي لدى نخب قليلة جدًا، حتى إن الندوات الفكرية لتلاميذه العرب والجزائريين، كانت تقام في بيته بوسط الجزائر العاصمة.
وعاد مالك بن نبي إلى الجزائر عام 1963 عقب الاستقلال مباشرة بعد غياب طويل عنها، حيث عُين مديرًا عامًا للتعليم العالي بوزارة الثقافة والإرشاد القومي الجزائري، لكن تحفظاته واعتراضاته على النهج والطريقة التي كانت تسير بها البلاد آنذاك، وخصوصًا ما تعلق منها باتجاه المنحى الاشتراكي، أدّى إلى توقفه واستقالته من المنصب.
وتجاهلت الحكومة في ذلك الزمن، التي عاشت فيها الجزائر مرحلة الاغتيال السياسي لمجموعة من رموز الثورة، أصحاب الشهادات والنخب بعد أن رفعت شعار «لا بطل إلا الشعب»، بالإضافة إلى تجميد جمعية العلماء المسلمين التي كان لها مساهمة في المشهد الفكري والسياسي والثقافي للجزائريين قبل اندلاع ثورة التحرير، في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1954.
وقبل اختيار الاشتراكية كنهج رسمي للدولة الجزائرية من قبل الرئيس الراحل، أحمد بن بلة، وكذلك خلفه هواري بومدين، كان لمالك بن نبي موقفًا سلبيًا من الثورة الجزائرية، يقول عن ذلك عبد السلام هراس أحد المقيمين مع مالك في القاهرة: إنّ بن نبي «أبى أن يكون من الجبهة، واعتقد في رسالة وجهها إلى الرئيس بن بلة بعد الاستقلال، أن الثورة ضمت من كان مع فرنسا، وليس العكس، وحاربوا تحت رايتها لفترة من الزمن».
ولم يكن فقط بن نبي الوحيد الذي رفض الاشتراكية الرسمية للنظام، أو حاول المساهمة في التوجيه ضد ما اعتبره «خطأ ثقافيًا وفكريًا» للدولة المستقلة حديثًا، بل راح ضحية ذلك عدد كبير من المفكرين والسياسيين والأدباء والشعراء والعلماء، من أمثال البشير الإبراهيمي ومحمد شعباني وكريم بلقاسم ومفدي زكرياء وغيرهم.
النظرية التي جلبت المتاعب لبن نبي
قد لا يعرف الكثيرون أن نظرية «القابلية للاستعمار» التي تعد من أيقونات فكر مالك بن نبي، جرّت عليه الكثير من العداوات، إذ يقال إنه بهذه النظرية يُسوّغ للاستعمار الأوروبي في دول العالم الثالث، واضعًا اللوم على الشعوب لـ«قابليتها للاستعمار».
ويقول محمد شاويش، في مقال له حول نقد نظرية القابلية للاستعمار، إن هذا المصطلح والمفهوم استخدم بمبالغة كبيرة، لدعم توجهات متناقضة، وقلما تتم العودة إلى الاستعمال الأصلي لمبتكر المفهوم نفسه، وفي مراعاة الظروف الذي نشأ فيها هذا المصطلح.
وبهذا الخصوص يذكر، الكاتب الفلسطيني المعروف غازي التـوبة، أن أضعف فكرة في أفكار المفكر مالك بن نبي، هي القابلية للاستعمار التي ارتبطت بسيرورة تاريخية انتهت بنهاية دولة الموحدين حسبه، وقدم صاحب كتاب رؤى وآراء معاصرة عدة اعتراضات على أفكار بن نبي.
ويضيف التوبة «لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، وربط مالك بن نبي بين الانحطاط وبين القابلية للاستعمار، فاعتبر أن هذه القابلية عامل باطني يستجيب للعامل الخارجي، وأبرز مظاهر هذا العامل الباطني: البطالة، وانحطاط الأخلاق الذي يؤدي إلى شيوع الرذيلة، وتفرُّق المجتمع الذي يؤدي إلى الفشل من الناحية الأدبية».
مفكر في مواجهة الدولة
بعد كل ما سبق بدأ يظهر ذلك الخلاف بين مالك بن نبي، ونظرته باتجاه النهج الفكري والثقافي للحكومة الجزائرية، والاتجاه الذي اختاره حزب جبهة التحرير الوطني وقيادة الثورة، في مؤتمر طرابلس عام 1962، ويدعم سفيان لوصيف ذلك في كتابه «السياسة الثقافية في الجزائر» حول الصراع الثقافي واللغوي والفكري بين النخب اليسارية التي ترعرت في المدرسة الفرنسية، والنخب الإسلامية ذات اللسان العربي، والتي ترعرت في المدرسة العربية، وتلقت تكوينًا دينيًا وفكريًا ولغويًا في المشرق العربي.
وهذا ما جعل دوائر في الحكم تضيق على مالك، إلى درجة التهديد بالعنف، حتى أنه تعرض لاعتداء من مجهولين، بالرغم من الحماية التي كان يتمتع بها من قبل السلطات الأمنية، وتذكر بعض الشهادات أن الزوار الذين يترددون على بيته، لحضور الندوات الفكرية، يتم التدقيق معهم بعناية شديدة.
كما منع الرجل من السفر أكثر من مرة، إلى غاية تدوينه خطاب رسمي سنة 1971 للسلطات، من أجل السماح له ولعائلته بآداء فريضة الحج، وبعد عودته من الرحلة التي دامت شبعة أشهر، تعرض لتضييق شديد وجحود من قبل أجهزة الدولة، ومختلف هيئاتها ورجالها، بعدما تناهى إليها لقاؤه للملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز.
ضريبة النقد العلني للحركات الإصلاحية ومسار الثورة
طرح مالك بن نبي مجموعة من الأفكار، وخلد سلسلة من الكتب التي تعكس اختلافه مع الحركات الاصلاحية التي سارت على نفس المسار الذي كان يريده فيلسوف الحضارة آنذاك، ولعل كتبه الثلاثة «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» و«شروط النهضة» و«بين الرشد والتيه»، توضح جزءً كبيرًا من هذا الاختلاف.
وكان فكره بشكل عام رافضًا لنهج الإصلاح السائد، الذي تبنته جمعية العلماء المسلمين ورواد الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي عمومًا، حيث انتقد في كتابه الآخر كذلك، وجهة العالم الإسلامي، العقلية التجزيئية التي تناولت المشكلات التي يمر بها العالم الإسلامي.
واقترح مالك بن نبي أن تكون الجهود في صورة مذهب مُنسجم، كما اعترض على انتهاجها سياسة علاج العرض، والذي هو «التخلف والاستعمار»، بدلًا من التركيز على المرض وفقًا له، وهو «القابلية للاستعمار والابتعاد عن الفعل والسلوك الحضاري»، وقد جرّ عليه هذا الاختلاف ممارسات إقصائية وتهميشية من قبل الكثير من دعاة المذهب الأول .
وانعكست هذه الأفكار على علاقته بالتنظيمات والهيئات التي استمرت إلى الآن في صناعة الحراك الثقافي والفكري بالبلاد، ولم يعد الميراث الثقافي والفكري لبن نبي متاحًا بين أنصار الحركة الإسلامية، سواءً الإصلاحية أو السياسية، من جوهر اهتماماتها، واتجهت إلى المشرق بمختلف مدارسه من أجل النهل من برامجها.
حتى بن نبي كان مشرقي الإنتاج
من المعروف أن كتب بن نبي الأولى كانت باللغة الفرنسية، والجهة التي تعادي فكر الرجل هو التيار «الفرانكفوني» في بلاده والمنطقة العربية بشكل عام، وهذا ما جعل صاحب «مجالس دمشق» يتجه نحو المشرق العربي، وبالخصوص القاهرة، بعد أن رفض قادة الثورة الجزائرية تواجد بن نبي في تونس لتدوين أحداث الثورة «خوفًا من استقلالية أفكاره».
ويذكر كتاب «مالك بن نبي حياته وفكره» أن الدعم الذي تلقاه الرجل من الحكومة المصرية بين عامي 1956 و1960، أثناء تواجده في القاهرة جعل أفضل إنتاجه الفكري يُترجم إلى العربية من قبل الباحثين المشارقة، بل أجّرت له السلطات المصرية راتبًا لتفرغه للعمل الفكري، وجُعل بيته مزارًا للأدباء والمفكرين وملتقى لطلبته وتلاميذه من شتى البقاع.
كما يذكر عبد الله بن حمد العويسي في نفس الكتاب، أن أهم شخص رافقه هو المحامي عمر كامل المسقاوي اللبناني الجنسية، وهو من حمله مالك بن نبي وصية نشر كتبه وحقوقها بعد وفاته، وسجل ذلك في إحدى المحاكم اللبنانية قبل وفاته في 31 أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973.