كان بيت مال المسلمين هو الجهة الوحيدة المسؤولة عن التصرف بمالية الخلافة الإسلامية وصرفها لمستحقيها من المسلمين والقائمين بأعمال الخلافة من الخليفة إلى كافة عمال الخلافة على اختلاف مواقعهم.
أما عن موقع بيت مال المسلمين، فقد كان ملاصقا لجدران المسجد، وذلك كون المسجد لا يخلو أبدا من المصلين والدارسين والباحثين والقائمين ليلا ونهارا مما يحميه من السرقة. ومن أهم مميزات القائم على بيت المال تمتعه بسلطة مستقلة عن الوالي في الولاية ، فقد كان كيانا بحد ذاته الأمر الذي جعل بيت المال يمارس مهامه المختلفة من جباية المال وتنظيمه وتصريفه بشكل حرّ بعيد عن التوجهات السياسية أو حتى الهوى والمشاكل الشخصية والقبلية .
إذن، كان بيت المال سلطة مستقلة ويمارس مهامه بشكل مستقل ولم يكن هناك سلطة أعلى منه إلا الخليفة.
آلية عمل بيت المال في الخلافة الراشدة
وقد ورد عن مآثر الصحابة والخلفاء الراشدين في تنظيمهم لبيت المال أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يقوم بتوزيع المال أولا بأول، فهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله يقول : إن عمر رضي الله عنه " كان يأمر بكسح بيت المال مرة في السنة"، أي أنه كان يُفرغُ بيت المال مما فيه، لتوزيعه على مستحقيه كل عام.
و كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُقَسِّم أموال بيت المال كل جمعة؛ "حتى لا يُبقي فيه شيئًا" خوفًا من فتنة المال على الراعي والرعية، ولذلك دخل بيت المال ذات مرة: "فوجد الذهب والفضة، فقال: يا صفراء اصفري، ويا بيضاء ابيضي، وغُرِّي غيري، لا حاجة لي فيك - ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 1/157.
وقد كانت سياسة الخلفاء في النظام المالي تفضي في تصريف أعمال الدولة وفي رعاية المجتمع ممن لا معيل لهم، وهذا كفيل بتوفيق الله في سدّ حاجات المجتمع الأساسية وكفايتها. فضلا عما فيه من تحريك للعجلة المالية، فلا يضطر من ليس له معيل أو ليس لديه إمكانية وقدرة على العمل أن يحتال أو يسرق حتى يؤمن عيشه وعيش أهله، بل إن هذا الأمر يجعل مال الدولة في بيت المال وسيلة لدعم النظام الاقتصادي بعدم الوقوع في الكساد من عدم القدرة على الشراء بل يساعد في تسريع دوران المال في المجتمع من خلال ضخ المال للمحتاجين وغير العاملين وكبار السن والأرامل وغيرهم، وذلك بتحريك الاقتصاد المحلي بصفة عامة (أي تقديم المساعدات لمن لهم حقّ فيه وعندهم حاجة).
ولكن، بدون هذه الاستراتيجية المالية - بصفتها إحدى استراتيجيات النظام المالي الإسلامي المتمثل ببيت مال المسلمين- فإنه يتم صرفها في القصور والجيش والمرافق العامة والأراضي بشكل كبير وغير متسق (غير متوازن) بل مبالغ فيه. فما الفائدة إذن من وجود أموال هائلة وضخمة في الخزينة والبلد والمجتمع يعاني الجوع وهو في أمس العوز للطعام عدا عن تراكم كثير من المتطلبات الأساسية المحتاجة لأن تلبى وتغطى من قبل بيت المال؟ وما الفائدة المتوخاة من استثمارات هائلة للدولة كإنشاء الأسواق في حين المال غير متوافر بشكل مناسب في السوق؟ فكيف يكون هناك توازن بين العرض والطلب؟ بل كيف سيباع المخزون المعروض إن لم يتوفر المال إلا في أيدي الأغنياء أو المحتالين والمرابين والتجار؟
هل من فائدة ترجى عند تمتع فئات معينة من الناس بوفرة المال دون الناس عامّة؟ وإن تحركت عجلة الاقتصاد والمال قليلا أو كثيرا بسبب استهلاك كبير من قبل شريحة قليلة من المجتمع في حين إن غالبية الناس لا تجد كفايتها بل وغالبا ليس لديهم المال الكافي ليعطي مشترياتهم ومتطلباتهم. هنا، لن ينفع الاستثمار والمال الغزير ومظاهر الترف في الدولة، ذلك بسبب الفجوة القائمة بين من يملك ومن لا يملك، وسنال الخراب المجتمعات وتسود المجاعات والفقر والأمراض.
وعليه، لا بد من ملاحظة أنّنا - فقط- من خلال استراتيجية واحدة تتمثل بتنظيم بيت المال القائم على التوزيع العادل والمقسط للمال حسب الحاجة على المحتاجين كل حسب حاجته فإن ذلك بالضرورة والوجوب يؤدي إلى توازن غير مسبوق في السوق، يصدق ذلك قوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) } [الحشر]
وقد تضمنت الآية الكريمة تفسيرا واضحا وبينا لتوزيع المال بهذه الصورة، (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) الحشر-7- فبعدم تنظيم بيت المال على النحو المذكور أو على نحو فيه خدمة للعامة من الناس وحسب الأولويات الاحتياجية فإن ذلك مدعاة إلى تداول السلطة المالية بين فئة خاصة من الناس، تكون بيدهم سلطة الدولة في النهاية، ذلك أن مالك المال هو صاحب القوة في الدولة، وهذا ما لا يجب أن يحدث، فلا بد أن لا تكون القوة المالية بيد أحد في الدولة غير الجماعة الحاكمة- وليست أي جماعة- بل الجماعة التي تحكم بأمر الله بتوزيع ما أفاء الله به على المؤمنين للمذكورين في الآية أو لمصالح تخدم العامة من الناس أو لخدمة الخلافة الإسلامية فيما يمكنها من إقامة أمر الله على الأرض ويضمن حقوق الناس جميعا (مسلمين وغير مسلمين) ضمن سيادة الخلافة.
حسنا، هناك أمران: الأول هو وجود بيت المال بمفهومه العام:
- بصفة سلطة مستقلة وعليا وتخضع للخليفة مباشرة و برقابة الشورى والناس بعامة.
- وجوده في مكان عام يطلع الناس عليه، ويرون عملياته بشكل واضح دون غشٍ واحتيال، فقد كان يبنى ملاصقا للمسجد وبعدها عين له حراس خاصون _ لكن المكان عام مكشوف للناس .
والأمر الآخر هو استراتيجية بيت المال في تنظيم تصريف الأموال:
مقتضى بيت المال:
- لخدمة حاجات الدولة الإسلامية لإقامة شرع الله.
-
لإعالة الناس وتحريك السوق وتوازنه.
-
عدم السماح لتمركز الأموال في أيدي جماعة خاصة من الناس.
المحاسبة والمساءلة في النظام المالي الإسلامي:
مما يلفت النظر ووجب ذكره هنا واحدة من أعظم استراتيجيات سيدنا عمر رضي الله عنه في الولاة أنه يتم إحصاء رأس مال الوالي قبل بدئه بأعمال الخلافة وبعد الانتهاء أو إقالة الوالي أو تركه للولاية يتم إحصاء رأسماله النهائي ومن خلال ذلك يتم إجراء حسابات تقديرية لزيادة رأسمال الوالي بعد انتهاء ولايته ليتم التحليل بمنطقية الزيادة في المال الخاص بالوالي خلال فترة الولاية، فما كان زيادة في مال الوالي سببه عمله في الدولة (استغلال وظيفته في الخلافة) _ أي كأن يقوم جزء من التجار ببيع بضاعتهم للوالي في تجارة خاصة به بسعر قليل أو أقل من السوق تقربا من الوالي ومحاباة له للحصول على أغراض شخصية ومزايا خاصة، على أنه لو لم يكن واليا لما تم تمييزه من الناس بالسعر، وقد يشتري التجار منه البضاعة لذات السبب للتقرب منه أيضا، فتصبح حركة رأس المال للوالي أسرع وهو بالولاية مما كان عليه لو كان غير والٍ أصلا _ وهنا يتم تقدير هذه الأموال التي سببها الولاية ويتم اقتطاع المبلغ المقدر ويذهب لبيت مال المسلمين.
دعونا نتعمق أكثر في هذه المسألة؛ وكأنّ الوظيفة (الولاية) هي حق للخلافة والتزام على شخص الوالي لأنه أصلا قد تم إعطاؤه مرتبا يكفيه مقابل عمله بصفته واليا، وبالتالي فإن آي عمل خاص له دون الولاية إن تأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بولايته وأدى إلى زيادة رأسماله بنسبة لم تكن لتزداد لو لم يكن موظفا في الخلافة بهذا المركز الوظيفي المرموق (الوالي)، ستكون هذه الزيادة عبارة عن حق الولاية (حق الناس العامة)، بمعنى آخر: وكأنّ الخلافة الإسلامية كجهة رسمية والوالي بشخصه وماله الخاص قد اشتركوا بالتجارة (الوالي بماله الخاص من جهة والولاية أي الوظيفة بالدولة بمكانتها وسلطتها على الناس من جهة أخرى) وبقراءة مؤسساتية؛ كأنهما شركاء بالتجارة خلال فترة الولاية.
وعلى هذا يكون الوالي قد استفاد او تأثر بوظيفته بعلمه أو دون علمه، وسبّب ذلك الزيادة في رأس المال الخاص بالوالي. وعلى هذا ولهذا السبب، يتم اقتطاع جزء من رأسمال الوالي بطريقة تقديرية وإعادة المال المقدر إلى بيت المال.
من خلال هذه الاستراتيجية يتم كبح أطماع المسؤولين في الدولة وعدم استغلال وظائفهم وانشغالهم عن خدمة الناس بأمورهم الخاصة، وذلك مقابل مرتب مناسب له لازيادة ولا نقصان , فالولاية والرئاسة و قيادة الجيش كلها وظائف والتزامات لها ما يناسبها و ما يكفيها فقط من بيت المال بدون زيادة
أهمية نظام المالية والاقتصاد الإسلامي الراشدي في عصرنا:
بنظرة متفحصة للحياة المعاصرة، فإن بيت مال المسلمين من حيث أعماله وميزاته مؤسسة ونظام مالي واقتصادي إسلامي، يشبهه -من حيث المفهوم الافتراضي- البنك المركزي، ووزارة المالية للدولة. لكن، من حيث استراتيجيات العمل، فالأمر مختلف تماما.
قد ندخل في نقاش طويل حول الخدمات التي تقدمها الوزارات المالية والاقتصادية في الدول كافة دون استثناء. ويرى البعض أنها تعتمد استراتيجيات دقيقة جدا وشائكة ومعقدة داخل الدولة وخارجها.
لن أناقش هذا الأمر بسبب تفصيلاته الدقيقة وكثرة الكلام فيه. وقد نختلف بالرأي والفكر. وهذا الاختلاف ليس بالضرورة معبرا عن خطأ رأي ما. لكن هذا الاختلاف يمثل تعدد الخيارات والأفكار وتنوعها وكلها في النهاية صحيحة. إلا أن هذا الكلام عام بمجمله فهو غير دقيق ولا واضح تماما.
لكن، أود أن أسلط الضوء على أمر جلي وواضح للجميع ويظهر في الطبيعة أصلا مفاده: أن سلامة الأعمال وصحتها، وما يحدد أن الاستراتيجيات المتّبعة صحيحة أم لا هي النتائج الواقعية الظاهرة في المجتمع.
فلو نظرنا نظرة سريعة الآن في واقع العالم كاملا بدون استثناء، لرأينا ما يأتي:
أولا: التمركز المالي وتدويل المال (تداول المال) بين شريحة مخصوصة بدا ظاهرة في العالم وفي الدول خصوصا. وهذا ما رفضته الآية الكريمة سابقة الذكر في سورة الحشر: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ). ولما صار المال دولة بين الأغنياء منا فذلك يثبت بكلام سماوي أنّ الخلل حصل بسبب انتفاء تحقيق أمر الله في توزيع المال كما أمر الله المجتمع .
ثانيا: حدوث المجاعات والفقر المدقع في المجتمع نتيجة عدم توزيع أموال الدولة على الشعب بما يتناسب مع حاجات الشعب، وسيقال هنا أن الدولة تقوم بدعم السلع والبضائع ، ولو صح هذا الكلام فهو غير كاف. ذلك أن دعم السلع ليس هو الخيار الصحيح ، إذ يستفيد منه الأغنياء أيضا والفاسدون والمحتالون رغم وفرة المال لديهم وهم ليسوا بحاجة للدعم أصلا .
لكن الخيار الأولى يتمثل بتوزيع المال العام في الخزينة على المحتاجين من الناس حسب الأولويات، ويتلو ذلك إقامة المرافق العامة وتقديم الدعم للسلع الغذائية، مع العلم أن دعم السلع وتوفير المرافق العامة كلاهما يعد خدمة عامة يستفيد منها الغني قبل الفقير، ترصد لتنفيذها نفقات من الدولة لا داعي لها إذ تقدم الأموال والخدمات لغير المحتاجين لها ولديهم كفايتهم كالتجار والأغنياء.
لهذا السبب، فإنّ تقديم المساعدات بشكل عيني ومالي للمحتاجين فقط، وغير المعالين من أيتام وأرامل ومسنين يعد أمرا ذا أولوية مقارنة بإقامة مؤسسات خدمية يتم إنفاق الأموال فيها دون تحقيق جدوى حقيقية ودقيقة .
وبذلك، تتحصل فوائد عظيمة أهمها زوال مشكلة الفقر التي يعاني منها عدد كبير من الناس، ثم يليها إقامة مرافق ومؤسسات عامة تقدم فرص عمل للمجتمع وتقدم الخدمات المجانية أيضا لهم. وهكذا، كلما زاد رخاء الدولة زادت خدماتها بدءا من تقديم الأموال بصفته حقا للمحتاجين ثم إقامة مؤسسات عامة غذائية وصحية وتعليمية، عدا عن الاهتمام بتطوير المجتمع وتنميته شيئا فشيئا وعلى مستوى واحد ضمن الأولويات.
إن عالمنا الحالي بحاجة للاستراتيجيات الإسلامية الاقتصادية على شكل بيت المال، تلك الاستراتيجيات التي وضعها الإسلام، وتبيّنت نتائجها جلية في العصور السابقة، وظهرت بشكل واضح سلبيات ومفاسد اتباع سياسات مغايرة للتعاليم الإسلامية في أحوالنا الاقتصادية والمالية والاجتماعية مرورا بكافة جوانب الحياة الأخرى.
إن في استحضار بيت مال المسلمين إلى واقعنا الحالي حلا لجميع مشاكل المجتمع الحالية والمستقبلية.