إنها لظاهرة يتفطر لها القلب ويندى لها الجبين، وينغض بها المضجع، أن تُبصر هذا الكم الهائل من شبيبة الأمة الإسلامية في طريقها إلى معاداة الإسلام ومعاندته في قيامته من بعد أن كانت ذخرا للذود عنه وتحقيق الريادة به، ومن المفجع أن يكون من ضمن هؤلاء الشباب كفاءات إستثنائية في مجالات علمية وفكرية فذة، كان الاستثمار الناجع فيها ليحقق للإسلام الصولة التي يتحرى من بعد كبوته لقرون!
للأمة الإسلامية رأس مال بشري هائل وذو تأثير فاعل في كيان الحضارة الغربية اليوم، هجروا أوطانهم من بعد أن لم تُوَفَرْ لهم البيئة الموائمة للإبداع الفكري، والتقني والفني، وليست المنظومة السياسية المستبدة شُخُوصًا وأنماطا (أيديولوجيات) بالأكثر تكديرا لصفو تلك البيئة من المنظومة القانونية الواهية والمحتكمة للموروثات الدينية التي هي ليست من صميم الدين بقدر ما هي مجرد أحد تأويلاته المتعددة.
والكثير من كفاءاتنا في أوروبا وأمريكا والدول الآسوية يتهمها بعضٌ منًّا بشتى التهم والتحاملات لمجرد أنها دعت إلى إرساء حضارة إنسانية حقة، ثم يستسعف بها المكابرة فور أن تتكشف سوءات العجز للأمة العربية حينما يواجه العالم إختبارات جادة لقدرة الشعوب على تقديم الإسهام كما اليوم.
لا يعني هذا بطبيعة الحال، أنه ليس في بلدان العالم العربي والأمة الإسلامية كفاءات ومقدرات علمية وتقنية معتبرة تحظى بالإشادة الدولية وإن قلَّت، وأعاقتها الإمكانات والدعم الوافر. فمما لا شك فيه أنَّ هناك مشاريعا علميةً وتقنيةً واعدة في العالم العربي إضافة لجمهور مهتم متنامٍ بشكل ملحوظ.
لكن بلا شك لن تنمو المواهب ولا العقلية الإبداعية في عالمٍ ينبض بالمعاداة للعقلنة والفوارض على التفكير المستقل حتى وإن أجحفَ هذا التفكير في حق أنموذج فكري محدد أو طرح معين، ثم يَرْمِي أهله بالتهم الطازجة الجاهزة من قبيل الكفر والإلحاد والتفلت من حقيق الدين! ولا تكاد هذه العداوة تخبو إلاّ لتشتعل من جديد ومعلمها الأبرز الصبيانية في المشاعر والعاطفية في الاحتكام.
لا حضارة دون انتواع. لا وِفاقا دون اختلاف. ولا حَقَّ دون تصورات. ولا تقريرا دون مقارنة ولا دقة دون تحرٍ، ولا يقينا دون شك.
والإسلام لا ينقصه أن يسود، ويتقدم المشهد إلاَّ أن تتوفر له أرضية الرأي والرأي الآخر، بإنصاف وعدل. فإذا تنكرت الأمة الإسلامية لحرية الرأي والاعتقاد والتعبير والاعتناق فإنها تتنكر للإسلام عَيْنًا، وتستنصر عليه من حيث ابتغت الانتصار له! فلا نستغرب حينها أن تخرج الأفواج من بنينة الإسلام عليه لسوء فهمها عنه، على حيثية تعيين الإسلام كآراء البعض فيه، لا وقوفا عليه عن دراية وتحقيق.
ولعل هذا يحدث في ظل وجود حرية تامة للنقد والرد لدى عالمٍ بديلٍ. فهل من الوارد بعدها أن نتساءل لما هذا العالم البديل أكثر إستقطابا للعقول العربية الفارة بدينها ولادينها وقناعاتها الفكرية! لا أتحدث بطبيعة الحال عن تلك الشخصيات التي لا تملك إلاّ بضاعة مجزاة على مقاس التشهير بالرموز أو التحقير من بعض الآراء الدينية، فهذه لا تقدم جديدا، ولن تجد في الغرب الملاذ الآمن إن قرر العالم الإسلامي أن يحاكمها هناك، فحرية التعبير لا تتضمن الإساءات إلى الأديان ولا إلى أهلها على أي حال.
لكن أتحدث عن هذا الكم الهائل من المفكرين الذين قدموا الإسهام الفكري اليافع والنافع، ثم لاحقتهم التهم والتنقيصات والتسطيح من ثقافتهم لمجرد أنَّ آراءهم لا تسترسل مع الرأي السائد أو التبعية التي قد يتصف بها كثير من جمهرة الإسلام في بلدانٍ يبدو أنها تحجر على استقلالية الفكر لصالح ركود العقل وتبلد العواطف والتعصب للقديم في نظرهم.
لا مفر من هذا الاعتراف الجارح، وهو أنّ تصورات البعض عن الإسلام من عمائمه الفذة وشيوخه الأكابر- في نظر جمهرته- قد توحي بأنَّ الإسلام يقمع الرأي الآخر الذي لا يتناغم والرأي الغابر! وهذه إشكالية فكرية ينبغي معالجتها بحسم.
قرأنا في تاريخ الإسلام وعن نشأة الإسلام للمرة الأولى فلم نجد أنّ الإسلام قمع رأيا قط، حتى وإن طعن هذا الرأي في معلومه ومأصوله. فالشعار الذي أعلاه الإسلام منذ بزوغ فجره الأول هو "لا إكراه في الدين" ولم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أي مرتد عن الإسلام حتى والإسلام عزيز، وعفى عن مشركي قريش يوم الفتح، وقبل بشرط أنّ المرتد عنه لا يمس في صلح الحديبية، فلو كان للردة حدا ما فرط فيه صلى الله عليه وسلم، بل عفى عن مرتدين كثر في عصره، ولم يأمر إلاّ بقتل واحد منهم كان من كتاب الوحي بين يديه وثبتت محاولته لتحريف القرآن. [1]
بل إنّ حروب الردة التي خاضها المسلمون من بعد وفاته عليه افضل الصلاة والسلام كانت جميعها حروب دفاع ومقاومة لا حروب أطماع ومداهمة. وهكذا جميع المعارك التي دارت في زمنه صلى الله عليه وسلم أيضا، فقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة، لأنهم نصبوا العداوة لدولة الإسلام. [1]
هكذا حقيقة الوضع، غيرَ أنّ تصرفات البعض المنسوب للإسلام لا ينبغي اعتبارها حجة في الإسلام، وإلاَّ فإن الإسلام ههنا أقرب لكونه طرحًا شخوصيا أكثر من كونه نموذج مستقل يسترجع بالدلائل والنصوص بدل فهوم الأشخاص.
ثم لعله صحيحٌ ومَحِيفٌ أنَّ الموضة الفكرية في هذا العصر لدى العديد من الشباب المثقف غدت تتجسد في التعالي على النمطيات الدينية التقليدية السائدة ولو عن خواء علمي ومعرفي قاحل كما يتبادى به البعض منهم للأسف. كما صحيح أنّ الكثرة من الملاحدة العرب يسلكون مسلكًا صِداميا بحتا وينطوون على ضغنٍ شخصيٍّ اتجاه رموز الدين لإسباب عاطفية ذاتية.
لكني لا أستغرب حقيقةً من حجم الشبيبة الإلحادية في العالم العربي والتي امتلكَ كَاثِرُهَا الجرأة المندفعة لإبداء آرائه والتعبير عنها بقوة، بل وبقسوة إبان منتصف هذا العقد المنصرم وإلى اليوم والعدد في تنامٍ وازدياد مضطرد! ذلك أن هناك أسبابا كائنة ودوافع حية غير معالجة تُفضي إلى استشراء هذه الظاهرة بشكل ملحوظ في العالم الإسلامي عموما والعالم العربي خصوصا.
ومن أبرز هذه الأسباب قصور المدارس والمؤسسات الدينية عن تدريس العقيدة الإسلامية باحترافية فذة تُساير نماذج الاستدلال وأنماط التفكير في عصر الفلسفات والعلوم المتطورة. وثم عزوفها عن خوض المناظرات وبحث المقاربات الممكنة بالعزم المتقد والإلمام الكافي، ثم تفرد الدين ببعض التصورات أو التأويلات كأصح تعبير أثبت العلم بالحسم القاطع عدم دقتها، وأثرت بالسلب على طرحه في مجمله باعتبارها محورية فيه وبالغة المركزية. أتحدث عن حقائق من قبيل بداية النشأة وأصل البشر وملحقاتها من جنس بزوغ الوعي واكتساب اللغة وظهور الأديان وغيرها من التراثيات الغيبية.
لقد نجح العلم في زيادة عالم الشهادة على حساب عالم الغيب لدرجة احتوائه العديد من الحقائق التي اعتبرها ولا يزال يعتبرها الفكر الديني في طرحه التقليدي تقع ضمن إطار الغيبيات.
ومن هذه الأسباب غير المعالجة أيضا سيطرة المَشْيَخَة الكلاسيكية على المؤسسة الدينية واستئثارها الوصاية الرسمية على الدين. وثم- إلى حد ما- قمع الآراء المستجدة ومساعي التجديد وتشويه المستحدث والتنقيص من الجهود المضنية التي بُذلت من قبل مفكرين وباحثين كثر لغرض ردم الهوة ما بين الإسلام والحداثة.
إنّ هذا الإحكام الجامد الذي يُذَّكِرُ بالسطوة الكهنوتية والكنائسية في العصور الوسطى، وهذا الحرص الكابد الزاهد في تقديم الدين في حلة أكثر حداثة وانسجام مع الفطرة والنظريات التي يُفرزها العلم والتي قطعت الأشواط البعيدة في رسوخها كركائز في العقيدة المعرفية للإنسان المعاصر، هو ما يوفر للكثير من شبيبة العالم العربي والإسلامي الدافع والرافد الصارم في التفلت من تعاليم الدين وإملاءاته باعتباره أقل شأنا من أن يقرر للإنسان القيم أوالمبادئ.
وثم هناك بطبيعة الحال تلك الأسباب النفسية والعاطفية التي ترتبط بشخصية الملحد نفسه، وطبيعة التجارب والإخفاقات التي عاشها والتي ساهمت بتأثير أكبر من غيرها في نسج انطباعه العام عن الدين وشخصياته ومؤسساته وتعاليمه وتقريراته[3]. وثم تلك التي ترتبط بالبنية المجتمعية والطبقة التفاضلية وما يعتورها من الإختلالات والنواقص المجحفة في حق البعض[4]. غيرَ أنَّ بعض الدراسات التي تعود بأسباب اقتناء الإلحاد إلى نفسية الملحد اتجاه الدين، تُلَّمِحُ إلى أن مادة التصورات الدينية وأبهة الشخصيات الدينية وتَنَفُذِهَا في المجتمع والصدارة في شؤونه وحباكة وعيه الجماعي، في حد ذاتها تبدو هي مكمن الخلل، أي أنها ربما هي المُنشئ الفعلي لهذا المأزم النفسي لدى الملحد، أو المفاقمة له على الأقل.
إنّ معدل صناعتنا للإلحاد في عالمنا العربي والإسلامي قد يفوق معدل صناعتنا للتقنية والغذاء والدواء بأضعاف، فإن كل خطبة جمعة تتوافد إليها شبيبة وطليبة جامعية وكل وقفة لإمام أو مداخلة لفقيه يسمعون فيها خطيبا يُجَاهِرُ دون تحرٍ أو تدقيق أن الإسلام يقتل المرتد أو يرجم الزاني الثيب، أو يغمط حق المرأة في تقلد المناصب القيادية الرفيعة، أو حقها في الممارسة القضائية أو أن الإسلام يستسيغ العبودية ولا يتمنعها، أو اعتبار الرأي أصل من أصول الشريعة وما على شاكلة هذه الإجتهادات المثيرة للجدل والمدغدغة للمشاعر الإنسانية الفطرية السليمة، فإننا نفقد فردا على الأقل، ربما يمتلك مسبقا القابلية لهجر الدين، ولا يُكلف نفسه عناء التقصي والبحث الجاد عن إن كانت هذه الآراء هي من صميم أحكام الشرع، أم هي مجرد اجتهادات غير ملزمة، ولا عن دلالة وحيثيات ورودها أو وجه مشروعيتها. ومن المؤلم أنّ هذه الصناعة تغذيها أسماء تنسب نفسها للعلوم الحديثة في أحيانٍ كثيرة لديها انطباع مُسبق تسعى لترسيخه مُحابٍ للآراء الدينية التقليدية بكل تأكيد.
وفي المجمل فإن الحل في نظري يقوم على أساسين:
أولا: الحرية التامة والمطلقة للتفكير والتعبير، من دون المساس بمعتقدات الأفراد ولا برموز الدين، على أن لا يتضمن بندُ رموز الدين الشخصيات العلمية فيه، وإنما الأنبياء والمراجع الكبرى. فإن نقد الآراء للأشخاص ينبغي أن يظل حرية مصانة بغض النظر عن حجم تلك الشخصية في وجدان الناس، وأما الإساءة اللفظية والمعنوية للإنسان عموما، فهي ليست حرية شخصية بطبيعة الحال. وأقولها بصراحة دون عِيٍّ في اللسان: الدولة العادلة التي يؤسس لها الإسلام، هي الدولة التي تضمن حرية الإلحاد المطلق- في الفكر والقناعة- والإعتقاد في غير الإسلام جنبا إلى جنب حرية الإيمان، فليس من قبيل العدل مثلا، أن نتحرك استنفارا واستنكارا إذا منعت دولة غريبة جماعة إسلامية معينة من الدعوة إلى الإسلام، واعتبار ذلك مخالفة لحرية التعبير والتصرف، ثم شن حملات اتجاه الدعوات التنصيرية ههنا في بلاد الإسلام!
ثانيا: خوض الحرب بجدية أكبر، وعدم التقاعس عوزا أو ضعفا، والمعركة تبدأ من التجديد الداخلي وإعادة صياغة الإجتهادات والآراء، وتنقية الموروث واستحياء التراث بقيم جديدة ومناهج قويمة، والحقيقة أنّ جهودا عظيمة بُذلت في هذا الشأن، لكن تنقصنا الآلية التوعوية للجمهور بهذه الإسهامات والتعريف بها وبروادها والإعتماد الرسمي لها مؤسسيا وشعبويا.
وثم ولوج ساحة الحرب بعقلية الخصم، وذاك بالتسلح بالمعارف الحديثة والإستنتاجات الحصيفة لمجابهة الباطل بسلاحه الذي يستنجد به، وهذا يعني أننا سنحتاج إلى إعادة النظر في مناهج تدريس العقيدة الإسلامية والفقه والأصول بحيث تُساير الطرح العلمي ومفرزاته اللامتناهية.
ولأختم، فإني أعتبر أن المسعى الجاد لمناهضة الإلحاد كظاهرة، مشروط بالاحترام التام لحرية الرأي والاعتقاد، وثم الانفتاح على الحوار ومناقشة كل الجزئيات بما في ذلك الثوابت الدينية أو ما يعتبرها الرأي العام ثوابت وخطوط حمراء يُحظر تجاوزها، وإلاّ فإنّنا سنخسر الحرب قبل أن نخوضها حتَّى!