غير خافٍ على عامة الناس ما للعلم من سمو المكانة وشرف المنزلة، وما لحامله من ذلك، ويزداد كل ذلك تبعا لشرف المعلوم والتوسعة فيه، وظهور أثره على حامله.
ولما كان فضل العلم بهذا الظهور لم يكن بنا حاجة إلى إقامة البراهين ونصب الأدلة، على الاشادة به، وإظهار محاسنه، فكلُّ ذلك معلوم، وقد اعتنى به كثير من العلماء على سالف العصور.
أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالزيادة من العلم، ثم جاء الأمر القرآني الآخر، لتأكيد القضية والحث على طلب المزيد من العلم فقال تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [سورة طه الآية: 114]
قال ابن القيم- رحمه الله: وكفى بهذا شرفا للعلم؛ أن أمر الله نبيه بأن يسأله الزيادة منه.
شيء من حال الصحابة في الازدياد منه:
لقد حفظ الصحابة - رضوان الله عليهم- ما كان عليه قدوتهم - صل الله عليه وسلم- من حرصٍ على العلم، فاقْتفوا أثره، وضربوا أمثلة نادرة في الحرص عليه والتفانى في طلبه، كان عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه- إذا تلا قوله تعالى " وقل رب زدنى علماً" يدعو ويقول: اللهم زدنى علما وإيمانا ويقينا.
يقول العلامة محمد شاكر رحمه الله: يا بني أقبل على طلب العلم بجد ونشاط، واحرص على وقتك أن يذهب منه شيء لا تنتفع فيه بمسألة تستفيدها، يا بني زينة العلم التواضع والأدب، فمن تواضع لله رفعه، وحبب فيه خلقه، ومن تكبر وأساء الأدب سقط من أعين الناس وبغَّضه الله إليهم، فلا يكاد يجد إنسانا يكرمه أو يشفق عليه، يا بنى إذا لم تحترم أستاذك فوق احترامك لأبيك لم تستفد من علومه، ولا من درسه شيئاً.
وقديما قالوا: من لا يكرم العلم لا يكرمه العلم، وإليك عشرون طريقة تعظم بها العلم:
تطهير وعاء العلم: وعاء العلم هو القلب، فيجب تنظيفه من الأوساخ، فالإنسان يستحى أن ينظر مخلوق مثله إلى وسخ لحق بثيابه فكيف بخالقك ينظر إلى وسخ قلبك!! إن العلم جوهره لطيف فلا يصلح إلا للقلب السليم، لذلك يجب تطهيره من وسخ الشبهات والشهوات وما أكثرها فى زمننا هذا.
إخلاص النية: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" فالمرء ينال من العلم على قدر إخلاصه، حيث إن العلم شجرة والعمل ثمرة وإنما يراد العلم للعمل، لذلك الإخلاص فى العلم من أهم عوامل تحصيله والاستفادة منه ويتحقق الإخلاص في العلم من خلال أربعة محاور: أولها رفع الجهل عن نفسه بتعريفها ما عليها من العبوديات وإيقافها على مقاصد الأمر والنهي، ثانيها رفع الجهل عن الخلق بتَعليمهم وإرشادهم لما فيه مصالحهم، ثالِها إحياء العلم وحفظه من الضياع، رابعها العمل بالعلم.
جمع همة النفس عليه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" ومنه نستنبط ثلاثة أمور: أولها الحرص على ما ينفع العبد، فمتى وفق العبد إلى ما ينفعه حرص عليه، ثانيها الاستعانة بالله فى تحصيله، ثالثها عدم العجز عن بلوغ البُغية منه وهنا قال الشاعر :
الجَدِّ بالجدِّ والحرمان بالكسل فانصب تُصِب عن قريبٍ غاية الامل
صرف الهمة فيه إلى علم القرآن والسنة النبوية الشريفة: إن العلوم أجلها ما يوصل بالله، والقرآن الكريم كلام الله، والسنة النبوية الشريفة هما أجل العلوم ووجب بذلك تعلم ما يساعد على تعلمهم وفهمهم، ثم معرفة ما يستلزم من العلوم الدنيوية التي يساعد على العيش والكسب قال الشاعر:
العلم فى أصلين لا يعْدوهما إلا المضل عن الطريق اللاحب
علمُ الكتاب وعلم الآثار التي قد أسندت عن تابعٍ عن صاحب
وقال آخر:
جميع العلوم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال
سلوك الجادة الموصلة إليه: لكل هدف طريق موصلة إليه، ولا يوجد غيرها، فإن غيرها سوف يضل ويشتت ولا يحصل على كل ما أراده، والطريق الموصلة إلى العلم تكون بالعقل الراجح والاجتهاد ثم المتن والشيخ ولا يتم العلم بغيرها فتحْصيل العلم يكون بعقل راجح، كتب صحاح، شيخ فتاح.
رعاية فنونه فى الأخذ وتقديم الأهم فالمهم: يُطلب العلم اختصاراً فى كل فن حتى إذا استكمل الطالب أنواع العلوم النافعة، نظر إلى ما وافق طبعه منها فيَتبحر فيه سواء كان فن واحد أو أكثر قال الشاعر:
وقدم الأهم إن العلم جمّ والعمر طيفٌ زار أو ضيف ألَمّ
اغتنام سن الصبا والشباب: إن العلم فى سن الشباب أسرع إلى النفس وأقوى تعلقا ولُصوقا وفي هذا يقول الشاعر
أيام الحداثة اغتنمها ألا إن الحداثة لا تدوم
لزوم التأنى وترك العجلة: تجاوز الاعتدال فى العلم ربما يؤدي إلى تضيعه؛ لذلك قالوا طعام الكبار سم الصغار، ومن هنا نستنبط بأن ابتداء العلم يكون بالقليل واليسير من الشروح والمتون وغيرها، ولا يكون بالمطولات ومسائل الخلاف حتى لا يضيع الفتى بينهما، ويفتقد دينه أو يترك العلم من صغره، بل إن لكل مقام مقال ولكل سن تفكير وطعام.
الصبر فى العلم تحملاً وأداءً: قال الاصمعى "من لم يحتمل ذل التعليم ساعة ضاق مرارة الجهل دهرا"
ملازمة آداب العلم: والمرء لا يسمو بغير أدب وإن يكن ذا حسب ونسب
قال الإمام مالك لفتى: "يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم".
صيانة العلم عما يشينه ما يخالف المروءة ويخرمها: ينبغى لطالب العلم حتى ينتفع بعلمه أن يتحلى بالمروءة من قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" مثل حلق اللحية وكثرة الالتفات فى الطريق، أو مد الرجلين فى مجمع الناس، أو الصحبة السيئة وغيرها.
الصحبة الصالحة: الزمالة فى العلم إن سلمت من الغوائل نافعة فى الوصول إلى المقصود وفي هذا يقول أبو بكر الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حالاته كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
بذل الجهد في حفظ العلم والمذاكرة به والسؤال عنه: حيث إن العلم يذهب بالنسيان وقلة المذاكرة، والقرآن هو أيسر العلوم وأشرفها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها فذهَبت"، فهذا أيسر العلوم القرآن عدم المداومة عليه، ينسيه فكيف بباقى العلوم أليس من الحكمة طول مدارسته وملازمته مع ملازمة القرآن.
إكرام أهل العلم وتوقيرهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس من أمتي من لم يقدر كبيرنا، ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه"، العالم هو بمثابة الأب الروحى لطالبه كما أن الوالد هو الأب للجسد، وإن التعامل اللين معهم إذا ثبت منه زلة ضرورى، حيث ينبغى ألا يجهر بها ولا ينثرها بل يحدثه إياها بلطف وسر.
رد مشاكل العلم إلى ذوي الاختصاص: عدم التأويل فى العلم ورده الى أهله ولزوم قول العالم، وإن اختلفوا فليزم قول جمهور العلماء ويصحب السلامة ذلك خير له.
توقير مجالس العلم وإجلال أوعيته: قال إمام دار الهجرة أنس بن مالك رضى الله عنه: "إن مجالس العلماء تحتضن بالخشوع والسكينة والوقار"، وأوعية المجالس تلك هى الكتب، يجب احترامها وعدم إهمالها.
الذبُ عن العلم والذود عن حياضه: للعلم حرمة لا ينبغى القرب منها ومن اقترب منها وجب رده إلى رشده.
التحفظ فى مسألة العالم: ينبغى اختيار الوقت والمكان والحالة وتحديد السؤال وما هو الغرض منه قبل السؤال عنه حتى لا يساء فهمه أو رده.
شغف القلب بالعلم وغلبته عليه: قال ابن القيم الجوزيه "من لم يغلب لذة إدراكه وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبدا".
حفظ الوقت بالعلم: إن الوقت قليل والعلم كثير ولا يحصى، ولذلك وجب إنفاق جل الوقت في طلب العلم والإفادة منه، وخير مثال على ذلك سيرة سلفنا الصالح العطرة.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
إن هذه الطرق علينا وَعْيُها وتدبرها حتى تكون واقعا ملموسا فى حياتنا المعاصرة، لما فيها من أثر حميد على أمتنا العربية والإسلامية، وهذا هو أخى القارئ تعظيم العلم، فمن لم يجد لنفسه منها شيء فليعلم أنه مفرط فى حق العلم وحق نفسه، ووجب عليه المسارعة إلى اقتناء ما استطاع منها، لعلها تنجيه يوم القيامة.