(تقرؤون نص مداخلة الدكتور ونيس المبروك من ليبيا التي قدمها في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الخميس 26 نوفمبر 2020.)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نصلي ونسلم على معلم الناس الخير، الذي كان كريما بتقواه، حبيبا إلى نفوس الناس بعدله واستقامته وشمائله، ورضي الله عن صحابته الكرام الطيبين، الذين اتخذوا من تقوى الله تعالى خير زادهم، ومن الحكم بما أنزل الله تعالى سبيل حياتهم، فكانوا بحق خير أمة، وأصدقها لهجة وأحسنها طريقا.
أشكر لإخواني في منصة عمران هذه التظاهرة العالمية المهمة والكبيرة، نسأل الله عز وجل أن يطرح فيها العلم النافع، وأن تكون مباركة، وأن تكون بدايات لِمبادرات عملية تصلح من شأننا وشأن الناس من حولنا.
أقول بداية أيها الإخوان الكرام، إن الحق سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل في وصف هذا الكتاب (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة الشورى الآية: 52]، هذا القرآن أيها الإخوة هو روح هذه الأمة أفرادا وجماعات، هذا القرآن هو الذي أنشأهَا خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
«البعثة مفتاحُ كل الأقفال» ومعيار المُفاضلة!
وعندما نتحدث عن الصناعة النبوية للصحابة الكرام لا يمكن أن نتصور تلك الصناعة ولا يمكن أن نعرف قدرها، إلا إذا عرفنا كيف كانت أحوال هؤلاء الرجال، وكيف كان حال العرب وحال الناس من حولهم قبل البعثة النبوية، فإذا كان علماء الاجتماع يعتبرون أن عامل وحدة الأرض أو وحدة اللغة، ووحدة الثقافة ووحدة المصالح والتاريخ، هي التي تنشئ الأمم فإن وجود تلك المشتركات لم تخرج أمة في ذلك الوقت، بل كانت العرب قبائل متناحرة يأكل القوي فيها الضعيف كما تعلمون، وتأكلها أيضا الحروب والثارات الطويلة.
وقد أجاد الإمام الندوي رحمه الله عندما وصف أثر هذه البعثة النبوية بأنها كالمفتاح الذي فتح كل الأقفال، كما يقول في تعبيره كانت الحياة كلها أقفال معقدة وأبْوابا مقفلة، كان على العقل قفل لم يستطيع الحكماء أن يفتحوه، وكان على الضمائر أقفال لم يستطع الوعاظ والمرشدين أن يفتحوها، وكانت العواطف والمواهب مقفلة، حتى عجز عن التعليم والتربية، كان كل شيء كأبواب مؤصدة ومقفلة لم يفلح أحد في فتحها، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المفتاح، مفتاح القرآن، فعندما وضع هذا المفتاح على كل هذه الأقفال فتحت وتفجرت هذه الكنوز وأخرجت هذه الأمة، كانت بعثة الأنبياء من قبل هي بعثة لأقوام، تنتهي هذه البعثة بنهاية وموت النبي، إلا بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فإن بعثته كانت بعثة لأمة وليس لفرد.
نحن في الحقيقة نحتاج أن ندرس كيف صنع النبي صلى الله عليه وسلم، كيف أحدث تلك المعجزة، كيف صنع بالقرآن هذه النماذج الفذة التي أحيت الدنيا جميعا وأضاءت بحضارتها إلى يومنا هذا.
علم النبي صلى الله عليه وسلم صَحابته عظمة وأهمية وأثر وفضل القرآن وفضل الأخذ به وفضل أهله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين في قتلى أحد في ثوب واحد ثم ماذا يقول؟ أيهم أكثر أخذا للقرآن، والصحابة يستمعون لهذه المفاضلة، هذا يغرس فيهم معايير جديدة، فإذا أشير إلى أحد منهم قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في اللحد.
وكان يقول إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، وهذه في إمامة أعظم عبادة من العبادات، وكان سيدنا جندب رضي الله عنه كان يقول كنا فتيانا مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا. والحقيقة هذا منهج تربوي عظيم يحتاج إلى وقفات، هنا يجب أن نذكر علة هذه المفاضلة ونقف عندها طويلا، على أية حال أنا أريد في هذه العجالة أن أذكر لإخواني وأخواتي بعض هذه البذور العظيمة في هذه الصناعة، يعني كيف صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أثر القرآن في الصحابة الكرام؟
ما هي أول قضية اعتنى بها «رجل القرآن الأول»؟
في تقديري أن أول قضية اعتنى بها القرآن ودون شك اعتنى بها رجل القرآن الأول عليه الصلاة والسلام هي قضية الإيمان، ونحن عندما نذكر الإيمان أو نذكر العقيدة ينبغي أن نتَفطن للتشويه المفاهيمي الذي أصاب هذا الركن الركين في ديننا.
عندما نتكلم عن الإيمان لا نتكلم عن المباحث الكلامية، والمباحث الفلسفية، وهذه القضايا التي جعلتها بعض الطوائف المعاصرة منشارا يقصدون به أفراد الأمة، وجعلوا قضايا الإيمان وقضايا العقائد مثل الأرض الملغومة، التي إذا تحركت فيها دون خارطة ممكن أن تُبَدَع أو تُفسق أو حتى تُكَفَر، الإيمان الذي عرضه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما علمه القرآن ليس مجرد معرفة ذهنية، هذه معرفة، هذا فكر، وهذه المعرفة الذهنية لم تعفي إبليس من أن يكون خالدا مخلدا في النار، وهو ليس قولا باللسان، قالت الأعراب آمنا، وهو أيضا حتى ليس عملا بدنيا أن تشارك الناس في الصلاة، وهي عمود الدين، فقد كان المنافقون يفعلون ذلك.
إذن لا بد أن نفهم مفهوم الإيمان الذي جاء به القرآن والذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، الإيمان هو عمل نفسي قلبي يبلغ إلى أعماق النفس ويحيط بها، وهو عمل ذهني دون شك تنكشف به حقائق الوجود، وبه ينظر للمَواقف، وتُقيم المواقف والأحداث والعلوم وحتى الفنون، ولهذا البعض يظن أن القرآن عندما ركز على قضية الإيمان وعلى قضية العقيدة في السور المكية، سبب هذا التركيز أن القرآن جاء ليخاطب قوما مشركين، فأراد أن يخرجهم من الشرك، حتى يضعهم على محطة أخرى.
ثم تأتي فيما بعد التشريعات ويخف الحديث عن الإيمان، ولكن استمرار القرآن في الحديث عن هذه القضية في الصور المدنية لهو أكبر دليل على أن هذه القضية هي القضية المفتاح لكل خير، في كل زمان ومكان وحال، هذه القضية هي التي تفتح بها قلوب البشر للخير، لأن هذا الدين فطرة، وعندما يلتقي حقائق العقائد والقرآن كما عرضها القرآن وفطرة الإنسان ولو كان ملحد، ستلتقي الفطرة مع الخطاب القرآني فينشأ فيها الخير، كما نشأ في الصحابة الخير، وربوا على الخير، فأنتَجوا الخير.
القرآن لم يغير فى مكونات الصحابة، إنما أعاد ترتيب هذه المكونات، أعاد ترتيب هذه العلوم وبين لهم حقائق الكون التي كانوا يجهلونها، لأن القرآن لم ينزل ليبدل الفطرة، بل ليعيد هذه الفطرة إلى ما كانت عليه عند الخلق الأول.
زادُ «الجيل الذي تقوم على أكتافه الحضارة»
المسألة القرآنية الأخرى التي غالى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي جزء لا يتجزأ من حقائق القرآن واعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية البعثة عناية خاصة، لأن هذا الجيل هو الذي ستقوم على أكتافه هذه الحضارة، هو الصبر وهو أهم زاد مع التقوى، التقوى دون صبر أو حق، دون تواصي بالحق دون تواصي بالصبر، لا تكتمل المعادلة.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يربي أصحابه على هذا الأصل العظيم، ويعلمهم وهم في أشد أنواع الإبتلاء أن القوم من قبلهم قد مروا بهذا الطريق، وعندما يأتون النبي يقولون يا رسول الله أدعوا لنا، فكان يجيبهم إجابة المربي، الذي يعرف ماذا يريد، وإجابة المربي لقَادة المستقبل الذين سيملكون الأرض بعدل الإسلام.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم (لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، ويمشط بأمشاط الحديد) يصف لهم هذه المسألة حتى يعرفوا حقيقة الصفقة مع الله عز وجل، حتى يعرفوا حقيقة هذه التجارة، حتى تستعد رواحلهم لحمل المسؤولية التي أبت السموات والأرض أن تحملها، ولكنكم قوم تستعجلون.
عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة التي هي في الطبيعة البشرية، وكما ترون نحن في طبيعتنا اليوم يصيبنا الذهول عند إصَابتنا بالأزمات أو بالمحن، لأننا نحن ورثة أولئك القوم، نحن ذريتهم، نحن قوم نستعجل، إذن من المعاني التي ربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وصنعهم بها وصنعهم بها القرآن، هو التربية على الصبر، وهذا حديث طويل ذو شجون.
«في عصر الفصام».. حال رجل في ألف خير!
المسألة الأخرى هي المثل الأعلى، في الحقيقة عصرنا هذا عصر الفصام، ونجد أن الناس يتكلمون كثيرا ويُبادرون إلى كثير الكلام، وشَرح الكلام، وشرح الشرح، ولكن الناس اليوم يفتقدون إلى قدوَات، بل أنا أقول الأمم، حتى الكون من حولنا اليوم يفتقد إلى نموذج لمجتمع يعتبر قدوة له، لكن دعونا نتكلم على الصعيد الشخصي.
على صعيد الأمة عندما سئلت السيدة عائشة، وأنتم تعرفون هذا السؤال العظيم، وهذا الجواب الأعظم، عندما سئلت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ربما كان السائل يريد بعض الخصوصيات، يريد أن يسأل عن بعض القضايا التي يجهلها في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أثناء مسيرته معهم، كان جوابها جواب الفقيه الذي صنعه القرآن أيضا، كيف لا وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان جوابا مختصرا ولكن يحمل معاقد العلم، لم تجد إلا هذا الجواب، فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض.
ولهذا كان له تأثير عجيب على الصحابة، وكان له تأثير بالغ في النفوس، كما يقول أحد الصالحين "حال رجل في ألف خير من مقالة ألفٍ في رجل" الأحوال والأحوال لها عدوى والناس تشعر لهم حاسة شم كما لهم حاسة شم للروائح، لهم أحاسيس يشعرون بها بأن هذا الكلام يخرج من صدر رجل يقدم العمل على القول، ولهذا أحبه الصحابة، صحيح أنهم أحبوه بحكم الإيمان لأنه نبي الله عز وجل، ولكن أحبوه لما رأوا فيه من خلق وتربوا على عينيه، ولهذا تعرف وصف أبو سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه عندما وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصف جانبا من جوانب هذه العظمة، ماذا قال؟ قال ما رأيت أحدا وهو الرجل الخبير بأحوال العرب "ما رأيت أحدا يحبه الناس كحب أصحاب محمد لمحمد" ما رأيت.
وأنتم تعرفون نماذج كثيرة في السيرة، أحيانا في بعض القضايا لا نستطيع أن نفسرها بعقولنا، إنما هي عاطفة الحب الشديد الذي يقدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم على النفس والأب والأم والزوج والولد، وهذا الأثر لن يتكرر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم شخصية، فقد حَوَتْ شخصيته صلى الله عليه وسلم صنوفا من العظمة لو أصابت أي إنسان منها واحدة فقد لعد من كبار العظماء، وهو المربي سيد المربين.
ولهذا أنا كم أعيب على بعض الطوائف، هم يسيئون لأنفسهم عندما يقولوا بأن جل الصحابة قد ارتد، هذه إساءة في الحقيقة من حيث لا يشعرون أو يشعرون، هي إساءة للمربي الأول، نحن اليوم لو كان شيخا صوفيا أو مربٍ من المربين عاش مع مجموعة من التلاميذ الطيبين بضع سنين، وتوفى هذا المربي ثم ارتد هؤلاء التلاميذ لحكمنا عليه بالفشل، وقلنا هذا مربي فاشل، فإذا قلنا أن الصحابة الذين صنعهم النبي صلى الله عليه وسلم على يديه قد ارتدوا ونَكسوا على أعقابهم، إذن هكذا نشير إلى المربي عليه الصلاة والسلام، فكان أعظم مربي عرفه التاريخ، كل تاريخ البشرية، وكان أعظم قائد سياسي استطاع أن يجمع بين القيم السياسية التي جاء بها القرآن وبين المناورات السياسية والخطط السياسية وبين الأحلاف والهدنة والحوار والصلح والحرب والسلم، جمع كل ذلك، وكان في نفس الوقت الزوج والأب والصهر والصاحب والداعية والعابد المتنسك، والعجيب في كل هذا أنه استطاع عليه الصلاة والسلام أن يجمع بين كل هذه الأشياء في توازن وأيضا في ترابط وفي شمول، بحيث لم تكن هذه الصفات مثل الجزر المنفصلة.
ما نراه اليوم إذا أمعن الإنسان في السياسة نسي الأخلاق والدعوة، وإذا أمعن في الدعوة نسي موازين السياسة، وإذا جمع الإثنين نسي الزوجة والولد وحق العلم وحق الجار، إنما الرسول صلى الله عليه وسلم كان في توازن عجيب.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بالمعالم الحضارية
من خلال قراءتنا المتواضعة، أرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رسخ هذه المعالم القرآنية المنهجية في صحابته، واعتنى بِهم عناية خاصة واستطاع أن يلقنهم هذه المعاني القرآنية مع مر الزمن ولا تمضي حادثة بدون ذلك، كان دائما يعتني بهذه المعالم الحضارية، علمهم العناية بقيمة الوقت، والزمن، علمهم العناية بمعرفة السنن والآجال، أن لكل شيئ أجل، علمهم العناية بسنة التسخير، سنة السببية، رسخ فيه التربية المقاصدية، وبين لهم مقاصد الخلق الثلاثة، العبادة والعمارة والخلافة، علمهم سنة التدرج في تعلم الأحكام وفي تعليمها، وفي معرفة أن الكون كله مبني على هذه السنة راضخ لها، علمهم قيمة العلم، وأنه بهذا العلم تبنى الحضارات وأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأشاد بالعلم والعلماء وأمر بالنظر والتدبر والتفكر وهكذا.
إذن هناك مجموعة من السنن القرآنية ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على مكث، وعلى توأده فكانوا كما وصفهم القرآن (أحق بها وأهلها) كانوا هم أهل التقوى، وكانوا هم أهل القرآن، حملوا القرآن فكانوا نماذج حية واستطاعوا رغم عددهم القليل، وبخاصة نتكلم عن قادة الصحابة وقُراء الصحابة وفاتحي الصحابة، كان عددهم قليل ولكن لا زلنا إلى يومنا هذا نجلس على مدرستهم التي كان إمامها الأعظم سيد المرسلين حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.