نحن أهل كرامة جريحة، والشعور بذلك يأتينا من مصدرين هما:
أولا من التاريخ
إذ أننا أمة ظلت صاحبة حضارة مهيمنة مدة لا تقل عن سبعة قرون، واستمرت إشعاعات عطاءاتها ثلاثة قرون إضافية، ويزيد في إحساسنا بالإهانة أننا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري واجهنا بوصفنا أمة ذات منهج ورسالة تيارات عديدة، يرمي جميعها إلى طمس هذا المعنى وجعل وعي الأمة ينفتح على معان وطنية وإقليمية وقومية وعلمانية... بوصفها بديلا عن الانفتاح على أخص خصائصنا، وهو العبودية لله تعالى والاحتكام الى الشريعة في الشؤون العامة والخاصة.
وفي مواجهة هذا الاستلاب اجتهد المثقفون والغيورين في تلك المرحلة -وكانوا فيما ذهبوا إليه على صواب إلى حد بعيد- في كيفية مواجهة ذلك، وانتهوا إلى قرار بالذهاب إلى التاريخ على اعتبار أنه الذاكرة الحضارية للأمة والخزان الأساسي لأمجَادها وبطولاتها.
ونذكر كيف نشطت في تلك المرحلة الكتب التي تتحدث عن العبقريات وعن سير الرجال العظماء والنماذج التاريخية الفذة والمعارك المظفرة والإنجازات العلمية الباهرة؛ بالإضافة إلى بلورة شيء من حكمة التشريع، كون الإسلام لا يتناقض مع العلم... وأسدل الستار -على نحو شبه تام- على كل الألوان الرمادية الباهتة التي كانت جزءً من ألوان ذلك التاريخ، كما تم الإعراض عن الحديث عن الأسباب التي أدت إلى توقف الحضارة الإسلامية عن العطاء؛ لأن الكشف عنها في تلك المرحلة كان سيؤدي إلى الإحباط، ويجعل الناس شبه مجردين من أسلحة المقاومة للتيارات التي أشرت إليها.
وقد أدت تلك القراءات الميسرة والجزئية دورها بكفاءة واقتدار في إنقاذ الذات المسلمة والثقافة الإسلامية من هزيمة نكراء. وهكذا فقد ترسخ في وعي الأجيال الحاضرة وفي حينها مشاعر عميقة بالظلم الذي يُلحقه بنا الآخرون اليوم وبالهوان؛ إذ خسرنا معظم الإنجازات التي كنا نفاخر بها في الأيام الخالية،
وأعتقد أن شيئا من العلاج لهذا سيكون في إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن ومنهجية سببية و استقصائية ذكية ومتقنة.
المصدر الثاني لإحساسنا بجرح کرامتنا هو الواقع الذي نعيشه
فنحن أمة تملك أفضل منهج -على مستوى الأصول والأسس والمنطلقات الكبرى على الأقل- لإصلاح العالم، لكننا نعيش في أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عليلة ومتخلفة عن المنهج الذي نؤمن به، وعن المتوسط السائد من كثير من أوضاع عصرنا، ونحتاج إلى الكثير من الفكر والعمل والجهد حتى نتجاوز هذه الأوضاع.
المسلم اليوم يشعر أنه يعيش على هامش الحضارة حيث إننا دخلناها من باب الاستهلاك والتمتع ليس أكثر، وينقضي عصر صناعي بعد عصر دون أن نلج أيا منها، ومعظم الدول الإسلامية ما زال ما لديها من إمكانات صناعية وتقنية أقل مما كان متوافرا لدى أوروبا في القرن التاسع عشر.
ويشعر المسلم أنه غير قادر على حماية أرضه وحقوقه، وغير قادر لا على تفادي الصفعة التي يُوجهها الآخرون إليه ولا على ردها؛ بل يشعر أحيانا أنه غير قادر على الشكوى من الألم الذي يشعر به، أو غير قادر على جعل تلك الشكوى مسموعة لتكون ذات معنى!!
وهكذا فالإحساس المتضخم بالأمجاد الغابرة جعل إحساسنا بالإهانة التي نتلقاها -وهي أشكال وألوان- شديدا ومتفَجرا لكنه مبهم وغامض؛ حيث لا تعرف الأكثرية الصامتة من هذه الأمة أي تحديدات لأسباب ما نحن فيه على نحو منطقي فضلا عن أن تعرف سبل الخلاص منه.
وأود هنا أن أبدي الملاحظتين التاليتين:
-
الشعور بالإهانة والدونية
شيء أساسي أن نشعر بالإهانة والدونية لأننا إذا فقدنا هذا الإحساس فإن ذلك يعني خللا بنيويا في رؤيتنا لأنفسنا وللواقع وللعالم من حولنا، وبعض المسلمين حصل على مواقع اجتماعية أو اقتصادية جيدة، فهو مغتبط بالتَمتع بثمرات الحضارة وعقد الصفقات وحصد المزيد من المنافع، وينظر إلى الذين يشكون من سوء الأحوال نظرة استغراب؟ فالأمور تمضي على أحسن ما يرام، وأن يكون بينك وبين الغرب سبب أو تواصل ما، فهذا يعني انفتاح أبواب إضافية للنعيم والنجاح.
هذه الفئة من المسلمين ضَعُفَ لديها الإحساس الجماعي إلى حد التلاشي، وهي تشعر في أعماقها بالدونية، لكنها تجد دائما ما يوجه وعيها نحو همومها ومكاسبها الشخصية، وهذه الفئة -في ظل موجات اللهو والمتعة والأنانية التي تبعث بها العولمة- مرشحة للاتساع، ولا ندري كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الآن؟!
-
مقاومة التخلف
من المهم أن نتخذ من كرامتنا الجريحة محفزا على المقاومة واكتساب المناعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف، لا أن نجعل منها منهجا للعمل، وهذه القضية لا تخلو من شيء من الدقة، وتحتاج إلى شيء من التوضيح.
حين يشتعل إحساسنا بالهوان، ونستجيب في توجهاتنا واستخدام الإمكانات التي لدينا لتلك الأحاسيس والمشاعر على نحو بدائي ومتسرع -ووفق رؤية جزئية ومتيسرة- فإننا نكون آنذاك غير مؤهلين لمداواة الكرامة المجروحة ولا استرجاع الحقوق المسلوبة؛ بل إن الاستجابة على هذا النحو ستجعل جروحنا تزداد تقرحا، وتجعل حقوقنا أكثر تعرضا للاغتصاب والنهب، ولنا فيما جرى خلال العامين الماضيين من المضايقة والتحجيم للدعوة الإسلامية والمحاربة للمؤسسات الخيرية والمطاردة للدعاة...
إذا اتخذنا من جرح الكرامة وكؤوس الإهانة حافزا على الخلاص فإن سلوكنا آنذاك سيكون مختلفا، وأتصور أننا آنذاك سنفكر ونتصرف على النحو الآتي:
إن حالة ارتباك الوعي التي تعاني منها ليست جديدة، ولم تتكون في مرحلة واحدة، وجُرحنا الغائر لم يحدث بسبب ما فعله ويفعله بنا الغرب، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بقرون عدة، وحين انفرط عقد الدولة العباسية لم يكن ذلك بسبب غرب أو شرق، وإنما بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم الذي أكرمنا الله به، وبسبب عدم القدرة على التجدد وحل المشكلات المتَأسنة. ولهذا فإن ما نلقاه اليوم من ازدراء لا يعود إلى أحوال هذا الجيل وإنما بسبب الوضعية العامة للأمة، وهي وضعية صنعتها أخطاء وخطايا القرون.
علينا أيضا أن نسأل: لماذا يجري كل هذا لنا؟ ولماذا نحن عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا؟ ولمَاذا لا نساهم في توجيه الحضارة الحالية، ولا نؤثر في موازين القوى فيها؟
إذا نحن تصرفنا ضد أعدائنا وضد أولئك الذين يوقعون الظلم علينا بعين الأسلوب الذي يستخدمونه معنا، فما الميزة التي تجعلنا أكثر أهلية لوضع أسس لحضارة جديدة ومختلفة عن الحضارة السائدة؟
إننا في حاجة إلى أن نعمل على المدى الطويل حتى نكون في وضعية لا يفكر معها أحد في إهانتنا والعدوان علينا؛ لأن ذلك سيكون بالنسبة إليه مكلفا جدا، والأرقى من ذلك أن يحترمنا الآخرون للقيم والمنجزات التي لدينا، وينشغلون بكيفية الاقتباس والتعلم مِنا بدل الانشغال بإيذائناَ وظلمنا.
والأرقى من هذا وذاك أن نفكر وندعو ونعمل على تحويل أعدائنا إلى أولياء يدخلون في ديننا، وينشرون مبادئنا وقيمنا، وهذا ما قام به المسلمون الأوائل حين انتهوا من مشكلة الآخر الوثني في جنوب شرق آسيا، عن طريق نشر الإسلام وجذب الناس إليه، وإن الغرب - على المستوى الشعبي - ينتظر منا هذا الأداء، وهو في أمس الحاجة إليه.
وأنا هنا لا أرمي إلى تمييع الأمور ولا إلى إخماد روح المقاومة، لكني أريد أعمالنا وجهودنا أن تكون في السياق المنتج، وأن تعبر قبل ذلك عن رؤيتنا الكونية للعالم، وليس عن انفعالاتنا ومشاعرنا.
الصراع بيننا وبين أولئك الذين يجرحون كرامتنا ليس صراعا عسكريا، ولا يمكن للقوة اليوم أن تحسم أي قضية على نحو نهائي، وإن أي نصر عسكري سيكون مؤقتا ومجون إذا لم يرتكز على تفوق حضاري، وإن شروط الاحترام ونوعية الرد المطلوب على الإهانة لا تستمد من أدبيات حقبة تاريخية ماضية، ولا يضعها الناس بحسَب أهوائهم وأمْزجتهم، ولا بحسب معتقداتهم ومبادئهم، وإنما يصوغ ذلك ويحدده أولئك الذين يضعون بصماتهم على الحضارة الراهنة، مهما كانت هذه الحضارة ضالة أو ناقصة أو خاوية، وهذه نقطة جوهرية.
إن كرامتنا لم تمتهن بسبب استلاب حقوقنا أو نهب ثرواتنا فحسب، وإنما هناك أمور أخرى لا تقل أهمية؛ فالتخلف الذي يخيم على العديد من جوانب حياتنا أوجد ندوبا ناتئة في نفس كل مسلم؛ حيث صار هناك ما يشبه الاعتقاد بأننا غير مؤهلين لإنتاج التقنيات المتقدمة ولا لتصميم النظم المعقدة، وإن كثيرا من العمال المسلمين في الغرب لا يجدون فرصا لكسب أرزاقهم إلا في الأعمال الوضيعة أو الشاقة أو غير المجزية والتي يترفع عنها كثير من أهالي تلك البلاد.
إن مسلم اليوم يشعر أن الأمة عالة على الأمم الأخرى في كل شيء حتى طباعة المصاحف وتشييد المآذن! وإن النقلة النوعية في التقنية والصناعة وحدها هي التي تجعل المسلم يشعر بأنه لا يعيش على هامش العصر، كما أنه ليس محروما من الذكاء ولا المواهب التي يقر للآخرين بامتلاكها.
سيظل من المهم دائما أن ندرك أن علاقتنا بالأعداء والمنافسين والأغيار ستظل فرعا عن الوضعية العامة التي نؤسِسها في بلادنا، وإن العلاقات الدولية أشبه بسوق يعرض الناس فيه بضائعهم، ويأخذون منه على مقدار ما في جيوبهم، ولن نستطيع أن ندافع عن حقوقنا ولا أن نرسخ وجودنا على الصعيد العالمي عن طريق (الفهلوة) والادعاء والشعارات، فهَامش المناورة أمامنا ضيق جدا؛ وإن الناس يحبون أن يروا فلنجعلهم يروننا إذا ما كنا نريد لموقعنا العالمي أن يتحسن.
علينا أن ندرك على وجه جيد نقطة الضعف الأساسية في علاقتنا مع الآخرين، لأننا من غير إدراكها سنكون كمن يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد، وأظن أن تلك النقطة لا تتجسد في نقص إمكاناتنا وقدراتنا -مع أنها محدودة- وإنما في تكبيل إرادتنا، لأن أصحاب الإرادة المسلوبة يظلون يشعرون بالعجز والانهزام مهما كانت قوة الأوراق التي بين أيديهم.
إن تحرير الإرادة من الخوف والتبعية الاستخذاء أمام الأجنبي سيظل شرطا جوهريا لتحريك إمكاناتنا في الاتجاه الصحيح وشَرطا جوهريا لاتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية.