تابعت ما كتبه الأساتذة الأفاضل بدءً بالأستاذ صبحي ودادي، مرورا بالرئيس محمد جميل منصور، والصحفي محمد فاضل الشيخ، وانتهاءً بالمبدع إبراهيم الدويري والأستاذ إخليهن محمد الأمين، ورغم اعترافي بأني (لا أبلغ مد أحدهم ولا نصيفه) إلا أنه كوني ابنا من أبناء هذه الحركة الإسلامية المباركة أعطاني الجرأة للحديث في هذا الموضوع رغم تعقيداته وتشعباته.
بدأ الحراك الإسلامي المعاصر على يد مشايخةٍ أعلامٍ كرشيد رضا ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني رحمهم الله وغيرهم لاحظوا شيخوخة الدولة العثمانية، وتآكل أطرافها وحاجتها الملحة للإصلاح، والأهم من ذلك هو أفول النظام الملكي الجبري، وبزوغ نجم النظام الديمقراطي التعاقدي في الغرب، فحاولت هذه المدرسة إحياء القيم والمبادئ السياسية في الإسلام، منقحة من غواشي التاريخ والملك، ولعل أبلغ مثال على هذا كلام رشيد رضا الخالد في كتابه الخلافة حين قال: "..استدار الزمان واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح القرآن وضعفت معارضة المقلدين الجامدين وظهر ضرر عصبية الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وضلال الإفرنجَة والمتفرنِجين، فطوبى للمجَددين المصلحين وويل للمقلدين المغرورين، والعاقبة للمتقين إن هذا لهو حق اليقين ولتعلمن نبأه بعد حين ..".
ورغم النزعة التكييفية مع النظام الديمقراطي القادم من الغرب لدى أعلام هذا التيار، إلا أن الخطاب السيّاسي الشرعي كان هو السائد في كتب وأدبيات وبيانات هذا التيار في مختلف أقطار العالم الإسلامي، ومع ذلك وللأسف حدث ما حذر منه المؤرخ البرت حوراني قديما حين قال (أن محمد عبده كان ينوي بناء جدار ضد العلمانية فإذا به يبني جسرا لتعبُر العلمانية عليه ولتَحتل المواقع موقعا تلو الآخر).
فمع هذا الخطاب التكْييفي الذي يريد تكييف كل فكرة قادمة من الغرب مع الشريعة الإسلامية، خاصة الأفكار والنظم السياسية، ولأن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب على رأي ابن خلدون، بدأت كثافة الخطاب الشرعي تتراجع في أدبيات الحركة، والأهداف الإسلامية تقل رويدا رويدا فبدلا من إقامة الدولة الراشدة وتطبيق الشريعة وشعار (الإسلام هو الحل) حلت الدولة المدنية وتطبيق القانون (والديمقراطية هي الحل).
وهي شعارات مستوردة بامتياز، وبدلا من إنكار الربا لحرمته ولكونه كبيرة، تستنكره الحركة لكونه ضارا بالاقتصاد الوطني وعلى ذلك فقس، هذا الانحلال التدريجي من الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدرا للخطابات والأدبيات، ومعيارا للحق والباطل ومرجعا للرؤى والأفكار، أدى إلى اختزالها لدى كثير من الحركات الإسلامية في فقرة يتيمة في نظامها الأساسي معنونة ب (المرجعية الإسلامية)، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار في شعبية بعض الحركات الإسلامية كحركة النهضة في تونس وارتكاب بعضها للموبقات الشرعية كتَطبيع حزب العدالة والتنمية في المغرب.
لقد أصبحت عديد الحركات الإسلامية ذات نفس علماني للأسف، مرة بحجة فقه الواقع، ومرة بدعوى التمييز لا الفصل، كما نظر بذلك العثماني في كتابه، ومرة بدعوى التفريق بين الدعوي والسياسي، وهو ما أدى إلى التناقض الفج في موقف الحركة الإسلامية من التطبيع المغربي بين موقف حركة التوحيد والإصلاح، وبيان حزب العدالة والتنمية.
ختاما إن الحركات الإسلامية اليوم على مفترق طرق، وهي تحتاج إلى حركة تصحيحية، وتجديدية تتدارك بها أخطاءها، وتستعيد بها أصالتها، وتلامس بها آمال الشعوب وآلامهم، بعيدا عن التكييف والتطبيع واستبْعادا لمنطق (المسلم الضعيف)، و استيعابا لضرورة (المسلم القوي).