من المهم أن نعرف ماذا نقول، وأن نعرف ماذا نريد، لأن كثيرًا من الناس لا يعرفون ما الصواب الذي عليهم أن يتحدثوا عنه، ولا الأشياء التي يريدون لها أن تتحقق. وأعتقد أن المفكّر الذي تعوّد التفكير والتنظير والتعليل تنتهي مهمّته عندما يشعر أنه وضع النقاط على الحروف فيما يحب أن يجلوه من مسائل، وقلّ نحو ذلك في الداعية الذي جعل شعاره في التبليغ: (قل كلمتك وامش)؛ فإنه يقنع بقول ما يودّ قوله. والأمة بحاجة إلى هذا وذاك.
لكن الإصلاح يتطلب في الحقيقة ما هو أكثر من ذلك: إنه يتطلب توافر الشروط والنظم والقوانين والأساليب والظروف التي تساعد الناس بطريقة أو بأخرى على الاستقامة وعلى الاستجابة لنداءات الدعاة وتوجيهات المربين ومناشدات المخلصين... توافر الأمور التي ذكرناها يعني توافر (بيئة صالحة) بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات.
دعونا نقل: إنه على مدار التاريخ كان لدينا نقص مريع في التنظير للبرامج والكيفيات والوضعيات والأطر التي تجعلنا ننتقل من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل في الوقت الذي نشكو فيه من فائض في القول: عمّا يجب فعله، وعما يجب ترکه والإقلاع عنه. وربما كان ذلك بسبب تأثير بعض المفاهيم الجاهلية والفلسفة اليونانية؛ حيث الجنوح إلى الحلول النظرية وكراهة الانهماك في التقنيات وفي الأعمال اليدوية التنفيذية. وقد تركت هذه الوضعية أسوأ الآثار في قدرتنا على التخطيط للبرامج العملية وفي رصيدنا من الأطر والشروط التي تحول الكلام إلى خطوط حركة يومية! وكم رأينا من الدعاة الذين ينتزعون الإعجاب عندما يتحدثون عن القيم والمبادئ والآمال والجراحات، لكن سرعان ما يفقدون كل ذلك عندما يقال لهم: كيف يمكن تحويل هذه الأفكار الجميلة إلى واقع معیش؟
السؤال عن ( كيف ) يشكل مصدر هم وقلق وإثارة للكبار الذين انتهوا من تحديد ملامح الوضعية التي يجب أن تكون فيها الأمة، وباتوا يشعرون بضرورة الانتقال إلى إيجاد الآليات والوسائل التي تساعد الناس على الارتقاء نحو الوضعية المنشودة.
المصلحون المدركون لتكاليف ذلك ومشاقّه لا يكفّون عن طريق الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها، ومن تلك الأسئلة:
- كيف نستطيع أن تحول دون استثمار التفوق المعنوي والمادي بطرق غير مشروعة؟
- كيف يمكن أن نجمع بين مستوى جيد من الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية؟
- كيف تستطيع جعل الناس يبصرون الخط الضيق الذي يفصل بين النجاح واللصوصية، والخط الفاصل بين الزهد والعجز والعيش على هامش المجتمع، والخط الفاصل بين القوة والثقة بالنفس والبغي والأنانية…
- كيف نستطيع أن نستفيد من تقدم الغرب دون أن تغرق في ثقافته؟
- كيف نستطيع تحقيق معنى الأمة الواحدة في ظل العولمة؛ حيث السعي إلى تمزيق كل الروابط التي تقوم على العقيدة؟
- كيف يمكن أن نوجه النقد إلى بعض إنجازاتنا التاريخية دون أن نشعر بالاغتراب وتشتت الجذور؟
- كيف يمكن للخطاب الدعوي أن يجمع بين الجاذبية والالتزام؟
- كيف يمكن الحفاظ على التألق الروحي في ظل حياة مترفة؟
- كيف يمكن أن نضبط مقادير الضغط الاجتماعي على نحو لا يؤدي إلى شیوع النفاق والفساد الداخلي؟
إن التساؤل حول هذه الأمور هو بداية لا بد منها لتطوير حساسیتنا نحوها. ومهما ظننا أن الأجوبة والسبل العملية التي نكتشفها جيدة وموائمة فإن التطبيق وحده هو المحكّ الذي يكشف عن مدى صوابها ونجاعتها وإن كل حل عملي وكل إطار تطبيقي يمكن أن يفقد مع الأيام فاعليته واتزانه، ويصبح في حاجة إلى تعديل واتزان جديد، وذلك لأن العناصر المشكلة للبيئة في حالة من التغير الدائم، مما يجعل الحلول والأطر المقترحة لا تحتفظ بملاءمتها.
لنحاول الخلاص من التلهي، بشرح ما بات معروفا للصغير والكبير، والصيرورة إلى تحويله إلى شيء ملموس، يسعد الناس بالعيش في ظلاله.