ندرس معًا أبعاد الأزمة الحضاريّة في إطارها العالمي الذي لا ينفك عنّا تضمينًا وتأثيرًا، من خلال بَسْط وإثراءِ أطروحة الدكتور أحمد داوود أوغلو الواردة في كتابه «العالم الإسلامي في مَهَبّ التحولات الحضاريّة».
نعيش حاليا في وسط فوضوي بسبب التغير الكبير في المفاهيم والتصورات المادية والعلمية والتي أصبحت تحمل أبعاد مختلفة تؤثر على الأخلاق العامة وتحمل طابع سلبي، على الرغم من أن العلم لطالما كان ذي طبيعة تراكمية إيجابية ويحمل في طياته التطور لكنه بطريقة ما أصبح يقود نحو الفراغ الأخلاقي.
يشير الدكتور داوود أوغلو أننا نشهد مفارقة تاريخية بين نظام القيم الأخلاقية وبين التطور المادي، حيث وصل التطور التكنولوجي والعلمي إلى ذروته مما أدى إلى اختلالات في مفهوم الأخلاق وصولا إلى معضلة في الربط بين المصلحة والأخلاق والقيم، كما أصبح استخدام الآلات والابتكارات وخاصة الأسلحة لا يخضع لمعايير أخلاقية بل يسير وفق مسارعشوائي لتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية.
ويطرح داوود أوغلو مجموعة من الأسئلة المهمة التي تلخص أهم التحديات التي نواجهها في طريقنا لأخلقة العلم.
● أي منظومة من القيم تلك التي سوف توجه الإبداعات العلمية؟
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، كَانَ يَقُولُ: (....اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ….)
لاشك أن المنظور الديني يرى العلم النافع هو العلم الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ولا يسبب ضرر للأفراد. ولكن في أرض الواقع وخاصة عند الغرب يعتبر الحديث عن العلم والأخلاق من الأطروحات الفلسفية التي لطالما صنفت أنها غيرعقلانية، حيث أثبت الواقع أن العلم سلاح ذو حدين وعلى الرغم من الإيجابيات الكثيرة التي تحملها التطورات التكنولوجية في طياتها إلا أن الإشكالية الحقيقية تكمن في من سيستخدم هذا العلم؟ وهل سيستخدمه لخدمة البشرية أم أنه لخدمة مصالح خاصة؟ وهل هناك هيئة أو جهة قادرة على التحكم في استخدامات التكنولوجيا وأخلقتها؟
في الحقيقة يقع الاهتمام بالاستخدام الأخلاقي للاختراعات في مؤخرة سلم اهتمامات المبتكرين والعلماء وصناع القرار، حيث يهتم هؤلاء بالدرجة الأولى بمدى نجاح آلاتهم وقدرتهم على التحكم الجيد فيها، بالإضافة إلى التسابق لتسويقها وبيعها لأكبرعدد ممكن من الدول أو الجهات أو حتى الأشخاص.
وبقدر ما يضيف العلم والتكنولوجيا إلى الحصيلة العلمية ويزيد من قدراتنا على التحكم في الأشياء، ويتيح لنا خيارات جديدة على الدوام، لكن نجدهما يثيران أيضًا قضايا جديدة تدور حول ماهو صواب وما هو خطأ، ما هو خير وماهو شر، وعلى الرغم من أن التطور المادي صورة من صور التراكم العلمي، إلى أن المعاناة التي خلفتها الاختراعات المادية وخاصة الأسلحة استبدلت الأمل والتفاؤل بالهلع والفزع.
وفي فترة ما مضت كانت القيم الأخلاقية تتحكم في كبح جماح الاستخدام السيئ للاختراعات، ولكن النظم الغربية عملت على تغيير القيم المجتمعية وإبطال أي اعتبارات إنسانية واستبدالها باعتبارات مادية لتسهيل عملية المبادلات التجارية وتغيير الطبيعة والعادة الاستهلاكية للأفراد لخدمة منتجاتهم.
وقد درس علماء النفس والأعصاب عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية قياسا بمعايير مثل حجم الضرر والإنصاف والاهتمام بالآخرين، لكن اتضح أن "الأسس الأخلاقية" التي يعتمد عليها الناس في اتخاذ قراراتهم عن الصواب والخطأ تختلف باختلاف الخلفية والثقافة والفكر السياسي… بالتالي فإن إدراك صناع القرار لحجم الضرر يرتبط بنفسية صانع القرار وخلفياته الاجتماعية والعلمية والثقافية، وهذا يدل على أن لكل شخص أولوياته الخاصة التي يقيس بناء عليها ما هو صائب وما هو خطأ من الناحية الأخلاقية.
وعند الحديث عن دور الأخلاق في العلم هناك مجموعة من الالتزامات الأخلاقية التي تحدد الصواب والخطأ في ممارساتنا وقراراتنا وتدعو الأخلاق العلمية إلى الصدق والنزاهة في جميع مراحل الممارسة العلمية.
وفي الحقيقة تقتصر هذه الأخلاقيات على التعامل مع بعض الانتهاكات، مثل تلفيق البيانات والاستشهاد بمصدر ما بشكل غير صحيح أو إعطاء مرجع مضلل ولكن تم تجاهل أهم قاعدة أخلاقية وهي الكيفية الصحيحة لاستخدام هذه الآلات أو الاختراعات والحرص على مراقبة الفئات التي تقع في يدهم هذه الألات لكي لا يتم استخدامها في أغراض لا إنسانية.
ويؤكد الدكتور داوود أوغلو أن للعولمة الثقافية دور كبير في إحداث تغيير جذري في القيم والأخلاق حيث تعمل الأنظمة الغربية على خلق مقياس جديد ودستور للعلاقات الإنسانية لمحاولة تبسيط وتسطيح العلاقات والمشاعر الانسانية؛ فنحن نعيش وسط معضلة بين تطور مادي كبير نحتاج أن نواكبه وبين استيائنا من الخلل الأخلاقي الذي يصاحب هذا التطور العلمي.
● ما نوعية النظام العالمي الذي يضمن ألا يأتي قائد منحرف يعمل على استخدام أسلحة كيميائية أو نووية لفرض توجهاته السياسية على الأمم الأخرى؟ وهل يشكل توازن الرعب آلية فعالة لتحقيق السلام في العالم؟
"توازن الرعب": عبارة صيغت من قبل ليستر بيرسون، تستخدم عادة للإشارة إلى سباق التسلح النووي الذي كان بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، و تصف العبارة السلام الهش بين البلدين؛ هذا السلام الذي كان سببه خشية كلتا الحكومتين من حرب نووية تدمر العالم بأكمله.
في البداية يمكننا أن نلاحظ أن التطورات العلمية تصل إلى ذروتها في فترة الحروب و النزاعات وهذا دليل على وجود جانب سيئ وسلبي للاختراعات العلمية، وإن الحديث عن توازن الرعب كسبيل للوصول إلى السلم والأمن العالمي تصور خاطئ فإن الدول الكبرى تستخدم الحروب وسباق التسلح كذريعة لإنتاج أنواع مختلفة من الأسلحة ولتحقيق نجاح مادي وللتسويق لمنتجاتها العسكرية في الأسواق العالمية وفي ساحات المعارك.
وإن أساس النظام العالمي هو الفوضى وغياب سلطة مركزية؛ بالتالي لا يمكننا الحديث عن نظام عالمي يضمن التحكم في صناع القرار وفي تحركاتهم، وحتى إذا اعتبرنا أن المنظمات الحقوقية والعالمية هي المسيرة للمجتمع العالمي فالحقيقة أن هذه المنظمات بدورها تعمل لخدمة مصالح دول كبرى وتمشي وفق مبدأ الكيل بمكيالين.
وعلى الرغم من وجود مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات لوقف سباق التسلح النووي إلى أنه يتم اختراقها في كل مرة، وكل الدول الكبرى تعمل باستمرار على التسلح كنتيجة لغياب الثقة بين الأطراف. فحاليا نحن نعيش في مجتمع دولي يضم حوالي 9 قوى نووية وأغلبية هذه الدول طورت أسلحتها وقنابلها في ظل وجود قوانين وقواعد معاهدات تمنع التسلح النووي.
وكما هو معروف فإن الأسلحة النووية هي من أخطر الأسلحة على وجه الأرض فبإمكان قنبلة واحدة أن تدمر مدينة بأكملها وبالتالي بالنظر إلى هذه المعطيات لا يمكن التحكم في القادة وسواء كان القائد منحرفا أو مستقيما فالتسلح يعتبر من أولويات الدول الكبرى وحتى الدول النامية، وكل القواعد والقوانين الدولية في الحقيقة وضعت ليتم اختراقها.
وهكذا فإن آليات السوق تتفوق على الأسس الأخلاقية بل تسبقها من حيث الأهمية. كما تترك تلك الآليات المعايير الأخلاقية معلقة بشأن ما إذا كانت تمت بصلة أم لا بالنسبة للتدفق المحتوم للأطر التقنية الاجتماعية والاقتصادية.