إن الحروب الصليبية والصراع بين أهل الإيمان وأهل الكفر من النصارى الغربيين وغيرهم، الذي عبدوا عيسى عليه السلام، واتخذوه إلهاً من دون الله، وقالوا: هو الله، وابن الله، وثالث ثلاثة لم تبدأ في نهاية القرن الخامس الهجري ولم تنته في القرن السابع الهجري، بل هذه الحملات هي سلسلة في هذا الصراع الطويل، الذي بدأ بظهور الإسلام ، واستمر بصيغ دورية متعاقبة كادت أن تغطي المدى الزمني بين ظهور الإسلام والعصر الحديث، ويمكن تقسيمه على ستة من المحاور التي استمر عليها هذا الصراع، ولم يكن أوار الصراع على كل واحد من هذه المحاور يفتر قليلاً؛ حتى يشبَّ ثانية في محورٍ جديد لا يقل عنه ضراوة وعنفاً واستنزافاً للطاقات الإسلامية في مساحات واسعة من الأرض، وهذه المحاور هي:
أولاً: البيزنطيون:
ترجع بدايات التحرك البيزنطي المضاد للإسلام إلى عصر الرسالة نفسه، فمنذ العام الخامس للهجرة وعبر معارك دومة الجندل، وذات السلاسل، ومؤتة، وتبوك، وانتهاء بحملة أسامة بن زيد ـ رضي الله عن الصحابة أجمعين ـ كان المعسكر البيزنطي، يتحسَّس الخطر الإسلامي الجديد القادم من الجنوب، لاسيما بعدما تمكنت الدولة الناشئة من فك ارتباط العديد من القبائل العربية شمالي الجزيرة من سادتهم القدماء الروم، وسواء كان البيزنطيون يتحركون ضد القوات الإسلامية بفعلهم ابتداء، أو كردِّ فعل لتحرك إسلامي، فإن المحصلة الأخيرة هي أن هذا المعسكر بدأ يدرك أكثر فأكثر حجم التحدي الجديد، ويعد العدة لوقفه.
صحيحٌ: أن هذه العدة لم تكن ـ أحياناً ـ بالحجم المطلوب، ربما بسبب عدم دقة المعلومات التي كانت القيادة البيزنطية تبني عليها مواقفها، إلا أن النتيجة هي أن النار اشتعلت عبر هذا المحور، وازدادت اشتعالاً بُـعَيْـدَ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتدفق القوات الإسلامية في البلاد التي يسيطر عليها البيزنطيون.
وبعد إخراج البيزنطيين من مملكتهم في آسية، وأجزاء من إفريقية على يدي القيادة الراشدة، التي شهدت المراحل التالية من العصر الراشدي محاولات وردود أفعال عديدة وهجمات مضادة نفذها هذا المعسكر في البَرِّ، والبحر، ولكنها آلت في معظمها إلى الخسران، ثم ما لبث البيزنطيون أن انحسروا عبر العقود التالية، وبفضل الملاحقة الدؤوبة التي قام بها الأمويُّون ـ ابتداء من معاوية ـ رضي الله عنه ـ مؤسس الدولة الأموية، وعهد عبد الملك وبنيه خصوصاً الوليد، وسليمان. وقد تمَّ شرح ذلك وتفصيله في كتابي (الدولة الأموية عوامل الازدهار ـ وتداعيات الانهيار) واستمرت الملاحقة النشطة للبيزنطيين بعد الأمويين في الشام، ومصر، وشمالي إفريقية، وانحسروا بالكلية عن الشمال الإفريقي، ومساحات واسعة من البحر المتوسط، وانزووا هناك في شبه جزيرة الأناضول، فضلاً عن ممتلكاتهم في أوروبا نفسها.
ثانياً: الإسبان:
شهدت الساحة الأندلسية منذ بدايات مبكرة هجمات مضادة متواصلة، قادمة من الشمال حيث يتحصَّن الإسبان في المناطق الأشد وعورة، ولقد تمخضت هذه الهجمات عن صراع مرير قدرت القيادة الأموية عبره أن تجابه الهجوم المضاد لمدى ما يقرب من القرون الثلاثة وأن تحتويه وترغمه على الانحسار في الجيوب الشمالية لشبه الجزيرة الإيبرية، ثم جاءت دفقة الحيوية الإسلامية الجديدة مرتين: إحداهما على يد المرابطين القادمين من المغرب، الذين سجلوا لنا في صفحات المجد انتصارهم العظيم في معركة الزلاَّقة على النصارى الإسبان في عام (479 هـ)، والأخرى على أيدي الموحدين الذين جاؤوا من بعدهم الذين حققوا انتصاراً ساحقاً على النصارى في معركة الأرَك عام (591 هـ) التي سُجلت على صفحات الزمان بماء الذهب الصافي..
ومما يستحق أن يفهم: أن الصراع المذهبي والحضاري ذا الطابع المصيري الذي حكم علاقات آسية بأوروبا عبر التاريخ هو الذي جعل أوروبا تتشنج إزاء امتداد الإسلام إلى أراضيها غرباً في الأندلس وجنوبي فرنسا، وشرقاً في جهاتها الجنوبية الشرقية، وتبذل جهوداً مريرة ومحاولات متواصلة من أجل إزاحة الوجود الإسلامي من هناك بأي أسلوب، وبأية صيغة حتى لو تنافت مع أبسط قواعد التعامل الشريف مع الجماعات والأديان من أجل التفرّد بحكم القارة، ومجابهة التحدي الإسلامي فيما وراء الحدود.
ثالثاً: الحركة الصليبية:
إنَّ الحركة الصليبية هي رد الفعل المسيحي تجاه الإسلام، تمتدُّ جذورها إلى بداية ظهوره، وخروج المسلمين من جزيرتهم العربية، واصطدامهم بالدولة البيزنطية، وأن هذه الحركة تطورت كالكائن الحي على مدى القرون ما تكاد تخرج من طور إلا لتدخل في طور جديد، وما كانت الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي (488 ـ 690 هـ/ 1095 ـ 1291م) إلا أحد أطوارها فقط، وأن بروز هذا الطور بهذا الشكل الذي كاد أن يطغى على باقي أطوارها يعود إلى عوامل عديدة معقدة ومتشابكة يستطيع الباحث أن يتلمسها في الدوافع والأسباب التي أدت إلى إطلاق الموجة الصليبية العاتية من عقالها في هذه الفترة ، وسيأتي بيان هذه العوامل والأسباب بإذن الله تعالى.
لقد كانت تكاليف حقبة الحروب الصليبية باهظة بمعنى الكلمة، واستنزفت من الطرفين الكثير من الإمكانات والقدرات، ولعبت دوراً خطيراً في عرقلة مسيرة الحضارة الإسلامية ومع ذلك فإنَّ التحديات التي صنعتها الهجمات الصليبية، والقيم التي صاغها المسلمون وهم يتصدون للغزاة تمثل لا ريب رصيداً كبيراً يضاف إلى ما يتضمنه تاريخنا الطويل من تجارب وخبرات، لقد كانت الحروب الصليبية حلقة من سلسلة طويلة في صراع الإسلام، والباطل، سبقتها حلقات على الطريق الطويل، وأعقبتها حلقات...
فالغزو الصليبي ليس أمراً جديداً، ولا ظاهرة غريبة، أو استثنائية، وإنما هو القاعدة وغيره الاستثناء، ولذلك نقول: إن التحديد الزمني للحركة الصليبية بين سنتي (488 ـ 690 هـ) هو تحديد خاطئ كما يقول الأستاذ الدكتور سعيد عاشور: لا يقوم على أساس سليم، ولا يعتمد على دراسة الحركة الصليبية دراسة شاملة، وإنما يكتفي بعلاج مبتور يشمل جزءاً من تلك الحركة، ولا يعبر عن جذورها وأصولها من ناحية، ولا عن ذيولها وبقاياها من ناحية أخرى.
لقد كانت الحروب الصليبية تحدياً كبيراً، لكن المسلمين عرفوا كيف يستجيبون له ويكونون (مجاهدين) كما أراد لهم الله ورسوله أن يكونوا، وليس الجهاد عملاً سريعاً وانتظاراً لقطاف سريع، إنه صبر طويل، وممارسة دائمة، وتضحية بالغالي والرخيص، وزهد في المغانم القريبة والمنافع العاجلة، وقدرة على تعليق الرغبة المتعجلة بحلول النتائج، وربطها بقدر الله ومشيئته .
إن زمن قيادة رجل كـ: مودود، ونور الدين محمود، والناصر صلاح الدين لهو الزمن الذي تلقَّى فيه الصليبيون أقسى الضربات، وتمكَّن المجاهدون خلاله من تحقيق أكبر الإنجازات.
انتهت الحروب الصليبية، وطُهِّرت الأرض الإسلامية من آخر جيب للغزاة بعد قرنين من الزمن، واستطاعت حركة المقاومة أن تحقق هدفها، وتطرد المعتدين عن اخرهم في نهاية المطاف، ومعنى هذا: أن (الاستعمار) أيَّـاً كانت الصيغ التي يعتمدها، والأردية التي يتزيَّـا بها، والأهداف التي يسعى لتحقيقها، لن يكون ـ مهما طال به الأمد ـ بأكثر من ظاهرة عرضية موقوتة لن تقدر على مدّ جذورها في الأرض والتحقق بالاستمرارية والدوام، إنه أشبه بالجسم الغريب الذي يزرع في كيان غير متجانس مع مكوناته وعناصره إن هذا الكيان سيلفظه، إذ ليس ثمة ما يحقق التوافق المطلوب الذي يربط بين الطرفين ويوحِّد تجربتهما، ويختم على مصيرهما. إنَّ الأجسام الغريبة محكوم عليها بالطرد، ولن تكون الأرض التي تسطو عليها وطناً لها في يوم من الأيام.. تلك هي حتمية التاريخ، والقرآن الكريم يقولها بوضوح: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] فليس ثمة أمة، أو جماعة، أو دولة، أو قوة في الأرض بقادرة على تجاوز حتمية التاريخ.. إنَّها لكلمات ثلاث؛ ولكنها تلخص التاريخ البشري كله، وتمنحه قيمته وحيويته وقدرته على الحركة في الوقت نفسه وسنمضي بإذن الله تعالى قدماً لدراسة الحروب الصليبية من عهد السلاجقة إلى الزنكيين، ثم الأيوبيين، ثم المماليك، لنرى العبرة ونستلهم الدروس، ونستخرج سنن وقوانين الصراع؛ لكي نوظفها لنصرة كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
رابعاً: حركة التفاف الصليبيين:
ما لبثت أوروبا بعد سحق الوجود الإسلامي في إسبانيا أن بدأت بقيادة إسبانيا، والبرتغال، ومن بعدهما بريطانيا، وهولندا، وفرنسا، عملية الالتفاف التاريخية المعروفة على عالم الإسلام عبر خطوطه الخلفية في إفريقية، وآسية، والتي كانت بمثابة امتدادٍ لحركة الاستعمار القديم التي ابتلي بها العالم الإسلامي فيما بعد، والتي استمرت حتى العقود التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية، كان المماليك في مصر والشام قد بلغوا مرحلة الإعياء، وكان اكتشاف الطريق البحري الجديد حول رأس الرجاء الصالح قد وجَّه لتجارتهم ـ التي هي بمثابة العمود الفقري لمقدراتهم المادية ـ ضربة قاصمة، أما العثمانيون فكان جهدهم منصبّاً على اختراق أوروبة من الشرق، ولم تكن لديهم الجسور الجغرافية التي تمكنهم من وقف محاولة الالتفاف تلك في بداياتها الأولى، ولكنهم ما لبثوا بعد عدة عقود أن تحركوا لمجابهة الموقف، ومع ذلك فقد دافعت الشعوب والقيادات الإسلامية المحلية في المناطق التي ابتليت بالغزو دفاعاً مستميتاً، وضربت مثلاً صلباً في مقاومتها المتطاولة للعدوان، وألحقت بالغزاة خسائر فادحة على طول الجبهات والمواقع الساحلية التي سعى هؤلاء إلى أن يجدوا فيها موطئ قدم لهم.
خامساً: الاستعمار:
جاءت الموجة الأوروبية المضادة التالية على يد القوات الاستعمارية التي دفعتها الثورة الصناعية إلى البحث عن مجالاتها الحيوية في القارات القديمة، لتصريف بضائعها والحصول على الخامات الضرورية، وتسخير الطاقات البشرية (الرخيصة) المستعبدة في إفريقية عن طريق نقلها بالقوة، فيما يعرف بحركة تهجير العبيد، التي كانت بمثابة إحد العلامات السوداء في تاريخ الصراع بين أوروبة والشرق، والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من أبناء الشعوب الإسلامية في إفريقية، واستمرت هذه الموجة التي قادتها بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا، وألمانيا إلى حدٍّ ما حتى العقود الأولى من القرن العشرين وكان العالم الإسلامي فريستها الأولى، بل إنه كان فريستها الوحيدة، إذا استثنينا مساحات محدودة قطنتها أكثريات غير إسلامية، وكانت رغم أهدافها الاقتصادية تتحرك على خلفية صليبية، عبَّرت عن نفسها في أكثر من واقعة، وقدَّمت عبر التاريخ أكثر من دليل.
واستمرت الحرب الصليبية فلم تتوقف، فقامت بريطانيا بإعطاء وطن لليهود على أرض فلسطين، وإقامة دولة يهودية، واتخذت من القرارات والإجراءات الإدارية والعسكرية ما تقيم هذه الدولة، بتدريب اليهود على السلاح وفنون القتال، وتوفير السلاح لهم، بل إعطاء بعض أسلحة الجيش البريطاني لهم، وبخاصة عندما أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في (15/5/1948م)، بل سلمت كثيراً من المدن والقرى الفلسطينية إلى اليهود؛ ليعلنوا إقامة دولة يهودية عليها.
وفي الوقت ذاته قد حرَّمت على الفلسطينيين المسلمين التدريب على السلاح، واقتناء السلاح، وشنت عقوبات ظالمة على كل فلسطيني يقتني السلاح أو العتاد، فكانت عقوبة الإعدام هي الشائعة، ولقد عُلِّق من المجاهدين المسلمين على أعواد مشانق الصليبيين الإنجليز في تلك الفترة آلاف الشهداء، وزُجَّ في غياهب السجون عشرات الألوف.
إنَّ الحرب الصليبية لم تنتهِ، ولن تنتهي، وما يحدث في أفغانستان، والعراق من احتلالٍ دليلٌ على ما نقول، ومن أهم دوافع هذه الحروب: أبعاد دينية، وسياسية، وعسكرية، واقتصادية يطول شرحها.