كلنا قد استعد استعدادًا هائلًا لفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19"، حتى إنَّ بعضنا يكاد يدفن نفسه في أعماق بيته وربما حجرته تخفيًّا، ورحنا نبذل ما بوسعنا من جهد، ومن مالٍ أيضًا، بسخاوة وهمة عالية؛ لأجل التحصن والاحتياط من آثار هذا الوباء الذي يعبث بالأبدان، ويهز كيانها، وربما يدمر عمرانها حد الموت والهلاك، وهذا الاحتياط والتحرز مما يُمدحُ للإنسان عقلًا وشرعًا، ما دام مستندًا إلى الإرشادات الصحية التي يقدمها المختصون، لكننا في كثير من الأحيان نتخلى عن أضرار فايروسات أخرى، ولا نراعي عنفها وسطوتها، جهلًا أو تعاميًا وتغافلًا عن عظيم شررها وسوء عواقبها.
الفيروسات لا تصيب الأبدان فحسب -إذا أردنا تحرير المصطلح من الحقيقة الفيزيائية المحضة وانطلقنا به إلى فضاء المجاز وسعته- فثمة فايروسات هي في الحقيقة مرعبة! وخفية أيَّما خفاء! لكنها تتجاوز خلايا الأجسام والأبدان لتفتك بمنظومة القيم والأخلاق ولب شخصية الإنسان، وهي عند العارفين بلا شك أكثر خطرًا، وأعمق أثرًا، وأحرى بالتحصين والتحفظ والمدافعة.
مصطلح "الدراما" مأخوذ من الكلمة اليونانية التي تعني العمل أو الحدث عمومًا، ولكنها تخصصت عبر مسيرة التطور الدلالي لهذه المفردة لتدل على نوع من أنواع الفن، ومن مراحل دلالاتها أن تشير إلى فنٍّ مسرحيٍّ يُظهِرُ الشعائر الدينية النصرانية، ثم صارت عرفًا لأدب المسرح، ثم حملت بعدُ في حقلها الدلالي ألفاظًا كثيرة من مثل: ممثلين، وجمهور، وحوار، وأحداث، وشاشة، وتصوير، وسينما، وتلفزيون... ولا يخفى على عاقل اليوم أثر هذه المصطلحات ومنتجاتها على حياة المجتمعات وأفكار الناس وسلوكياتهم.
"الدراما" في نسختها الحديثة وبثوبها الساحر هي وحش الحياة المعاصرة، يغزو كلَّ معالم الأفكار والتصورات ويحاول توجيهها وفق رؤيته، لقد أصبحت الدراما -وخصوصًا المرئية منها- مرتبطة بالحياة والإنسان ارتباطًا مذهلًا، لا تكاد تفتر العيون والعقول من مشاهدها في مختلف زوايا الحياة، وتصادفها رضًا أو قهرًا في كل منصات التواصل والإعلام التي نعرفها.
إنها تصوغ أو تساهم بجدارة في صياغة حياة الأجيال وأفكارهم ولغتهم وثقافتهم وبنيتهم النفسية والاجتماعية.
الذي نعرفه عن الدراما في أصل نشأتها -وكما يُرَدِّدُ روادها ونجومها دائمًا- أنها جزء من دعائم التسلية والترفيه، أو صورة لأعماق المجتمع معبرة عن همومه وتطلعاته، أو هي جزء من المسيرة الإصلاحية في المجتمعات عمومًا، تقدم النافع والمفيد، وتنبه على وجوه الانحرافات والأخطاء في المفاهيم والسلوكيات التي يتضمنها حراك المجتمع المعين، كما وتهدف -وفق رؤية نجومها طبعًا- إلى الارتقاء بالمجتمع وأبنائه، وتحريره من الشرور والمغالطات بكل أشكالها وأنواعها، وتحرص بجد على الإبداع والتميز في المادة والأداء.
ومن يتابع نجوم هذا الميدان في لقاءاتهم وحواراتهم وكتاباتهم يجدهم كثيرًا ما يرددون بأنَّ عملهم "رسالة" من المجتمع وللمجتمع، وأنَّ مشوارهم "الفني" يتضمن كثيرًا من الأهداف النبيلة والغايات السامية، التي يسعى المثقفون والمُصلِحون إلى تحقيقها ورفع لوائها في البيئات التي ينتمون إليها ويحلمون برُقيِّها وريادتها.
لكن الأمر مختلف واقعيًّا! فلا يبدو لي أنَّ الدراما التي نعرفها ويحدثوننا عنها هي ذاتها التي تشيع في فضاءاتنا اليوم، وتبثها شاشات التلفزة ومنصات الدعاية والإعلام المختلفة، فهي في عام 2021 بلسان المقال أو الحال تعترف -الدراما ذاتها- بأنها قد تحولت إلى فايروسات ضارَّة معدية! تُصيب المجتمع في أعماقه، وفي موطن ثقافته وعمقه العلمي والمعرفي، علاوةً على بنيته القيمية والأخلاقية، وإن أعظم داء وبلاء أن يصاب المرء في دينه وأخلاقه، وقبل ذلك وبعده في علومه ومعارفه وثقافته التي يجنيها من مسيرة حياته وسنين عمره.
كيف نظن بأصحاب هذه المنتجات خيرًا؟! عندما تُعرَض وتُسَوَّق جامعاتنا -التي ينبغي أن تكون مستودع العلوم والقيم- على أنها موطنٌ للفساد والإفساد، ومستنقعٌ للفوضى واللهو والانحطاط الأخلاقي، ثم تَعرِض بعضُ الدراما أمام جمهورها المشاهد الفاضحة والوضيعة، ومعجمًا لا متناهيًا من مفردات السباب والشتائم والطعن واللعن والقذف، وتُقَدِّمُ للجيل الجديد كلَّ سوءات الشارع اللفظية التي يتحاشى سماعها صاحب الذوق الرفيع، وتتأنف منها الفطرة السليمة.
إنها تهتك اليوم في كثير من مشاهدها وقصصها حياء الإنسان، وتطعن قدسية القيم والمثل العليا التي نؤمن بها ونحاول تمريرها حيَّةً لأبنائنا وأحفادنا، وهذا ما يجعلنا نقول: إنَّ الدراما العصرية أصبحت فيروسًا شديد الخطورة على قيمنا وأفكارنا ومستقبل جيلنا الجديد.
إنَّ هذا الاعتراف -بأن الدراما فيروس- يؤكد ما يذكره التربويون دائمًا من أنَّ الجزء الأكبر من الانحرافات الأخلاقية والقيمية وحتى العقدية تتحمل وزرها الشاشات وبضائع الدراما وفيروساتها! بما تعرضه من فجور وتهتك وانحلال. وما الذي يمكن أن يحدث أكثر من هذا لنعترف جميعًا بأنَّ الدراما التي تُشرِف عليها وزارات الثقافة والإعلام العربية أصبحت مصدرًا لنشر الخطيئة وترويجها، وهدم الفضيلة والقيم وتضييعها.
لقد سمعتُ وقرأتُ لغطًا كثيرًا حول بعض الفيروسات الدرامية المعاصرة، فشاهدتُ عددًا من المقاطع والمشاهد، واستمعتُ إلى نوع المادة اللغوية التي تحتضنها هذه المنتجات، فاندهشتُ من كَمِّ التفاهات التي تجري بين أحداثها، وحجم الانحطاط والفحش اللغوي الذي يتخاطب به الممثلون! وفي مثل هذا الحال يصعب على المتخصص البحث عن هدف واضح لمجرياتها وأحداثها، فكيف بالعوام من الشباب والفتيات وجمهور المراهقين الذي يتابعون الجديد والمثير دون حمولة معرفية وقيمية كافية تساعدهم على التمييز بين المفيد والسقيم؟!
تنحط الفنون الدرامية انحطاطًا مذهلًا، وتنحرف عن الجادة انحرافًا مُزريًا، عندما تكون منتهى غايتها الشهرة وعدد المشاهدات، وأُولى أهدافها التكسب والمال، فمسيرة التردي تبدأ بالتخلي عن الرسالة السامية التي يُفترض أنَّها محمولة على رفوف هذه المنتجات الدرامية وأحداثها.
وقد تتنازل حتى عن مجرد الترفيه والتسلية والتعبير عن الواقع، لتصل حد التوجيه وإيقاع الضرر المقصود في بناء المجتمعات الإسلامية المحافظة، وما يتعرض له المراهقون من زلزال في القيم وما تتعرض له الأسرة من محاولات للهدم والتفكيك لهي دلائل واضحة على مقاصد تلك الدراما وغاياتها المشبوهة.
أخيرًا أقول ما قلته في مرات عديدة: إن قيمنا العتيقة تحتضر في أحضان الدراما العصرية، بسبب ما تحمله تلك الدراما من فيروسات خطيرة، وبما تقدمه في كثير من الأحيان من سفاهات وتفاهات مستهجنة رذيلة، وما لم يتداركها المعنيون بهذا المجال فإنَّ أجيالنا ستنزلق أكثر في هذا الوحل المُميت.