في مقالنا السابق تحدثنا عن الوعي الجديد الذي يؤسسه القرآن الكريم، وهو وعي يقوم على العلم بمختلف أبعاده، ويقوّض سلطان الهوى والخرافة والأسطورة والشعوذة والسحر والكهانة وغيرها من الطرق التي ارتكست فيها البشرية قديما، ولا تزال تشدّ البشرية إليها بين الحين والآخر بمسمّيات مختلفة.
ومن باب التأسيس للوعي الجديد، فإن القرآن الكريم يجعل البرهان العلمي طريقا لبناء الإيمان وتأسيس التدين، ولهذا فأساليب البرهان التي فصل فيها القرآن الكريم أو ألمح إليها أو وضع قواعدها كثيرة ومتنوعة، كما أن هذا الوعي الذي يؤسسه القرآن يجعل التفكير الحر فريضة كما يقول الأستاذ العقاد، ويكون هذا التفكير مبنيا على قواعد منهجية وليس تفكيرا عشوائيا؛ قواعد تساعد الإنسان في أن لا يرتكس في الخرافة والشعوذة والأساطير وتحت سلطان الهوى.
1-البرهان طريق لبناء الإيمان وتأسيس التدين:
فالناظر في القرآن الكريم يجده يوجّه الإنسان إلى النظر والتأمل وإعمال قدراته الادراكية وإعمال الحجة في ما يؤمن به، ليتبين هل أنّ ما يؤمن به قائم على برهان صحيح أم مجرد ظنون وأوهام وأساطير.
يقول تعالى في مخاطبة منكري الخلق ومنكري التوحيد: (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64). وينعى القرآن على الكافرين اتباعهم الهوى والظنون، يقول تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) (الروم: 29). وينهاهم أيضا عن الآبائية والتقليد، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (البقرة: 171). فالبرهان والعلم والحجة أمور مركزية في بناء الإيمان والاعتقاد وفي تأسيس التدين.
كما أن القرآن يخبرنا أن الله خلق الإنسان وزوّده بالقوى الإدراكية والحواس التي بها يتعلم، وجعل ذلك طريقا للشكر، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78). وهذا فيه رفع من شأن المعرفة التي يحصلها الإنسان حسًّا وعقلاً. بل ويأمر القرآن الإنسان بالسير والنظر ليكتشف قانون الخلق، وكيف بدأ الخلق وكيف يعيده الله سبحانه، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20).
2-تنوع أساليب البرهان وطرق الوصول للحقيقة في القرآن:
وفي القرآن الكريم طرائق كثيرة ومتنوعة للوصول إلى الحقيقة وإدراكها، وإنّ الناظر في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم يجد كثافة مصطلحية كبيرة تتعلّق بالعلم، وبطرق وأساليب البرهان والحجاج والجدال والاستنباط والقياس والاستقراء، ومختلف الأدلة العقلية، وكيفية إعمال العقل والوعي والفهم، وتوجيهات في إعمال الحواس والتجربة والخبرة والتاريخ والأمثال وتمحيص الأقوال والأفكار.
ففي القرآن الكريم، العلم من المصطلحات الأكثر ورودًا، حيث عدد موارد مشتقاته الإسمية والفعلية: ثمانية وستون وسبع مائة مورد (768). ويلاحظ أن الصيغ الفعلية، ورد منها الفعل الثلاثي المجرد (عَلِمَ) بتصريفات مختلفة اثنتين وثمانين وثلاثمائة مرة (382)، وورد منها الفعل الثلاثي المزيد (عَلَّمَ) بتصريفات مختلفة ثلاثا وأربعين مرة (43)، المجموع منهما: خمسة وعشرون وأربعمائة مورد (425)، وهو عدد يفوق عدد الصيغ الاسمية بقليل، حيث ورد من هذه الصيغ: خمسة وخمسون وثلاثمائة مورد (355).
وإذا نظرنا على أحد مصطلحات القرآن المتعلق بأساليب العلم، وهي (النظر)، نجد حسب ما ورد في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أن مادة (ن. ظ. ر) قد وردت في القرآن 130 مرة بتسع وعشرين صيغة.
3-تأسيس قواعد الفكر الحر في القرآن الكريم:
كما نجد في القرآن دعوات الخروج من الضغط الاجتماعي والانفعالي ليستقل الإنسان عن الضغوط الاجتماعية والنفسية، ويفكر بحرية، وبناء على المنطق وبدائه العقول، ليستطيع اتخاذ القرار العاقل المبني على الحجة.
ونجد هذا في قوله تعالى: (قُلْ إِنّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46). حيث أمر القرآن مشركي مكة أن لا يقعوا تحت ضغط "أوهام السوق" أو "أوهام القبيلة" أو "أوهام الكهف" بتعبير جون ستيوارت ميل.
ونجد في القرآن دعوات لعدم الاعتماد على الموروث والآبائية وتقديس الأقوال القديمة أو الموروثة أو التي قال بها السابقون. لأن العبرة للحجة والحقيقة وليس لسابقية قول أو وراثته. قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 17)، و(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف: 23- 24).
إنّ مركزية البرهان بطرائقه المختلفة، وتنوّع أساليب البرهان وطرق الوصول إلى الحقيقة وتأسيس قواعد الفكر والتفكير، تفتح أمامنا الطريق للخروج من النظرات الجزئية والاختزالية للصلة بين الدين والعلم. وهو ما سنتناوله مستقبلا في مقالات أخرى تنظر في الأثر التاريخي الذي أحدثه القرآن في نشأة وتطور العلم في الحضارة الإسلامية، وسبل استعادة ذلك من جديد وفق معطيات الواقع المعاصر.