استضافت عمران الحضارة يوم 27 نوفمبر 2020 في ملتقى ميلاد حضارة الدكتور جميل عبد الحفيظ من نيويورك، في مداخلة بعنوان: "كيف سيّر التخلص من الاستهزاءِ إلى تعاونٍ عامٍ لبناء مجتمع جديدٍ؟" هذا نصها.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين نستغفره ونتوب إليه ونتوكل عليه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها السادة الأكارم والسيدات الكريمات، الضيوف والأخوات المشاركين والمشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أتقدم بالشكر للمنظمين والقائمين على هذا الملتقى "ميلاد حضارة" لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونرجو من الله تعالى أن يجعله حافزا للمسلمين لبناء حاضر ومستقبل الأمة.
أيها الأفاضل:
إن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطر المحيط، ويفتح قلوب المؤمنين، إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبقى دائما رمزا وقدوة في كل المجالات، وأن أي باحث صادق نير سيتوصل إلى حقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمى إنسان عرفته البشرية، قال الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم (لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) [سورة الأحزاب الآية: 21].
استثمار كنز التاريخ بعُملة الحاضر ورؤية المستقبل
الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة لنا في كل المجالات التي نعمل فيها سواء كان سياسيا أو تربويا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو دبلوماسيا أو أكاديميا وغيرها من المجالات التي يمكن التفكير فيها، وفي كل هذه المجالات يجب علينا أن نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن تاريخنا كنز يجب علينا استثماره بعملة الحاضر ورؤية المستقبل، وعلينا أن نتعلم من التاريخ ونستعمله في بناء الأمة وتقويتها، وحماية مقدساتها، وأن لا نصبح أسرى للتاريخ.
لا يمكن أن نتعامل مع تاريخنا بالإعجاب والفخر، ونتعامل مع واقعنا بالضعف وتبرير الظروف، بل نريد أن نستمد من ماضينا ما ينفعنا، وأن نعد أنفسنا للمستقبل، أما أن نعيش بأجسامنا في الحاضر وعقولنا في الماضي، فهذا حتما سيؤدي إلى تصادم حاضرنا مع ماضينا.
غيابنا الكلي عن صناعة المستقبل وصناعة القرارات الهامة، وليس هناك خيار أمامنا سوى العمل من أجل أن أتكون مبادئنا وثوابتنا ومقدساتنا قائمة.
أيها الإخوة الكرام لأن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يبدأ من نشأته، فكيف نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأن الحديث عن كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاستهزاء؟ وكيف تعامل مع الوثنية؟ وكيف بنى الدولة؟ يجب علينا أن نحدد نقاط في حياته صلى الله عليه وسلم، حتى نستنتج ونستنبِط منها ما يجب علينا أن نتعلم منه.
قال ابن هشام في السيرة النبوية "فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يحفظه ويِكلأه، ويحوطه من أقْدار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سمي في قومه الأمين"، لما جمع الله فيه من الأمور والصفات الصالحة.
كيف بنى الرسول صلى الله عليه وسلم العالم؟ وبماذا؟
بهذه الأخلاق بنى الرسول صلى الله عليه وسلم عالما، لقد بنى ليس دولة أو حضارة فقط، بل بنى العالم كله، فكيف بدأ هذا البنيان؟
بعد نزول الوحي قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة سرا، مبتدءًا بأهله، ثم بمن كان يثق بهم، وأسس بمن دخلوا معه من الرعيل الأول في الدين الجديد الذي هو الإسلام، خلال الفترة السرية ما نسميه اليوم بمدرسة التكوين العليا للدعاة، والقيادات الدعوية، وإن اختلفت أعمارهم ومستوياتهم في المجتمع، فقد كان تخرجهم بمثابة الحصول على ديبلوم في عمق الإيمان، ودقة الفهم، والقدرة على تحمل الأذى، والتضحية بالروح من أجل الدعوة للإسلام.
فقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني نواة داخلية قوية تحمل الدعوة، وتتحمل تكاليفها، لقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء الإنسان المؤمن، وبعد أن دخل من دخل في الإسلام جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، والصفا في ذلك الوقت هي مكان الإعلام والمكان الذي يتحدث منه، أو هي القاعة أو الهضبة الي تيم فيها الإعلان عن أي شيء، فهتف يا صباحاه، فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه فقال "يا بني فلان..يابني فلان..يا بني فلان..يا بني فلان يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، فاجتمعوا إليه فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا. قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال فقال أبو لهب تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة (تبت يدا أبي لهب وتب).
الجهر بالدعوة نقطة التحول الأولى في تاريخ الإسلام
إعلان الجهر بالدعوة عن ماذا يعبر في تاريخ الإسلام؟ يعتبر هذا الجهر عن نقطة تحول، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع الدعوة على الخريطة في مكة، وضعها أمام المجتمع، إعلان بأن هناك ولادة لدعوة جديدة، فاستعمل الدعاية المتوفرة آنذاك لدعوة قريش إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له.
فانطلقت منذ تلك اللحظة مرحلة التغيير، مرحلة التصور والمعتقد والعادات والتقاليد وغيرها، وأصبحت عبادة الله في مواجهة عبادة الأوثان، وأصبح الناس في مكة أمام أمر واقع وهو اختيار الجهة التي يقفون معها، إما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما مع قريش.
لكن ما إن بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام علنا حتى أتباعه الأوائل من المسلمين أن إعلان إسلامهم سيضَعهم في مواجهة مختلف أنواع العذاب، وقد وصل الأمر إلى القتل فمنهم من ضرب حتى الإيذاء، ومنهم من وضع في الأغلال، ومنهم من استشهد، فتعرض الصحابة للتعذيب أدى في نهاية الأمر إلى أن رسول الله حاول بقدر الإمكان أن يعمل من أجل هذا، لكن هو نفسه تعرض للإذلال والسب من قريش، فلم يتركوا فرصة إلا حاولوا تشويهها، وقطعت عشيرته لمدة ثلاث سنوات من التجويع والإهانة وقد حاولوا خنقه وقتله ورموا عليه القاذورات صلى الله عليه وسلم.
وقد سجل القرآن الكريم في آيات كثيرة كيف رد الله سبحانه وتعالى الاستهزاء والتهكم بالرسول والرسالة، وذلك لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم ) وقال (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلين عظيم)، ثم ظهر الذباب الحي أو ما يسمى اليوم بالذباب الإلكتروني المجموعات التي تلقي الإشاعات، وتوسع الأكاذيب، وقد قال الله عنهم (إنا كفيناك المستهزئين) وهم يمثلون عددا معروفا في الكتب.
أولها "الخوف من التغيير".. لماذا الاستهزاء؟ وكيف حمل صلى الله عليه وسلم هم الرسالةِ لا همَ الأذى؟
لماذا يحدث الإستهزاء ونحن نرى حتى في يومنا هذا أن الإستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال قائما، فلماذا يحدث هذا الإستهزاء؟
- يرتبط بضعف الشخصية، أو ضعف شخصية المستهزئ، والغيرة والخوف من التغيير، لأن التغيير في نظر المستهزئ قد يؤدي إلى فقدان المنصب، أو المكانة، وضياع السلطة والامتيازات المادية.
ويراد من الاستهزاء إذلال الشخص أو إغضابه، أو إخراجه عن السيطرة عن انفعالاته، وفي حالات خاصة يكون القصد منها جر الشخص إلى القيام بأعمال عنيفة، فَيوصف بها فيما بعد، ويعمم في نهاية المطاف على المجموعة التي ينتمي إليها الشخص، كما يحدث حاليا، وقد اعتبر العديد من المحللين البارزين حاليا أن الإستهزاء غالبا ما يجر للعنف، فكيف رد الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستهزاء؟ هل رد بالعنف؟ أم رد ردودا مختلفة عما نتوقعه.
لقد كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم رد قائد معلم، ينظر للأحداث من مختلف الزوايا، ويعلم أن قيمة الرسالة التي يحملها هي أهم عنده من نفسه، ولما كان هدفه صلى الله عليه وسلم الحفاظ على الأمانة، وتبليغها، فكان من الضروري أن يرد بالصبر والدعاء لله سبحانه عز وجل، ولم يعطي لقريش الفرصة لكي تلهيه وتنال من عزيمته في تبليغ الرسالة، وبما أنه كان قدوة فإن رده على الاستهزاء بالصبر وعدم إعطاء أهمية للحدث كان إشارة لأتباعه في مكة رضي الله عنهم أن يصبروا على ما يصيبهم، لأنه إن رد فإن أصحابه سيردون، وبالتالي فإنه لن يستطيع أن يصل إلى هدفه.
الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل هم الرسالة لا هم الأذى، ويحمل هم توصيل الأمانة لا هم التحدي، ويصنع الأولويات ويضع أولوية التركيز في مقابلة الدعوة للناس على إضاعة الجهد في الرد على قريش.
ولا يحتاج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد إذا كان القرآن قد كفاه ذلك، ومهما يكن الأمر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر بعقلية القائد الذي يفكر التفكير الاستباقي، وإضافة إلى ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بالتجارة، فكان يعرف التجارة ويعلم أن التاجر الذي يريد أن يبيع لا يهتم بما يقوله الآخرون عنه وعن سلعته، وإنما يركز على بيع بضاعته، لكن هذا الصبر لم يكن ليجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس منتظرا ما تفعله قريش، بل اجتهد للتحرك في كل الاتجاهات ليربح أنصارا من مكة ومن خارجها، فكان يخرج إلى طريق الوفود، فيعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم للإيمان، فكان إصراره صلى الله عليه وسلم قويا تحركه قوة الإيمان وتبليغ الدعوة إلى كل ركن من أركان الأرض.
لقد قال نابليون هيل في كتابه الكلاسيكي الشهير (فكر وكن ثريا) وهو معجب إعجابا قويا بالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول إذا كنت مهتما بدراسة الطاقة العجيبة التي تعطي القوة للمثابرة "إقرأ سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فستحصل عن أحد أكثر الأمثلة المذهلة عن قوة المثابرة المعروفة للحضارة" هذه القوة التي تحدث عنها الكاتب هي مثابرة الرسول على تبليغ رسالة الإسلام للناس وعمله حتى بناء الدولة في أقل من عشرين سنة، وبعد أقل من سبعين سنة أصبحت حدود هذه الدولة في القارات الثلاث أوروبا، أفريقيا، آسيا.
لكن لما ننظر إلى أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى مع تضييق قريش عليه، وعلى المسلمين بعد موت أم المؤمنين خديجة وعمه أبي طالب واجتماع قريش على معاداته، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتابع دعوته ولم يبقى سجين معاناته، وتظهر آثار تربية النبي صلى الله عليه وسلم في صبر أصحابه على الأذى الذي كانوا يلقونه.
فكان صلى الله عليه وسلم يمر بعمار بن ياسر وأمه ووالده وهم يعذبون فيقول صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة، وعندما رده أهل الطائف واستهزؤوا به وآذوه، واجه الأذى بالتضرع إلى الله راجيا أن لا يكون ما حل به غضب منه سبحانه وتعالى فيقول صلى الله عليه وسلم (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلهي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل علي غضبك، أو يحل علي سخطك، فلك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك) فأرسل الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام فقال للَنبي "إن الله قد سمع قول قومك قولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد سمع قول قومك لك وما رده عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال" يا محمد فقال ذلك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.
أيها الإخوة والأخوات الكرام أود أن أتوقف هنا قليلا لأن قراءة هذا النوع من الاستهزاء الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم تعطي الانطباع بأن رد فعله صلى الله عليه وسلم ستكون بالدعاء، لكن رسول الله رجى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا، من هذه الحادثة يمكن القول أنه صلى الله عليه وسلم استعمل الفكر والنظرة المستقبلية التي تدل على تفكير راقي وعاطفة مقيدة، ولو استعمل العاطفة لانتقم من هؤلاء القوم.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش حاضره، لكن عينه على المستقبل، ويعلمنا أن المستقبل خطة وعمل وصبر وإصرار على الانتصار في مقاومة النفس والشيطان والأعداء، فلم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين آذوه ولا من الذين يأتون من أصلابهم الذين لهم علاقة بآبائهم.
واهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بذرية من آذوه يوضح أن رأيته كانت أبعد من أحداث الواقع، وتصوره أوسع من الأذى الذي تعرض له، ويذكرني هذا الموقف بموقف سيدنا ابراهيم عليه السلام، وإن اختلف الظرف لما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وكان اهتمام إبراهيم بأجيال من ذريته وليس اهتمامه بنفسه فقط، وكان اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بمستقبل أجيال من من آذوه واستهزءوا به وليس اهتمامه بما حدث له من رفض واستهزاء وأذى، فالاهتمام بالأجيال المقبلة والتحضير لها قضية أساسية عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة حضارية مبنية على قيم إنسانية لم يعرف التاريخ مثلها، فكيف له أن ينجر إلى العوائق التي كانت تطرحها قريش في طريقه، لقد كان مستوى تعامله ومحاولة تفادي الاصطدام بقريش من أهم ما ميز هذه الفترة التي استمرت عشر سنوات، لقد جاء لبِناء الفرد والأسرة والأمة والإنسانية، جاء برسالة تشفير لعقليات جديدة تأخذ ارتباط الحاضر ببداية الكون والحياة، وما بعد الحياة تأخذها من أبعد ماض إلى أبعد مستقبل.
"سكوتُ بناء الدولة".. من تحديات مكة إلى تحديات الدولة الفتية في المدينة
ثم أن هناك الاستراتيجية التي يمكن أن نقول عنها محاولة التعامل مع الواقع في إطار ذلك الحين، وهو التراجع في وجه عدو قوي حسب ما يقوله الكاتب روبرت جرين: "إن التراجع من وجه عدو قوي ليس علامة على الضعف، بل على القوة"، في بعض الأحيان يمكنك تحقيق أكثر من خلال عدم القيام بأي شيئ، لكن هذا لا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعامل مع السخرية بأي عمل، الرسول صلى الله عليه وسلم رد على السخرية والاستهزاء عمليا في مواضع أخرى، وأعطي هنا مثالا، استعمل الرمل في السعي بين الصفا والمروة لإظهار قوة المسلمين للمشركين، وكان قد علم أن المشركين قالوا عن المؤمنين أنهم قد وهنتهم حمى يثرب والحمى التي كانت قد ضربت يثرب في ذلك الوقت، وبعد هذه الأمور كلها وبعدما حدث للرسول وعد هذه الإهانات والسخرية، وبعد أن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم تحضيرا للهجرة.
بعد البعثة بثلاثة عشرة سنة تأكد رسول الله أن مكان الدعوة في ذلك الوقت الذي هو مكة لا يلائم نمو الدعوة، وأن المحيط الاجتماعي قد تلوث، إذ أن ردة الفعل القرشية على الدعوة لوحدانية الله أصبحت عنيفة ولا يأمن من دخل الإسلام قريش والقبائل الأخرى في مكة على نفسه، ولما وصل الأمر لحد التعذيب ومحاولة القتل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة، وكان من الضروري على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي الأمانة من عدو يريد وأدها في مهدها، فهاجر إلى المدينة بعد أن استقر أصحابه، وتمت الهجرة وكانت بداية بناء مجتمع إسلامي في المدينة كأساس للدولة، وفتحت مكة ما يقارب التسع سنوات ولم ينتقم صلى الله عليه وسلم من الذين آذوه من قريش، ولم ينكل بأي منهم، بل قال لهم إذهبوا فأنتم الطلقاء وبدأت صناعة التاريخ وميلاد حضارة.
لقد أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم قدرته على بناء الدولة كما أظهر قدرته من قبل على بناء المجموعات الداخلية وبناء المجتمع.
لقد تحولت التحديات التي كان يواجهها الرسول في مكة إلى تحديات بمستوى الدولة الفتية في المدينة، وبدأت المغازي والرسائل للأباطرة والملوك، كقيْصر ملك الروم والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك الإسكندرية وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام كما دعا من قبل قريش، كانت هذه الرسائل التي أرسلها إلى العالم كانت إعلام للعالم بأن الإسلام قد سطر إسمه في تاريخ البشرية، ووضع نفسه على الخريطة، مثلما وضع الإعلان في مكة الدعوة على خريطة المجتمع المكي.
وتشابه وضع الملوك في وضع اتخاذ قرار إما مع الإسلام أو ضده، مع وضع قريش في مكة عند الإعلان إما مع الرسول وإما مع قريش، ورغم أن الموازين المادية ليست في صالح الدولة إلا أن الغزوات قد أعطت تجربة قتالية لا يستهان بها للمسلمين، إضافة إلى قوة الإيمان، وانتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على أعدائه، وانتصر الإسلام على الشرك، وانتشر الإسلام في ربوع العالم، ومع مرور السنين رفع الآذان في كل جزء من العالم.
كان سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيذاء والاستهزاء لبناء دولة، وإن إعلاء صوتنا اليوم ضد السخرية والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، سيؤدي إلى تجديد أمة، إن سكوتنا عن الاستهزاء على الرسول ليس اتباعا للرسول وإنما الرسول كان في بداية الطريق فأين نحن؟
إعلاء الصوت لتجديد الأمة.. والمواجهة بالعمل وصنع الحضارة!
إن إعلاء صوتنا اليوم ضد السخرية والاستهزاء بالرسول سيؤدي إلى تجديد الأمة، علينا أن نفهم السيرة النبوية بعقلية القائد، ونستعمل القيادة بحكمة السيرة النبوية، نحن ننظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال الأحداث ويستطيع أي ملاحظ أن يدرك أن الأزمة التي يمر بها المسلمون اليوم لا تختلف كثيرا عن سابقاتها، لأنها استمرارية لمحاولة السيطرة على الفكر الإسلامي، والتحكم فيه وتوجيهه لإذلال المسلمين، فالهَجمة الحالية لها تداعيات في المستقبل لأنها تحاول ضرب الإسلام من الداخل ومن الخارج، وهي ليست تلقائية وإنما تحدث وفق منهجية مدروسة مبنية على معطيات ودراسات استراتيجية، لكن الإسلام سيخرج منتصرا إن شاء الله.
علينا أن نستثمر أخطاءنا في تقدم مجتمعنا، وأن لا نصبح أسرى للأخطاء، وعلينا أن نتعلم من التاريخ ونستعمله في بناء الأمة، وتقويتها وحماية مقدساتها، وأن لا نصبح أسرى لحاضرنا الديني.
أيها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الكريمات، إننا أمة قد بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإننا دعاة وحاملي رسالة أمة ودعوة، فعلينا أن نقف ونعمل ونجتهد ونكافح ونصبر، لكن يجب علينا أن لا نبقى صامتين أمام التحديات المطروحة أمامنا، يجب علينا أن نعمل كما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في أن نواجه الأعداء، في أن نواجه الآخرين ونواجه الاستهزاء بالعمل، وليس فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت، فقد بينت أسباب سكوته أمام قريش وكيف صنع بذلك السكوت حضارة، ولكن سكوتنا اليوم لا يصنع حضارة، وإنما وقوفنا هو الذي يقوي ويعيد للحضارة مجدها إن شاء الله.
في الأخير اختتم بهذا الدعاء اللهم اهدنا إلى ما فيه الخير وأعنا على ما فيه الخير، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين، واحفظ بلاد الإسلام والمسلمين، إنك على كل شيء قدير، وصلّ اللهم وبارك على رسولك الكريم محمد عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم.
جزاكم الله خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.