"المعرفة التي لا يحضر فيها الحب معرفة ناقصة "
قبل أن أبحث عن فتيات أُجْهِضت أحلامهن، قررت أن أبدأ من محيطي أولا وأعرض قصة شابة درست بصحبتها في الأشهر الأولى عند التحاقي بالدراسات الجامعية، أسماء من مدينة غرب المغرب، حصلت على شهادة البكالوريا بميزة حسن جدًا، انتقلت إلى مدينة الرباط (عاصمة المملكة المغربية، وتقع على الساحل) رغم المسافة بينها وبين مدينتها الأصل، انتقلت بكل تفانٍ لكي تدرس هناك، بالرغم من أن حلمها لم يكن يومًا أن تصبح مدرسة لمادة اللغة العربية، لم تكن معرفتي لأسماء عميقة جدًّا، إلا أننا سبق وأن تشاركنا الحديث داخل غرفتها، بالإقامة التي كنا نقطن فيها نحن الاثنتان بالعاصمة، أذكر أن مرَّ شهران على دراستنا، أتتِ الامتحانات ولأننا كنا طالبات بالكاد التحقنا بالدراسات الجامعية كان كل شيءٍ مختلفا، بدأنا تائِهات لأننا لم نكن نعلم طريقة وضع اختباراتِ الفصل الأول. أذكر أيضا أننا سهرنا كثيرًا، تعبنا في سبيل أنْ ننجحَ بعد أيامٍ من الجد والاجتهاد، اقترب موعد الامتحانات وبدل أن ندخل جميعا لاجتيازها، اختارت أسماء أن تغادر الدراسة بعدما بدا لها أنها في المكان الخطأ، وتدرس التخصص الخطأ، لم تكن قادرة على أن تتم وهي التي حلمت بمهنة أخرى غير التي كانت تدرسها، وحلمت بدراسة تخصص آخر غير الذي كانت تتلقى التكوين فيه، اقتنعت أسماء بالعزوف عن فكرة مغادرة المقعد الدراسي بعد رحلة ترغيب من إحدى زميلاتها بالفصل، تراجعت أسماء بصعوبة، أملا في المحاولة مرة أخرى، علّ الأمر يُيَسّر، أشرقت الدنيا أملا من جديد، عادت لتواصل المسير وتقنع نفسها أنها وبالرغم من أنها لا تدرس ما تحب إلا أنها ستحاول أن تحب ما تدرسه، فشرف المحاولة يكفيها.
مضى أقل من أسبوع، وما استطاعت أسماء أن تحب ما تدرسه كما ادّعت، اجتمعنا نحن الطلبة، توسلنا إليها كثيرًا لكي تتراجع عن فكرة المغادرة، إلا أنها كانت مصرة على فكرتها، كثيرون بيننا بكى، منهم من أردف الدمع لأنه رأى تلك الخطوة فيها نوعا من الإجحاف في حق مستقبلها، منهم من بكى لأنه كان يرى نفسه في أسماء، هو الآخر أُرغِم على دراسة تخصص لم يكن يوما يظن أنه سيقع ضحيته، بكى أحدهم خشية أن يتراجع هو الآخر ويندم، منهم من بكى خوفا من المستقبل المجهول...
أسماء كانت أنموذجا لفتاة تَحَدَّتْ نظرة المجتمع من أجل أن تنقذ مستقبلها من الضياع، لم تكن لها رغبة في أن تُعطب أحلامها وهي في بداية الطريق، نجت أسماء من مهنة لم تكن تعني لها أي شيء ولم تحس يوما بأنها سعيدة حيل دراستها.
"لي قراو طفروه، المرأة ما يدوم ليها غير دارها وراجلها"
هكذا قالت سكينة (31عام)، أم لطفلة، تزوجت من رجل قالت بأنه من اختيار والدها، تقول سكينة: كانت فتيات القرية التي وُلدت فيها تقرأن غاية الوصول إلى المستوى الأخير من الدراسات الابتدائية ثم تنقطعن بعدها، كانت مدرسة قريتنا تواكب الفتيات حتى تتعلمن كيف تُنْطق الحروف وتُكتب فتقذف بهن في زحمة الحياة، كنت أعد الأعوام على رؤوس الأصابع خشية أن تنتهي فتُجهَض أحلامي التي لطالما توسمت في أبي كل الخير كي يرسلني إلى المدينة لتحقيقها، أخذت الشهادة وأنا في عمر ال13 سنة، بكيت كثيرًا كي يدعني والدي ألتحق بالإعدادي، إلا أنه رفض، أذكر أنه قال لي بنبرة قاسية، "لي قراو طفروه، المرأة ما يدوم ليها غير دارها وراجلها"، حينها استسلمت للأمر الواقع إذ إنني كنت صغيرة على أن أخرج من المنزل وأهرب إلى المدينة كي أحقق المراد... "
"واصلت التعليم الذاتي في المنزل، جمعت درهما بدرهم من أجل أن أشتري هاتفًا ذكيًا، يمكّنُني من تلقّي المعرفة الإلكترونية بعدما حرمت منها بسبب رفض والدي إتمامها، قضيت سنتين أعود إلى دفاتري القديمة، أقرأ ما كانت تحتويه حتى لا أنسى الحروف، اشتريت هاتفًا بعدما جمعت سعره كاملًا، وكأن الحياة ابتسمت لي من جديد بعد حصولي عليه، كان بمثابة وسيلة قدمت لي المعرفة التي حرمت منها بدون أن أريد.
تضيف سكينة: "تعلمت كيف أستخدم مواقع التواصل كالفيس بوك، تواصلت مع الكثير من الناس من بلدان مختلفة، كنت أحب الاختلاف والتعرف على ثقافة الآخر، تعلمت من خلال "موقع يوتيوب" كيفية الطبخ بعدما كنت فاشلة فيه، تعلمت الخياطة أيضا، قرأت في موضوعات كثيرة، وكلما احتجت أن أعرف شيئا كنت أقصد هاتفي".
تتابع سكينة: "حينما بلغت الـ 21 سنة، أجبرني والدي على الزواج من رجل قدِم من المدينة، تزوجنا ورغم أنني التحقت بالمدينة التي كانت طريقا لتحقيق أحلامي إلا أن زوجي لم يشدّ على يدي، ولم يساعدني بالرغم من أنني اقترحت عليه فكرة العودة إلى مقاعد الدراسة مرارا، إلا أنه هو الآخر خُلِق بعقلية أن "المرأة لي قارية ومثقفة غير صداع الراس".
"واخا أحلامي ضاعت، ولكن ماغاديش نخلي بنتي تضيع فقرايتها، نخليها تكمل باش تولي عندها شي خدمة مزيانة"، تختم سكينة والدموع تملأ مقلتيْها.
تخليْتُ عن حلُمِي كيْ يدرسَ أخِي
أما "زهرة" فشابة في السابعة والعشرين من العمر، درست رفقة أخيها الذي كانت تكبرهُ بعامين، إلا أنها رسبت مرتين فلحِق بها، تقول زهرة: "كان أخي الصغير، خفيف العقل، سهل الفهم، يحصل دائما على نقط عالية أعلى من نقطي، كان والدي دائما ما يكافئه نهاية كل سنة عند خروج علامات آخر الموسم الدراسي. أما أنا فكان يطلب مني الاجتهاد ويتمنى لي في كل مرة حظا أوفر من السابق.
اجتزت الامتحانات الإشهادية الخاصة بالابتدائي بنجاح، فكان لزاما علي أن أنتقل إلى المركز الذي يبعد عن منزلنا أكثر من 10 كيلومترات، إلا أنني حصلت على معدل لم يشفع لي من ولوج الداخلية (مكان لمبيت التلاميذ البعدين عن مقر سكناهم)، إذ أخبرني والدي أنني أمتلك النصف منحة فقط، في المقابل حصل أخي على منحة كاملة، بعدما فاق معدله معدلي الخاص، امتنع أبي عن تسديد النصف الآخر من المنحة، وامتنع أخي بسبب أنانيته من أن يتخلى عن المبيت ويقتصر على الأكل فقط، بحيث خيره والدي أن يقبل بالذهاب معي كل صباح والعودة لقضاء الليل في المنزل وبين أن يستقر في الداخلية وأنقطع أنا، اختار أخي ما كان فيه كل اليُسر له، ضحَّى بي وبأحلامي مقابل أن يرتاح هو.
تضيف زهرة في حسرة: "أكمل أخي دراسته، تخرج من الجامعة، فرحنا له كثيرا، وحتى أنا، أشتغل في عمل يوفر له دخلًا مقبولًا جعل والدي يفتخر به أكثر من السابق".
مضت أعوام، ساهم عمل أخي في تحسن حالتنا المادية، اشترى لي كل ما كنتُ أوده، إلا أن ذلك لم يكن حلا ليكفر به عن خطئه في حقي، لم يكن ذلك سببا ليكف ضميره عن تأنيبه.
تختم زهرة: لا ألوم أخي أبدًا، لأنه كان طفلًا، كنا أطفالًا آنذاك، ولا ألوم والدي لأن يده كانت قصيرة، قصيرة أكثر مما ينبغي ليتحمل مصاريفنا وندرس نحن الاثنان، كنا بحاجة لأن يضحي أحد منا، ورغم ذلك فإنني كنت أعلم أن القليل من التضحيات كانت كفيلة بأن تصنع مني أنا الأخرى كل ما كنت أريد.
قدري هو هكذا، ونعم بالله
"بَّا كان راجل كبير، مريض بالسكر، الحياة مانصفاتنيش ماقريتش ولكن بنتي ماغاضيغش فحالي".
لعل قصة "أمينة" وهي امرأة في الثالثة والأربعين من عمرها، عبرة لنقول بأن التاريخ دائما ما يكرر نفسه.
أمينة، عاملة نظافة، سيدة تعيش رفقة ابنتها التي تدرس حاليا بالسلك الثانوي، أرملة، التقيتها وأنا أجوب شوارع العاصمة الرباط بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الذي صادف اليوم الثالث من شهر من السنة الماضية، كنت أبحث عن سيدات لإنجاز روبورتاج حول الذكرى التي تكون فيها الاحتفالات بمناسبة النساء في يومهن العالمي.
أمينة ترددت كثيرًا قبل أن تتحدث إلي، وحينما أخبرتها أنني لا أوثق مقطع فيديو بهاتفي، وإنما سأسجل فقط ما تقول تشجعت على أن تتكلم وتفرغ ما بداخلها.
"راجلي 5 سنين دبا وهو تحت التراب، وابنتي عندها الليسي، وخاصني نخدم باش تقرا ونفرح بها ملي تشد الباك"، بعيون يملأها الكثير من الفرح والأمل تقول أمينة بأنها تشتغل عاملة نظافة دون أن تخجل أبدًا.
"كنت أريد أن أدرس إلا أن والدي كان مريضًا، وأمِّي هي لي كانت خدامة علينا، توفي والدي فكان من الضروري أن أخرج رفقة أخي لنبحث عن عمل، غاب أخي بعدما هددنا مرارا بأنه سيهاجر، ولم يغمض له جفن حتى فعلها دون أن يلتفت لنا، انقطعت أخباره عنا. أما أنا فاشتغلت بداية في جلي الصحون في مطعم، تقدم لي رجل وافقت عليه وكان ذلك تزامنا مع احتضار أمي، لم يمر أسبوع على زواجي حتى سلمت روحها لله، أنجبت طفلتي البكر، بعدها توفي زوجي بمرض السكري، فعدت للبحث عن عمل مجددًا، تضيف: "الحياة هكا دايرة، مرة ليك ومرة عليك، أنا ماقريتش واخا كنت باغة ولكن هادشي لي مكتب عليا الله، ولكن أنا مستعدة نبقى ديما نجمع الزبل غير بنتي تقرا وتخدم وتهنيني من هذا التكرفيص".
الخوف من الفشل قادني إلى دراسة الأدب بدل الطب، رغم أنه كان حلمي الذي لأجله عشت.
منى في التاسعة عشرة من عمرها، طالبة مغربية، بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان، تخصص تجنيسية اللغة العربية وآدابها، تقول منى في حديثي إليها: "حينما تعود بي الذاكرة ست سنوات إلى الوراء، أتذكر جيدا ذلك الشعور الذي لا مثيل له، أذكر روحي التي كانت مليئة بالتفاؤل والحماس لأصنع مني سيدة المستقبل"
" لم يكن لي فقط حلم واحد...كانت لي أحلام كثيرة جميلة بريئة وكبيرة، أحلام لا يمكن إلا أن تكون مصدر فخر لي، كنت كثيرا ما أرددها على مسمع كل من يتحدث معي حول موضوع الأحلام، أسرتي الصغيرة، زميلاتي، أصدقائي في المدرسة، كنت دائما أخبرهم أن رغبتي تكمن في دراسة الطب النفسي.
ترجع منى سبب إجهاض حلمها إلى الظروف الصعبة، بين صعوبة المواد العلمية ونقصها في اللغة الفرنكوفونية، تضيف منى في حديثها إلينا، "كان حلم الطب يستلزم مني أن أتخصص في التخصص العلمي، الذي كنت فيه ضعيفة بالرغم من أنني أبذل الكثير من المجهود كي أتفوق فيه.
ورغم ذلك،إلا أن منى خطت الخطوة الأولى للوصول إلى حلمها إلا أن ظروفا شخصية لعائلتها جعلتها تتراجع بعدما انقطعت عن دراستها في منتصف العام الدراسي. تتابع منى
"صباح ذلك اليوم اخترت أن أملأ في التوجيه المدرسي تخصص الأدب… مضحك خوفي من الفشل فاق رغبتي في النجاح، مرت ثلاث سنوات من الدراسة بالثانوية، حققت إنجازات غير مسبوقة في دراستي للأدب؛ إذ كنت متفوقة في كل سنة حتى في سنتي الختامية حزت المركز الاول وحصلت على البكالوريا بميزة مرتفعة.
تضيف منى: "وللمرة الثانية أقع في شباك التردد بين أن أختار ما أريد رغم معرفتي بأن الطريق غير معبدة؛ فنظام عمل الجامعات لا يخفى على أحد أنه قد يضيع مجهودي هكذا دون أن أحصل على عمل قار… اجتزت امتحانات ولوج المدارس، اجتزت مباراة معهد الصحافة أيضا، إلا أن الحظ لم يحالفني سوى في ولوج المدرسة العليا للأساتذة وهي التي أتابع فيها دراستي حاليا، بالرغم من أنني لا أحمل حبًا كثيرًا لمهنة التعليم.
تختم منى بشأن أحلامها: "لن أقول بأن حلمي في دراسة الطب النفسي قد أجهض، لكنه باق والأمل في تحقيقه ما زال مستمرٌا لحد اليوم. وحتى لو لم يتحقق، فلي أحلام لا تعدّ على رؤوس الأصابع، لي حلم كبير في أن أغذو كاتبة يومًا ما، حتى أنني بدأت في كتابة روايتي الخاصة خلال عام انقطاعي عن الدراسة لكن الإحباط كان سببًا في توقفي، زد عليه أن الإلهام لا يزورني إلا نادرا، إلا أنني متيقنة أنني سأفعلها يومًا ما، فكل شيء يتحقق بالجد والاجتهاد. أما حلمي الأسمى أن أحفظ كتاب الله ولأسباب عديدة فلم يتحقق الحلم إلى اليوم، ورغم كل ما ذكرت من خيبات أمل فإني ما زلت مؤمنة أن الحياة عادلة وستنصفني يوما إلى جانب أحلامي.
هي إذن قصص لنساء وشابات مغربيات لم تسعفهنّ الحظوظ لتحقيق ما كان يراودهنّ من أحلام، منهن من اختارت أن تتخلى عن أحلامها بعد أن أتعبتها المحاولة، منهن من مازالت تحتضن الأمل وتؤمن بأن حظها سيكون مثل (توماس أديسون) الذي أثبت للعالم جميعا أن النجاح يأتي عبر المحاولة ولو اقتضى الأمر تسعًا وتسعين مرة، منهن أيضا نساء أخريات اخترن أن لا يكون فشلهن في تحقيق ما يردن سببًا في تكرار ذلك مع فلذات أكبادهنّ.