يقدم لنا جدعون روز من خلال مراجعته لخمسة كتب رئيسية، خصائص الواقعية الكلاسيكية الجديدة وما يميزها من خلال ثلاثة مقاربات تشرح سلوك السياسة الخارجية للدول.
يبدأ جدعون روز بالنظريات (Innenpolitik) التي تفترض أن السياسة الخارجية لأي بلد تتأثر بشكل رئيسي بالعوامل الداخلية وأن هذه العوامل مثل الأيديولوجية السياسية والاقتصادية أو الشخصية الوطنية أو السياسة الحزبية أو البنية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها تؤثر وتوجه بسلوك الدول في خارج حدودها.
على الرغم من أن هناك العديد من المتغيرات لهذا النهج، لكن في نظر جدعون روز تشترك جميعها في الافتراض:
أن أفضل طريقة لفهم السياسة الخارجية هي التركيز على الديناميكيات الداخلية، لذلك يجب على الباحث أن ينظر داخل الصندوق الأسود ويفحص تفضيلات وتكوينات الجهات الفاعلة المحلية الرئيسية.
ومع ذلك في نظر جدعون روز، أن المشكلة الرئيسية في نظريات Innenpolitik أنها تواجه صعوبة التفسير؛ لماذا تتصرف الدول ذات الأنظمة المحلية المتشابهة بشكل مختلف في مجال السياسة الخارجية؟ ولماذا تبدي أيضا الدول التي تختلف في نظامها الداخلي سلوكا مشابها في سياساتها الخارجية؟ (Rose 1998, 148).
من جانب آخر يقول جدعون روز أن كل من الواقعية الدفاعية والهجومية حاولتا تجنب هذا الخلل من خلال التركيز على العوامل النسقية، لأن في نظر هذا التقليد تُعتبر العوامل المحلية في الدول غير مهمة نسبيًا، لأن الضغوط من النظام الدولي قوية ومباشرة بما يكفي أن تتصرف الدول على حد سواء، بغض النظر عن خصائصها الداخلية.
على الرغم من أن كليهما ينطلقان من الافتراض أن النظام الدولي يتكون من دول عقلانية تبحث عن أمنها، ولكنهما يختلفان بالحوافز التي يقدمها النظام الدولي للدول والكيفية التي تتفاعل بها الدول في هذا الإطار، وكذلك حول الدرجة التي تفترض كل واحد منها أن التوتر المتأصل في الفوضى يمكن تعديله بواسطة عوامل أخرى مثل حالة التكنولوجيا العسكرية، بينما تعتبر الواقعية الهجومية أن الفوضى الدولية هي بشكل عام هوبيزية وبغض النظر عن حالات القطبية والأمن في نظرتها نادر وتحاول الدول تحقيقه من خلال زيادة قوتها النسبية.
وهذا يمكن أن يؤدي إلى صراع وحروب، لأن الدول تبدأ بدافع دفاعي، لكنها تضطر إلى التفكير والتصرف بشكل هجومي.
في المقابل ترى الواقعية الدفاعية أن الفوضى الدولية غالبًا ما تكون أكثر اعتدالًا أي أن الأمن غالبًا ما يكون وفيرًا وليس نادرًا وأن الدول يمكنها فهم ذلك أو تعلمه بمرور الوقت مع التجربة (Rose 1998, 149).
يقدم جدعون روز الواقعية الكلاسيكية الجديدة على أنها تتحدى العناصر المهمة لكل من المقاربات الثالثة، ويقول الواقعيون الكلاسيكيون الجدد إن النظريات Innenpolitik مضللة، لأنها تُعتبر قوة الدولة النسبية مقابل بقية النظام الدولي وذلك هو العامل الأهم الذي يؤثر في السياسات الخارجية للدول ولذلك هو المكان الذي يجب أن يبدأ فيه تحليل السياسة الخارجية.
كما أن الواقعية الدفاعية مضللة لسبب مشابه ولكن في نفس الوقت، تحاول الواقعية الكلاسيكية الجديدة بشكل صريح أن تستخدم كلاً من المتغيرات النظمية والداخلية ويجادل أتباعُها بأن طموح السياسة الخارجية لأي بلد يتأثر أولاً، وقبل كل شيء بمكانتها في النظام الدولي وتحديداً من خلال قدراتها المادية النسبية ومع ذلك، فهم يضيفون أيضًا بأن تأثير القدرات المادية على السياسة الخارجية ليست مباشرة، لأن الضغوط النظمية يجب أن تُترجم من خلال المتغيرات الوسطية. بعبارات أخرى، يجادل الواقعيون الكلاسيكيون الجدد بأن القوة المادية النسبية تحدد المعايير الأساسية لسياسة الدولة الخارجية؛ مستعيرين بمقولة ثوسيديدس، “الأقوياء يفعلون ما في وسعهم والضعفاء يعانون مما يجب عليهم”، ومع ذلك أشاروا إلى أنه لا يوجد حزام نقل فوري أو مثالي يربط القدرات المادية بسلوك السياسة الخارجية.
في نظر جدعون روز يجرى اتخاذ خيارات السياسة الخارجية من قبل القادة السياسيين والنخبة، وبالتالي فإن تصوراتهم للقوة النسبية هي المهمة. علاوة على ذلك، لا يتمتع هؤلاء القادة والنخبة دائمًا بالحرية الكاملة لاستخراج الموارد الوطنية وتوجيهها كما يحلو لهم (Rose 1998, 146).
وهذا يعني أن البلدان ذات القدرات المماثلة ولكنها مختلفة بنيويا يمكن أن تتصرف أو تحذو سياسات خارجية مختلفة. كما قد تشكل الضغوط والحوافز النظمية الخطوط العريضة والتوجه العام للسياسة الخارجية دون أن تكون قوية أو دقيقة بما يكفي لتحديد التفاصيل المحددة لسلوك الدولة.
يعتقد الواقعيون الكلاسيكيون الجدد إن هناك حاجة ضرورية تتطلب فحصًا دقيقًا للسياقات التي يتم فيها صياغة السياسات الخارجية وتنفيذها(Rose 1998, 147).
من جهة أخرى، يضطر أتباع الواقعية الكلاسيكية الجديدة بتركيزهم على القوة النسبية كمتغير رئيسي مستقل إلى اختيار جانب من المناقشة المحتدمة حول كيفية فهم مفهوم القوة. في هذا السياق يميلون إلى تعريف روبرت دال الذي يصور القوة من منظور علاقي على أنها قدرة "أ" على جعل "ب" يفعل شيئًا ما لن يفعله لولاه (Dahl 1957, 202–3; BEQA 2019, 323–24)، هذا المفهوم الذي جرى نقده بشكل مكثف (Ailon 2006, 73; Isaac 1987, 8).
في النهاية الواقعية الكلاسيكية الجديدة هي نهج نظري تنتمي إلى التقليد الواقعي في نظرية العلاقات الدولية. تهدف الواقعية الكلاسيكية الجديدة في المقام الأول إلى شرح السياسات الخارجية للدول من خلال الإشارة إلى كل من المستويات الدولية والمحلية.
ويزعم مؤيدو الواقعية الكلاسيكية الجديدة أن هذه النظرية قادرة على سد الفجوات الموجودة في مدارس الواقعية، خاصة فيما يتعلق بشرح خيارات السياسة الخارجية والتنبؤ بها (Dawood 2016, para. 1).
التقييم النقدي
تبدو الواقعية الكلاسيكية الجديدة أن لديها الكثير لتقدمه لطلاب السياسة الخارجية من الناحية النظرية، فإنها تحتفظ بقدر كبير من التجريد والشحً مع توفير مبادئ توجيهية واضحة، ومن الناحية المنهجية فإنها تدعو إلى التركيز على السرديات التي تتعقب كيفية ترجمة القوة المادية النسبية إلى سلوك سياسة خارجية، وقد أظهر أتباعُها أن هذا النهج يمكن أن يساهم بفهم سلوك السياسة الخارجية للدول بفترات تاريخية مختلفة (Rose 1998, 168).
وتُذًكر مساهمات نظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة أن الدراسات المتواضعة التي تحركها المشكلات يمكن أن تكون لها أهمية وتأثير في العالم الواقعي، في حين أن البعض خاصة أولئك الذين يأتون من خلفية تحليل السياسة الخارجية، يعتبرون هذا أحد نقاط القوة لـنظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة، ولكن البعض ينظر إليها بحذر، وعلى الأخص فيما يتعلق بعدم الاتساق الفلسفي الذي تُظهره النظرية، فضلا عن التوافق غير المريح بين المدارس الفكرية الواقعية المختلفة التي تحاول الواقعية الكلاسيكية الجديدة دمجها معا، وهذا الأمر بالذات جعل البعض ينظر إليها كأنها مجموعة أدوات تحليلية وليس نظرية. وأيضا، على المستوى الفلسفي، يشير النقاد إلى عدم الترابط الأنطولوجي والابستمولوجي الظاهر فيها (النظرية)، لأنها تنطلق من أرضية وسطية بين العقلانية والبنائية، في حين أنها تُقر بدور كل من المواد والأفكار، ولكن في الغالب تهتم بتقديم استنتاجات تجريبيًة أكثر من اهتمامها بالحقيقة الموضوعية .
لقد ولدت هذه الانتقائية الكثير من الانتقادات لها (N. R. Smith 2018, 3). على سبيل المثال، يجادل سميث (2000,153)، أن النظريات الوضعية، مثل الواقعية الكلاسيكية الجديدة، مظلة لأن الظواهر الاجتماعية هي في الواقع ذاتية عابرة (intersubjective)، وهكذا يدًعي النقاد أن هذه النظرية ترتكب خطيئة دمج الأفكار في نظريات مختلفة بدون تقديم التبريرات الفلسفية المسبقة اللازمة.
يتعلق النقد الثاني برغبة الواقعية الكلاسيكية الجديدة في الحصول على كلا الاتجاهين في تحليلها: دمج التركيز البنيوي للواقعية الجديدة مع التركيز المحلي للواقعية الكلاسيكية القديمة وأن هذه الرغبة ذات المستويين في قلب الواقعية الكلاسيكية الجديدة غير متوافقة، لأنه من خلال جعل العوامل النظمية المتغير المستقل، لا يقتصر الأمر على وضع كل عناصر التفكير الكلاسيكي بين قوسين على أنها"متغيرات وسيطة" فحسب ولكن باستخدام لغة النظرية السببية التي يمقتها الواقعيون الكلاسيكيون وبالتالي هذا الأمر يزيد عدم التوافق بين الواقعية الجديدة والواقعية الكلاسيكية، وينتهي الأمر بمعظم أعمال الواقعية الكلاسيكية الجديدة إما إلى الواقعية الجديدة أو الواقعية الكلاسيكية القديمة. كما أن الواقعية الكلاسيكية الجديدة ليست واضحة بشأن المتغيرات الوسيطة التي يجب أخذها بالاعتبار. إذ يختار بعض الباحثين متغيرات فكرية وسيطة مثل الهوية أو الأيديولوجية، وينظر آخرون إلى المتغيرات المعرفية المتداخلة مثل التصورات أو الاهتمامات؛ بينما يميل آخرون إلى متغيرات أو العوامل الإجرائية أو المؤسسية مثل عملية صنع السياسة الخارجية أو دور البيروقراطيات. وبالتالي تزيد هذه الانتقائية بشكل طبيعي إلى بعض التناقضات الوجودية والمعرفية الأعمق في قلب الواقعية الكلاسيكية الجديدة (N. R. Smith 2018, 4)
علاوة على ذلك، هناك مشكلتين إضافيتين لم يجري الإجابة فيها في النظرية:
أولاً: لا يوضح جدعون روز كيف تُترجم الضغوطات النظمية إلى سياسة خارجية، مثلا يقول منتر بيقا أنه من الواضح أن السياسة الخارجية هي نتاج المؤسسات والقيادة المحلية، ولكن للقول إن لدينا نظرية مختلفة، علينا أن نوضح مسبقًا كيف تُترجم القوى النظمية. حيث أشار والتز بحق إلى أن النظرية ليست دمجًا ميكانيكيًا لمتغيرات مختلفة في مستويات مختلفة من التحليل بل يجب أن تُظهر النظرية كيف أن التغييرات في مجال ما تسبب تغييرات في مجال آخر وتتم عملية تقييم التهديد وتقييم الحوافز من خلال تصرفات القائد ومعرفته.
في النهج الواقعي الكلاسيكي الجديد لا يوجد دليل على أن التغييرات في البنية الدولية أو في متغير توزيع القدرات تُعلم تصورات القائد. إذا تأثرت هذه التصورات حول التغييرات في النظام الدولي بمتغيرات أخرى مثل المتغيرات المعرفية أو الأيديولوجية أو الثقافية والتي هي خارجية للنظرية، فإننا نتعامل مع تكامل نظرية الواقعية الجديدة مع بعض النظريات المساعدة المخصصة. هذه ليست الطريقة التي نبني بها نظرية جديدة.
ثانيا: على الرغم من أن تصورات صانع القرار للقوى الهيكلية هي المتغير الرئيسي المتدخل لمعظم الواقعيين الكلاسيكيين الجدد، فإن هذا النهج متعدد للغاية.
بالنسبة لفريد زكريا مثلا، فإن المتغير الوسيط الرئيسي هو نظرة الدولة بقوتها المادية. واستخدم علماء آخرون متغيرات وسطية مختلفة لتوضيح الظواهر المختلفة للسياسة الخارجية، لكن النظريات المساعدة تستخدم فقط عندما تفشل النظريات الهيكلية في تقديم تفسيرات مرضية للظواهر.
عندما تنحرف النتائج عن التوقعات النظرية، يجب دمج متغيرات الوحدة المرتبطة بالواقعية الكلاسيكية الجديدة لفهم السبب.(BEQA 2019, 325–26)
في النهاية، في ضوء المناقشات الشاملة، توفر الواقعية الكلاسيكية الجديدة تفسيرا مقنعًا إلى حد ما لمصادر السياسة الخارجية في حالات عدة، على الرغم من أن العديد من العلماء يتهم الواقعية الكلاسيكية الجديدة بعمل استدعاءات اختزالية، يجب أن يكون مفهوماً أن لها قيمة من خلال صيانتها للعديد من الفكر الواقعي، وفي نفس الوقت استيعاب العديد من الرؤيا المفيدة للمناهج النظرية الأخرى (Tomada 2015, para. 13).