لم تكن الأحداث الاخيرة والمواكبة الإعلامية التي حصلت في مدينة القدس والحرب على غزة تشبه سابقاتها من الإحداث.
لقد رافق الحرب وقصف المقاومة للكيان الصهيوني زخما إعلاميا كبيرا وهبة منقطعة النظير على جل منصات التواصل الاجتماعي، بل إن الأحداث الأخيرة انطلاقتها وبدايتها ارتبطت بوسائل التواصل الاجتماعي، فالشرارة الأولى أطلقتها الناشطة المقدسية منى الكرد حول قضية الشيخ جراح الذي يسعى الصهاينة لترحيل سكانه الأصليين منه وزرع مستوطنين جدد في داخله، ومن هناك كانت البدايات المختلفة لتكون بعدها نهايات على غير ما تعودنا عليه، فنتائج معركة سيف القدس هذه المرة مغايرة كليا عن المعارك السابقة، حيث لأول مرة إسرائيل ترضخ لفصائل المقاومة بغزة وتعجز عن إنهاء الحرب لصالحها والتصدي لوابل الصواريخ التي عجزت هي وقبتها الحديدية عن إيقافها.
وسائل التواصل الاجتماعي: المعطى الجديد الذي قلب المعادلة
لقد كان حضور منصات التواصل الاجتماعي أمرا في غاية الأهمية بل وحاسما أيضا سواء حول ما حصل في باحات المسجد الأقصى من محاولات اقتحامات أو في قطاع غزة وفي عديد مدن الداخل المحتل، لقد استطاع كثير من الناشطين ولأول مرة نقل الواقع بطريقة لم نتعود عليها من قبل، فالبث المباشر على منصات الإنستغرام والفيسبوك مكّن من تقديم الأحداث بطريقة إبداعية، وعلى رغم بساطتها وعفويتها إلا أنها شدّت ملايين المتابعين في شتى أصقاع الأرض.
هذه الوسيلة الجديدة وخاصة البث المباشر جعلت الكثيرين يتابعون الأحداث من هواتفهم واستطاعت تحريك مشاعرهم ونقل المجريات بحرفية كبيرة لم نعرف لها من قبل نظير حتى في القنوات التلفزيونية.
إنها طريقة جديدة لصناعة الرأي العام وليس نقل الأحداث فقط، يمكن أن نطلق عليها "الإعلام البديل"، أولا لأنه كان عفويا ومتحررا تقريبا من كل الأجندات والبروباغندا السياسية وثانيا هذا الإعلام البديل كان إعلاما شعبيا اخترق بيوت الكثيرين ودخلها عنوة وهو عكس الإعلام التقليدي والقنوات التلفزيونية والمفتاح في هذا كله منصات التواصل الاجتماعي رغم بعض التضيقات طبعا.
الإعلام البديل موجود في السيرة النبوية منذ أكثر من 1400 سنة
كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول من ابتكر هذا المصطلح وصنع إعلامه البديل الخاص به في حروبه التي خاضها في زمانه بل وركز عليه كثيرا، وكان له صلى الله عليه وسلم كتيبة من الشعراء وانتصر في مواضع كثيرة عن طريقهم وحقق من خلالهم أو لنقل إعلامه البديل الذي صنعه عديد المكاسب والانتصارات دون اللجوء للحرب.
كان صلى الله عليه وسلم متفطنا لهذا الأمر جيدا ويعرف أن العرب أهل لغة وفصاحة فجعل له هاته الكتيبة واتخذ الشعر عندها كنوع من القوة الناعمة يستعملها عند الحاجة لذلك.
ثلاثة شعراء اعتمد عليهم صلى الله عليه وسلم وجلهم كانوا من الأنصار والخزرج وهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة.
ولنبدأ بحسان بن ثابت، لقد سمع مرة رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه أن هنالك بعض المشاكل بين قريش وقبيلة دوس فأراد عليه السّلام إضعاف أعدائه خاصة قريش عدوه اللدود عندها فاستغل الفرصة، فأمر حسان بن ثابت أن يقول شعرا يأجّج فتيل الحرب بينهم ففعل حسان ذلك ولما بلغت قريش ودوس تلك الأبيات من حسان اشتعلت نار الحرب بينهم وكان للنبي الأكرم ما أراد، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم في هذه الواقعة لحسان "اِرم وروح القُدُس معك" مشجعا إياه على ذلك واعتبر أن قول الشعر نوعا من الرماية في الحرب، غير أن الرماية هذه المرة بالشعر وليس بالقوس.
كذلك الحال مع كعب بن مالك فقد أسلمت قبيلة دوس كاملة خوفا من بيت شعر قاله. نعم، دخول قبيلة كاملة في الإسلام لم يحتج لا لحرب أو غيرها من الأمور فقط بيت شعر عرف متى يأمر النبي حسان بقوله وهو: نخيرها ولو نطقت لقالت *** قواطعهن دوسا أو ثقيفا.
كعب بن مالك مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك له صنيعه مرة أخرى فقال له: إن الله لم ينس لك صنيعك في بيت قلته في قريش فعن ابن المنكدر، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك:
ما نسي ربك لك - وما كان ربك نسيا - بيتا قلته،
قال: ما هو؟ قال: أنشده يا أبا بكر، فقال:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها *** وليغلبن مغالب الغلاب.
هكذا كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، كان رجلا ثاقب البصيرة وحكيما ويعرف كيف يستغل الإمكانيات التي عنده فيوجع بها أعدائه ويخدم بها صالحه ويصنع من خلالها انتصاراته.
كذلك اليوم كثير من المنصات وبإمكانيات بسيطة جدا عن طريق بعض الشباب والمؤثرين استطاعوا مقارعة شبكات إعلامية كبرى ورائها لوبيات عالمية تسعى لتزييف الواقع وتزويره وتوجيه الرأي العام لصالح الكيان الصهيوني الغاصب وأظهروا الحقيقة كما هي بالظبط وخاصة جرائم الكيان الصهيوني.
رواد شبكات التواصل الاجتماعي وحلف الأحابيش
لازلنا مع السيرة النبوية لكن بعيدا عن الشعراء وهذه المرة نبين قوة التفكير ودهاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يستغل أعدائه والشقوق داخل عدوه في صراعه ضد الكفار. فمن هم الأحابيش ؟
كانت قريش تتكون من ثلاثة أحزاب كبرى وهم أولا حزب المطيبين، حزب القيم والفضول ومنهم بنو عبد مناف وزهرة وتيم، الحزب الثاني وهم الأحلاف حزب السلطة والثروة ومنهم بنو عبد الدار وجمع وبني مخزوم.
أما الحزب الثالث فهو حزب الأحابيش ويسمى أيضا بحزب المهمشين والعامة، لم يكن لهذا الحزب وزنه الكبير في اتخاذ القرارات السياسية الكبرى داخل قريش وذلك لأنهم لم يكونوا من أصحاب المال ولا النسب فكانوا حزب الضعفاء والمهمشين رغم كثرتهم، فهم يمثلون أكثر من نصف سكان مكة.
قبل فتح مكة كان لرسول الله شعبية كبيرة داخل هذا الحزب ولقد نجح في مواقف عديدة في كسب ود هذه الفئة وكان كثير منهم مسلمين أيضا، فما الذي فعله صلى الله عليه وسلم حتى تزداد شعبيته؟
من أبرز المواقف التي قام بها صلى الله عليه وسلم هي منع المجاعة عن مكة وانقطاع القمح تقريبا في السنة الخامسة هجرية قبل صلح الحديبية، تدخّل عليه السلام في حل مشكلة بين أهل اليمامة وقريش، فاليمامة المزود الرئيسي لقريش في غذائها من القمح.
هذه المشكلة تسبب فيها سادة قريش وانقطع عنهم القمح من اليمامة وكانت بداية المجاعة بمكة فاستغل صلى الله عليه وسلم تلك الفرصة وتوسط في الأمر وأوقف تلك الكارثة وأنقذ قريش من الجوع، فزادت شعبيته صلى الله عليه وسلم في مكة خاصة بين أوساط الفقراء والمهمشين والذين كان أغلبهم من حزب الأحابيش. فقالوا محمد يمنع عنا المجاعة وينقذنا منها بعد أن تسبب فيها أسياد قريش وكادت تحصل الكارثة.
استفاد صلى الله عليه وسلم من هذه الشعبية التي بناها بذكاء على امتداد سنوات كثيرة وبعد مواقف عديدة حتى جاء صلح الحديبية فكان لهذا الحزب تأثيره الكبير لإبرام ذلك الصلح.
لما رفضت قريش دخول المسلمين مكة السنة السادسة هجريا لأداء مناسك العمرة، لعب حزب الأحابيش دورا هاما جدا في إبرام الصلح، نتيجة الشعبية الكبرى لمحمد صلى الله عليه داخلهم، انحاز هذا الحزب لرسول الله عليه الصلاة والسلام وتعاطفوا معه وقالوا على لسان الحليس وهو زعيمهم آنذاك لسادة قريش "إن لم تتركوا محمد يدخل مكة لتكون حربا بيننا وبينكم" وكانت عندها بوادر حرب أهلية في مكة، فخاف سادة قريش من ذلك وأرسلوا سهيل بن عمرو كي يتفاوض مع المسلمين وتم بعدها إبرام صلح الحديبية الذي نعرفه كلنا تقريبا.
حزب الأحابيش أو المهمشين، تلك الفئة التي ليست ذات مال وحسب في مكة كان لها دور هام وفعال في إبرام الحديبية.
ما أشبه هذا الصنيع بكثير من رواد منصات التواصل الاجتماعي وخاصة المراهقين والشباب، كثير منهم اكتسحوا بمقاطع قصيرة عديد الشبكات وخاصة التيكتوك وقيل أن خمسين في المائة من مستعملي هذه المنصة شاهدوا محتويات حول القضية الفلسطينية وعرفوا كيف يجب بالمسألة وكان ذلك بلغات عديدة وكثيرة.
الكثيرون ممن ربما لا نلقي لهم بالا ولا قيمة كانوا سببا في صناعة الزخم الإعلامي الكبير والذي جعل الملايين في العالم يعرفون حقيقة ما يجري في فلسطين وجرائم الكيان الصهيوني والحقائق الأصلية التي غيبت لعقود كثيرة، مراهقون وشباب لا نلقي لهم بالا لكنهم كانوا فاعلين جدا ولهم دورهام في صناعة النصر الأخير وربما تغيير كثير من المعطيات ولأول مرة في التاريخ.
إذا هذه الأحداث الأخيرة وما رافقها ومن خلال الإمكانيات البسيطة والطرق المستعملة التي قلبت وغيرت المعادلة في معركة سيف القدس ليست وليدة اللحظة بل لو دققنا وتثبتنا أكثر في السيرة النبوية لرأينا العمق والامتداد تاريخي داخلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أول من قام بهذه الأمور وهو من أول الناس الذي صنع الماكينة الإعلامية والإعلام البديل لمحاربة قريش وأعدائه، وعرف متى يصنع النصر إما بالحرب أو بقول الشعر ورأينا كيف أسلمت دوس ببيت شعر قاله كعب بن مالك، ورأينا كيف صنع شعبيته داخل مكة في حزب الأحابيش واستغلها لصالحه في صلح الحديبية.