هناك ظواهر علمية وطبيعية وهناك عبدالوهاب المسيري، ذلك العلامة المصري والمُفكر الإسلامي والكاتب والمُحلل الذي لا يسعنا إلا أن نصفه بأنه ظاهرة لما له من صولات وجولات في مختلف مجالات الكتابة والفكر من أدب وشعر رومانتيكي ونقد وقصص الأطفال، كرس حياته للفكر والكتابة والتدقيق والتحليل للخروج برؤى تخدم الأمة الإسلامية جمعاء. ولشدة انكبابه على الفكر وانغماسه بإعمال العقل خلع عنه صفة الوجود أثناء قيامه بعملياته الفكرية إذ قام بتحوير جملة رينيه ديكارت الشهيرة "أنا أُفكر إذاً أنا موجود" ليُحولها إلى "أنا أُفكر إذاً أنا غير موجود" موضحاً بذلك ولعه بالفكر وانسلاخه عن حيز الوُجود المُجتمعي ليبقى بين جدران أفكاره وتحليلها وتطويرها.
اهتم عبدالوهاب المسيري خلال حياته ومسيرته الحافلة بدراسة أمور وظواهر قد تكون غير مألوفة في حقبته الزمنية أو بين أبناء جيله أو ربما لم يكن من المُمكن إخراجها عن قالبها المألوف المعتاد، وهذا ما قام به في رحلته التي أسماها "من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان".
هذه الرحلة المُثمرة يُمكن تصنيفها إلى ثلاث دوائر معرفية ذات نظام معرفي مُنفصل
فالدائرة الأولى والكبرى هي:
الدائرة التي شملت نصف مؤلفاته وكانت عن الصهيونية منها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ذات الثمانية مجلدات والتي أخذت فترة طويلة جداً من عمره ليُكملها وقد قاربت فترة كتابتها ربع قرن من الزمان.
الدائرة الثانية:
دائرة العلمانية وأنتج فيها كتابا ذا مجلدين، وكانت لديه نظريته الخاصة وهي التمييز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، أي بين علمانية متطرفة لايمكن الحوار معها وتقوم بفصل الدين عن الحياة كلية وهي العلمانية الشاملة، وبين علمانية جزئية يمكن الحوار والتوافق معها على قاعدة مشتركة وهي أن التوجه الإسلامي المدني المستنير والتوجه العلماني الجزئي يلتقيان على قاعدة رفض الدولة الدينية الأرستقراطية (أي التي تحكم باسم الإله ولا تقبل النقد كالتي أسستها الكنيسة في العصور الوسطى).
أما الدائرة الثالثة:
فهي التي عمل عليها لعدة سنوات وأنجز فيها موسوعة صغيرة وهي دائرة التحيز وهذا المصطلح هو الذي وضعه بنفسه ويقصد به الانتقال من معناه اللغوي الذي هو التواجد في حيز إلى معناه الحضاري الذي يعني التواجد في حيز حضارة تحكم عليك أن تنظر إلى الحضارات الأخرى من موقع تلك الحضارة وقد جمع لهذه الدائرة أكثر من 40 باحثا بمختلف تخصصاتهم في مؤتمر، فرصدوا ظاهرة التحيز في كل العلوم بدءاً من العلوم البحتة مثل الرياضيات والفيزياء وصولاً لمختلف العلوم الانسانية بما فيها الفلسفة.
دمنهور.. الأرض الخصبة التي أنبتت المسيري
في شمال مصر في مدينة دمنهور حاضرة محافظة البحيرة وفي الثامن من أكتوبر من عام 1938 وُلد صاحب رحلتنا وموضوع طرحنا الدكتور عبدالوهاب المسيري وتربى في كنف أسرة ميسورة الحال حيث أن والده العم محمد كان من كِبار تُجار البلدة وكان ينتمي لأسرة عريقة فنسل سلالة المسيرية يُعد من الأشراف ذوي التاريخ الحافل، وعلى يد أُم عابدة زاهدة تُقدر نعم الله وتُحافظ عليها وتعطف على الفقراء والمساكين وتُعامل الخدم كأنهم أبناءها وبناتها.
أما المُجتمع الذي ترعرع فيه دكتورنا فقد كانت تسوده ملامح المودة والرحمة والعلاقات التراحمية القائمة على العطف والتآخي حيث كان الأطفال مسؤولية الجميع في دمنهور وعملية توجيههم وتصحيحهم ليست فقط من واجب الآباء والأمهات، وكانت تسود المُجتمع وتضبط حركته قيم وشعائر دينية صارمة من زي وزينة وما إلى ذلك وقد كانت الصلاة والزكاة جزءا من الحياة اليومية وليس مجرد فرائض يجب تأديتها وكان المسيري كغيره من أطفال مجتمعه يُجودون القرآن ويتدارسونه.
كيف تحول مسار المسيري من الطريق المحتوم للتجارة إلى دراسة الأدب الرومانتيكي؟
ما كان يدور في الفترة التي وُلد فيها المسيري من أحداث سياسية وتصعيد فكري بين جميع الطبقات ومُختلف الأعمار حالت دون أن يُصبح المسيري تاجراً مثل والده وأن يقوم الفتى بمواصلة مسيرة والده وإدارة أعمال العائلة، كما أن تردده على المكتبات العامة وتشجيع الأساتذة له ساهم أيضاً في توسيع مداركه الفكرية.
بدأ المسيري في الحياد عن الطريق المعهود له والمرسوم له عندما كان في سن الثالثة أو الرابعة من عمره حيثُ بدأ يُقلد طبيب العائلة في كل شيء تقريباً وكان قد قرر أن يُصبح طبيباً، ومن علاقته مع أحد زملائه في المدرسة وهو ابن الناظر الذي ينتمي إلى أسرة غريبة عن بيئته وهي أسرة نووية نوعاً ما لا تُشبه في سلوكها سلوك الأسر المُعتاد في دمنهور، وبالرغم من أنها كانت أسرة أقل ثراء من أسرة المسيري إلا أنه وجد فيها ضالته ووجد أن أسلوب حياتهم أجمل حيث كانوا يقرؤون الكُتب ويتحدثون في مواضيع كثيرة ومتنوعة وتُزين منزلهم اللوحات الفنية والتُحف، وبعدها قادته الظروف لاكتشاف مكتبة البلدية أيضاً عن طريق احتكاكه بأحد أبناء الموظفين حيثُ أن أبناء التجار لا يذهبون إلى المكتبات بل يُقبلون على التجارة والبقاء في دكان الوالد أثناء وقت الفراغ، فأصبح كثير التردد إلى المكتبة إلى أن أُعجب به أمين المكتبة وأصبح يختار له الكُتب بنفسه ليقرأها.
إلى أن وصل المسيري مرحلة الثانوية من تعليمه كان يظن أن مستوى ذكائه عادي جداً أو أقل من العادي بكثير حتى التقى بأساتذته في هذه المرحلة التي شكلت نقلة نوعية في مسيرته الفكرية حيث وصف أستاذه لمادة الفلسفة في تلك المرحلة الدكتور إميل جورج بأنه كان بداية حياته الفكرية الحقيقة حيثُ كان يطرح لهم أعمق المواضيع بصورة بسيطة جداً ويقذف في قلوبهم الشك المؤدي لليقين والمُحفز للبحث والتقصي، وكذلك أستاذه روفائيل مُدرس مادة التاريخ الذي بعث فيه روح النشاط والبحث والتقصي واكتشف بداخله المُفكر الباحث المُتميز عن زملائه حيثُ كان يخصه بأبحاث كبيرة وعميقة ويقرأها أمام بقية الطُلاب ويُعلق عليه آمال كثيرة ويرى أنه عبقري وفذ مما لم يترك مجالاً للمسيري بأن يُخيب آمال أستاذه أو يخذله، وفي ذلك يقول المسيري:
"كنت لا أنجح في الدراسة إلا في الدور الثاني، حتى وصلت للمرحلة الثانوية فقال لي مدرس التاريخ: أنت عبقري يا عبد الوهاب! فتغيرت حياتي منذ ذلك اليوم، مع أني لا أدري هل اكتشفني فعلاً أم أنه كان من باب التشجيع وأنا صدقته والمهم أن النتيجة واحدة فقد تغيرت حياتي منذ سماعي لتلك الكلمة."
بعد تخرج عبد الوهاب المسيري في مدرسة دمنهور الثانوية التحق بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب في جامعة الاسكندرية، حيث وجد نفسه مُحاطاً بالكثير من الجاليات غير العربية كاليونانية والإيطالية وأحس بالفرق الكبير بين مُجتمع دمنهور والمُجتمع الذي وجد نفسه فيه، المُجتمع الذي وصفه بأنه لا أصول له ولا يتبنى حضارة محددة حيث كانت فيه أغلب ملامح الانصهار التي يُمكن مُلاحظتها، فاكتشف أنه أمام معضلة حقيقية ولابد له من مواجهة الأمر، فحبس نفسه لمدة شهر كامل يسمع الإذاعات الإنجليزية ويقرأ الصحف والمجلات الإنجليزية وكذلك الكتب إلى أن أصبح مُتمكناً من اللغة في حد ذاتها بشكل مُبهر ومن ثم انتقل إلى كُتب الأدب الإنجليزي المُترجمة والروايات الغربية وكُتب التاريخ الغربي وتاريخ الأدب الإنجليزي إلى أن أصبح مُتمكناً من الخطاب الحضاري الغربي تماماً.
في مرحلته الجامعية تأثر الدكتور المسيري بالعديد من أساتذته الذين كانوا بمثابة المُعلم القدوة حيث درجوا على فتح أبواب النقاش للطلاب وتشجيعهم على التفكر وتحليل المواضيع الدراسية إذ كانوا يتخذون من وظيفتهم وسيلة لتربية وتعليم جيل الأمة.
وكان بعض أساتذته يدعونه إلى منازلهم ويعطونه الكتب ليتعلم فن القراءة من بينهم الدكتور محمود المنزلاوي والدكتور محمد مصطفى بدوي، أما أكثر من تأثر بهم الدكتورة التي كانت تشغل وظيفة رئيسة القسم في تخصصه ولشدة تأثره بها في مستوى من المستويات الفكرية يصفها بأنها أحد مصادره الفكرية ويقول أن مدينة الاسكندرية وسكانها يأخذون ملامحهم وصفاتهم من هذه الدكتورة بل تعدى التأثر النطاق الفكري إلى حياته الشخصية حيث أسمى ابنته الأولى تيمناً بهذه الدكتورة نور شريف.
ما بين الشك الفطري والإلحاد الصريح
عندما يتم تناول الشعائر الدينية والتي قد تبدو مُتطلبات مُلازمة لصفة المُسلم مثل الصوم والصلاة وقراءة القرآن وما إلى ذلك من عبادات على أنها عادات وليست قناعات فستجد في مرحلة ما أن هذا المُسلم أحيانا قد بدأ يُساوره الشك تجاه هذه العادات التي يقوم بممارستها وفق ما تُملي عليه العادة في أسرته ومجتمعه وقد تكون في نفس المنزلة مع العادات والتقاليد الاجتماعية العادية، لذلك يسهُل الشك في صلاحيتها وفعاليتها، وفي هذا الشرك بالضبط وقع صاحب قصتنا عبدالوهاب المسيري حيث أنه وفي مرحلة الثانوية بدأت بذور الشك تنبت في نفسه ويسأل الكثير من الأسئلة الوجودية التي لا يجد لها إجابات، ونظراً لانفاتحه الفكري المُضطرد في مُقابل الانغلاق الفكري للمجتمع الذي يعيش فيه كان من الصعب محاورته ومجابهة الشكوك التي تدور في نفسه تجاه هذه العادات التي ألفى عليها الآباء فلم يكن يجد أي إجابة على أسئلته ضمن إطار الأسرة، لِأن الأمر مُتوارث عندهم بحكم العادة أكثر من القناعة واليقين، كما أنه لم يجد من يُساميه فكرياً بين زملائه في الدراسة وأيضاً لم تُتح فُرص نقاش شافية ولا حتى بين المُدرسين.
ولكنه عند انتقاله إلى الإسكندرية ومع دخوله مرحلة الجامعة وبتوسع أُفقه وبرغم ضيق الزاوية التي كان ينظر من خلالها توسعت الدائرة المُحيطة به من مُنظرين ومُفكرين محليين وأجانب وقد وجد فيهم ضالته حيثُ كانت تُناقش هذه الأسئلة فيما بينهم بصراحة بالغة ودون حدود إلى أن وصل النقاش بين الشباب الذي يُناقشه المسيري إلى ماهية الطريق الذي وصل لها؛ هل هي مُجرد شك أم أنه إلحاد صريح فقد أصبح المسيري في تلك الفترة يُنكر بعض هذه العبادات باعتبار أنها عادات وتقاليد لا مُبرر لها ولن يعود لها ما لم يجد المُبرر حيث أنه لم يعد لِأداء فريضة الصلاة إلا بعد عمر طويل حين انبثق له اليقين من بين طيات الشك المُهلك.
هكذا انتقل المسيري من الاهتمام بالماركسية كنظرية فكرية إلى عضوية الحزب الشيوعي
هذا الشك الذي كان يدور في نفس المسيري ويأكله من الداخل مستهلكاً الكثير جداً من طاقته ومُضيعاً لأكثر منها وقتاً في البحث وإثبات المُثبت منذ ما يزيد على ألف سنة خلًف عنده فراغاً كبيراً وخواء في جميع جوانب الحياة الفكرية والدينية والاجتماعية وما إلى ذلك مما جعله سهل التشكيل ومُتقبلاً لِأي أفكار دخيلة تُقابله، ومن هذه الأفكار التي استحوذت عليه في طريقها للانتشار والسيادة على العالم تقريباً هي الماركسية حيث أنها وفي تلك الفترة من الزمن كانت هي الفكر السائد بسبب سطوة الاتحاد السوفييتي على العالم وتأثيره الفكري عليه، وقد وجد المسيري ضالته في الماركسية كغيره من الكثيرين ممن كانوا يرفضون الأُطر المُجتمعية التقليدية ويبحثون عن الحداثة المنطقية والمُرضية وقد بدت الماركسية هكذا تماماً في ذلك الوقت.
كان اهتمام المسيري بالماركسية في بداياته فكرياً تماماً حيثُ أصبح يقرأ في النظرية الماركسية ومراحل ومصادر تكوينها وقد فُتحت في ذلك الوقت المكتبات السوفيتية التي كانت تبيع الكُتب الماركسية بأزهد الأثمان مما أعان المسيري على اقتناء الكثير من هذه الكُتب وقرائتها بنهم بالغ والتبحر فيها بغرض ملأ الفراغ الداخلي الذي يشكوه.
وقد استمرت علاقته بالماركسية بصورة فكرية بحتة إلى أن التقى أحد أعضاء الحزب الشيوعي وقام بتجنيده عضواً في الحزب عام 1955 ونظراً لتمكنه من اللغة الإنجليزية ومعرفته بالمصادر الإنشائية للفكر الماركسي تمت ترقيته في الحزب ودرجت القيادات على الوثوق به وإيلاء الكثير من المهام له وتسارعت خطوات تقدمه بين صفوف الحزب، وبالرغم من أنه كان غير مُقتنعاً بهذا الأمر وكثيراً ما صرح به لقادته أنه عليهم أن يختبروا صفاءه ونقاء ولائه للحزب ولهذه الأيديولوجية الفكرية إلا أنه لم يُؤخذ بعين الجدية واستمروا في ترقيته إلى أن أصبح مسؤولاً عن خلية وعضو في لجنة منطقة الرمل، ومسؤولاً حزبياً عن مصنع شربيط لتجفيف البصل في الحضرة بالأسكندرية وبالفعل نجح في تنظيم إضراب للعمال.
إن الحق يُقال في أن المسيري كان صادق العزم في بحثه عن منهج يتبناه ويُناضل لأجله ولهذا الأمر شعر بسرعة بأن الحزب الشيوعي ليس المكان المناسب له وأن هذا ليس فكره وطريقه المنشود والسبب في ذلك هو سلوك الرفاق "الرفيق: هو لفظ يُطلق على أعضاء الحزب الشيوعي فكل من له انتماءات شيوعية يُطلق عليه رفيق فليس المقصود منها المعنى اللغوي أو الاصطلاحي"، الذين كانوا مع المسيري في الحزب الشيوعي يسلكون سلوكيات مُنافية تماماً لما يعرفه عن العقيدة الماركسية التي من المفترض أنهم يعتقدون بها ووجد أن انتماءهم للحزب وللماركسية ما هو إلا نتيجة طبقتهم المادية والاجتماعية المتدنية التي ينتمون لها وما أن تسنح لهم الفرصة بالانتقال إلى طبقة أعلى لا يُمانعون بتغيير عقيدتهم، ولسبب هذا النفاق الفكري السائد بين الرفاق والنرجسية المتطرفة عند بعضهم قام المسيري بتقديم استقالته من الحزب وطلب أن يكون صديقاً له لا عضواً فيه، وقد كانت لهذه الفترة من حياته تأثيرا إيجابيا لا يمكن الإغفال عنه فقد أتاحت له الكثير من فُرص الانفتاح وتوسيع الأُفق وتعدد النظرات والرؤى كما أنها مكنته من التعرف على العديد من النماذج الإنسانية النبيلة.
المناصب الوظيفية: وسيلة لإيصال الرسالة وبث الوعي
تحصل المسيري على ليسانس آداب -أدب إنجليزي- جامعة الإسكندرية سنة 1959 ومن ثم نال الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن ـ جامعة كولومبيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية 1964 وبعد ذلك الدكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن ـ جامعة رتجرز بنيوجيرسي ـ الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1969، ونظراً لنشاط المسيري الواسع وإدراكه المُتنامي وتفانيه في إيصال رسالته المنشودة عمِل في العديد من الوظائف وشغل الكثير من المناصب فقد كان رئيس وحدة الفكر الصهيوني وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في الفترة ما بين 1970 و1975.
عمل أيضاً كمستشار ثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك في الفترة ما بين 1975 و1979، أما في مجال التدريس فقد شغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن ـ جامعة عين شمس ما بين 1979 و1983، وجامعة الملك سعود ما بين 1983 و1988، وجامعة الكويت خلال فترة 1988ـ 1989 وكان يعمل أستاذاً غير متفرغ بجامعة عين شمس ما بين 1988 و2008 كما عمل أستاذاً زائراً بالجامعة الإسلامية العالمية (ماليزيا) في كوالا لامبور وبأكاديمية ناصر العسكرية.
شغل أيضاً منصب المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن من سنة 1992 إلى سنة 2008، كما كان عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في ليسبرج في فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية من سنة 1993 إلى سنة 2008 وعضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية -واشنطن- الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة ما بين 1997- 2008 كما عمل أخيراً وليس آخراً مستشار تحرير عددٍ من الحَوْليات التي تصدر في مصر وماليزيا وإيران وأمريكا وإنجلترا وفرنسا.
التنبه لظاهرة المجتمع التراحمي في مقابل التعاقدي.. أولى رؤى المسيري التحليلية للعلاقات الاجتماعية
نظراً لتنقل المسيري وشغله للمناصب الكثيرة والمتنوعة وبطبيعة الحال تواجده في كثير من الدول ومُعاصرة العديد من الثقافات تعددت لديه الرؤى وحسُنت فرصه للمقارنة والتحليل للعديد من القضايا المُجتمعية مما ساهم بالخروج لنا بهذه الموسوعات القيمة التي تمس جميع أطراف العالم العربي والغربي بالتحليل والمُقارنة والمناقشة لِأهم القضايا المُجتمعية والعلمية المألوفة والمُستحدثة.
من أول الرؤى ظاهرة المُجتمع التراحمي والمُجتمع التعاقدي حيثُ أن هذه القضية لفتت نظره منذ بداياته وعند تحوله من مرحلة إلى أخرى وعند انتقاله من دمنهور إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تربى المسيري في مجتمع تسوده ملامح الرحمة وكل العلاقات تقريباً كانت تراحمية سواء بين الخادم والمخدوم أو العامل ورب العمل أو بين الجيرة والأصدقاء والأسرة، ومُعاملات المُجتمع التراحمي تقوم على التفاعل مع المجتمع بدافع الرحمة والمودة ومن منطلق المشاعر البحتة فيتم التعامل مع الأطفال على السواء جميعاً بنفس العطف والاهتمام وفي مرة من المرات ضاع المسيري عن منزله فوجدته أسرة وضمته إليها إلى حين أن يجد أهله، فعندما جاء الطعام رفض أن يأكل إلا بعد أن يضعوا محارم الطعام كما يفعل أهله ففعل ذلك جميع أفراد الأسرة المُضيفة لكي يشعر الطفل التائه بأنه في منزله، وفي مرة من المرات أتت فتاة إلى منزلهم تحمل أطباقاً مُزينة تعرضها للبيع وقابلها المسيري فأخبرها أنهم لا يُريدون لأنه يعلم أن لديهم واحداً مُشابهاً ولكن والدته انتهرته واشترت الطبق فأخبرته أننا لا نشتري لِأجل حاجتنا وإنما لأجل حاجة البائع وبما أنهم يكدون في العمل ليكفوا أيديهم فيستحقون منا أكثر من ذلك، فإنه من باب الصدقة أكثر من باب البيع والشراء.
وهكذا الكثير من الأحداث التي عاشها المسيري ليصف فيها كيف أن العلاقات كانت تراحمية في مضمونها مهما كان مُسماها الآخر، وعند انتقاله إلى الاسكندرية وجد أن ملامح المُجتمع التراحمي قد بدت باهتة أكثر وأن الأسرة النووية مُنتشرة بصورة أكبر والطابع المعهود هو مُقدم خدمة وطالب خدمة والمشاعر على الجانب، أما عند انتقاله إلى الولايات المتحدة كانت الصدمة بالنسبة له فقد وجد أن المُجتمع عبارة عن مُجتمع تعاقدي في جميع تفاصيله وجميع العلاقات هي تعاقدية مهما كان مسماها.
والمجتمع التعاقدي هو أن يتم التفاعل مع المجتمع وفق المنفعة والفائدة المرجوة من هذا الفعل فإن كان هذا الأمر لن يعود لي بالنفع فهو لا يعنيني بشيء وأي أمر يحدث هو بمثابة عقد عقد أو إبرام صفقة.
يحكي المسيري أن فتاة طلبت من والدتها أن ترعى لها ابنتها ريثما تقضي بعض المشاوير أي أن الجدة تعتني بحفيدتها فجلست الجدة مع الطفلة إلى أن عادت والدتها فإذا بالوالدة تُخرج عشرة دولارات تعطيها للجدة جزاء رعايتها للطفلة، وهنا كانت الصدمة حيث أن أكثر البديهيات من علاقات الرحمة والتعاطف قد تحولت إلى عقد عمل.
فقه التحيز: أساس علم جديد للأمة الإسلامية
"فقه التحيز"، اتفق المسيري ومن معه على إطلاق كلمة فقه وليس علم لأن الأولى تسترجع البُعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة. تسائل المسيري وفكّر في إنشاء علوم جديدة لا تتبع للغرب وعلومه لكي تتعامل مع الإشكاليات الخاصة بنا وقرر تنفيذ هذه الفكرة فيما يخص موضوع التحيز وسبب ذلك الإحساس بأن هوية الأمة مهددة لتبنيها نماذج ورؤى الآخر وتتحيز تحيزاته حتى وإن كانت ضده، وقد شاركه الإحساس بضرورة هذا الأمر الكثير من الزملاء في مصر وكذلك عندما انتقل إلى المملكة العربية السعودية فشرعوا في إجراء الجلسات الحوارية للنقاش حول الموضوع لمدة تزيد على عام، إلى أن تقرر إصدار كتاب يتناول دراسات حول موضوع التحيز وقاموا بالتحضير لمؤتمر تحت إشراف المعهد العالمي للفكر الإسلامي ونقابة المهندسين بمصر ولاقى نجاحاً كبيراً ووصلتهم الكثير من الأبحاث الجديدة.
في فقه التحيز يرصد المسيري علاقة الدال بالمدلول وعملية الدلالة إلى أي دال ما خارج السياق العلمي الجامد، تعتمد بشكل أساسي على التحيز المفاهيمي، فعند الإشارة إلى أمر ثابت مثل الماء فإنه لا تُوجد صعوبة في فهم المقصود من الماء وكذلك التلفزيون مثلاً، وتتسع الهوة بين الدال والمدلول مع اتساع البؤرة التي قد يَرد فيها اللفظ وفق تعبيرات أخرى.
فلو أشرنا مثلاً وقلنا ثوب أسود إذا توفر أمام ناظرنا ثوب أسود وكان هناك شخص نخاطبه فإن الهوة بين الدال والمدلول ليست كبيرة جداً، ولكن ما قد يخطر من مدلولات أخرى مثلاً أي نوع من الثياب هذا وإلى أي ثقافة وأي حضارة ينتمي وكذلك عند إضافة صفة اللون الأسود للثوب فإن المُتلقي قد ترتبط ليه دلالات أخرى متعلقة باللون الأسود، ولكن مربط الفرس عند اتساع الهوة بين الدال والمدلول يكون العامل المُسيطر هو التحيز فلو قلنا مثلاً سيارة هي دلالة على مدلول معروف في العالم بأسره وهو السيارة ولكن التحيز الذي يحدث عند المتلقي قد يجعله يُدرك نوعا مُحددا من السيارات غير الذي يقصده المتحدث أو ماركة مُعينة من السيارات حسب السائد في فكره.
ومن أضرار التحيز في الدال والمدلول التي دفعت المسيري لإطلاق شرارة هذه البحوث هي الألفاظ المستوحاة من العالم الغربي ويتم استخدامها في العالم العربي مع تحيزاتها الغربية ومدلولاتها الغربية تماماً إلى درجة أنها قد تُصبح دلالة بغير مدلول لِأنها لفظة ومصطلح غير موجود في اللغة العربية كالمصطلحات التي يتم تعريبها مثلاً أو ربما نقلها كما هي، مثل لفظة الأيديولوجية والتي تحمل العديد من المعاني في العالم الغربي مثل مجموعة الأفكار التي تُشكل دليلاً للعمل على أساسه كما أنها تعني مجموعة الأفكار الوهمية التي تحجب الرؤية، فتم نقل هذا المصطلح الغربي إلى الحضارة الغربية كما هو بل ويتم الاشتقاق منه مثل القول فلان يؤدلج أو هذا الفكر المُتأدلج وما إلى ذلك وهذا يُعزى إلى أن البناء في اللغة العربية يستند على أساس الفعل وليس كما في بعض لغات الغرب التي تستند إلى الاسم فنجد أن بعض المصطلحات التي يتم استيرادها لا يُمكن الاشتقاق منها وتكمن في ذلك صعوبة بالغة جداً. ويقوم المسيري بذلك في دعوة منه لابتكار مصطلحات خاصة بالمجتمع الغربي وثقافته وحضارته فيسرد الكثير من المصطلحات وفق سياقها الأصلي والتحول الذي يطرأ عليها عند نقلها خارج السياق لتحل محل ألفاظ أخرى يجب استخدامها ضمن الثقافة العربية كما أنه يطرح بديلاً لهذه المصطلحات يُشير إلى نفس المدلول ولكن وفق ثقافتنا وبناء على الحضارة التي نتبناها دون أي تحيز للآخر.
"الإنسان كيان مُركب" إلى أي حد تتنافى الحلولية مع النزعة الربانية وكيف تؤسس للعلمانية؟
يؤمن المسيري بأن الإنسان كيان مُركب ومُعقد جداً ولا يُمكن إرجاعه أو تفكيكه إلى مكونات بسيطة أي الطبيعة والمادة، ومن هنا ناقش فلسفة الحلولية وفق التركيب الإنساني المطروح في مُختلف البيئات، ولفهم نموذج الحلولية عند المسيري يجب التفريق بين مفهومين أساسيين هما مفهوم النزعة الجنينية والنزعة الربانية، النزعة الجنينية هي النزوع لرفض كل الحدود التي تفصل بين الطبيعة والإنسان وبين الخالق والمخلوق وتنظر للإنسان بإعتباره مادة لا خصوصية لها ولا تمييز، أما النزعة الربانية فهي على العكس تماماً حيث أنها تميز الإنسان عن الطبيعة وعن المادة وتُميز الخالق عن المخلوق وتؤمن بالثنائية الدائمة في الحياة والنقيض لكل شيء مثل الخير والشر والنجاح والفشل والصعود والهبوط وما إلى ذلك، يؤدي مذهب الحلولية إلى وحدة الوجود والتي صاغها في صيغتين وحدة الوجود الروحية "الحلولية الروحية" ووحدة الوجود المادية "الحلولية المادية"، فالحلولية الروحية نجد أن الروح تحل في كل شيء فكل أمر يُمكن وصفه بأنه روحي أو أنه تجربة روحية مهما بلغت ماديته، حيث أن الإله موجود في هذه الصيغة ولكنه على كل الأشياء ويذوب في الكون فيُصبح ليس له وجود منفصل عن المخلوقات وتُصبح جميع الأمور والأفعال والأشخاص والمواد على نفس الدرجة من الروحية فالإنسان والشجرة والعمل جميعهم يتصفون بنفس القدر من الروحية، أما الحلولية المادية فهي حلول المادة على جميع الأشياء فتُصبح كل الأمور مادية على حد سواء والكون تحكمه قوانين الطبيعة والمادة فلا وجود للروح أو الإله، ويذكر المسيري أن الحلولية سلاح ذو حدين قد يقود إلى الإيمان عن الاعتقاد والتصديق بأن الحياة والكون ليسا عبارة عن مادة بحتة فقط وإنما هنالك غيبيات وروحانيات قد لا تُدرك بالحواس الخمس أو بالعلم، كما أنها تقود للكفر عند الاعتقاد بأن الخالق ينزل ويحل على جميع المخلوقات حلولاً فعلياً فيُصبح الخالق والمخلوق سيان فأنت هو وهو أنت ومن هنا تنبعث فكرة الإنسان المُقدس وتكتسب جميع الأمور والأشياء قُدسيتها من هذه الفكرة.
الحلولية ووحدة الوجود عند المسيري تُعتبران مقدمات للعلمانية وكنتيجة لهما أو كخطوة تالية لهما برزت العلمانية، ويُقسم المسيري العلمانية إلى: العلمانية الجزئية والتي لا مانع لديه فيها والعلمانية الشاملة المُعارض لها. بأخذ الأقل ضرراً وفتكاً بالمجتمع نجد العلمانية الجزئية هي المُرجحة عند كفة المسيري بالطبع ولكن من منظور ديني كل ما يمس الدين فهو محظور، عند المسيري العلمانية الجزئية هي التي تعني فصل الدين عن الدول دون التدخل في التفاصيل الفردية الصغيرة وما يُقيمه الفرد والمُجتمع من شعائر، فلا يجد المسيري حرجاً من فصل الدين عن القضايا الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك من شؤون الدولة، ولكن لماذا وُجدت الدولة ومصالح من ترعى هذه الدولة؟ أليس أي تغيير في صفوف الدولة سيؤثر على الفرد، فلو نظرنا للاقتصاد إذا استبعدت عنه الملامح الدينية سيُصبح البيع على بيعة الآخر والربا مُباحا وستشتد المنافسة فيه وبخس الناس سلعهم ومنتجاتهم واستغلال الجميع وتضييق الخناق عليهم بما يُنافي المعاملات الإسلامية والإنسانية، وكذلك السياسة والكر والفر وكل ذلك له أصول وضوابط في الإسلام.
والإسلام لا يتجزأ فعند التخلي عن هذا الجزء يُصبح التخلي عن الباقي أسهل، وعلمنة الجانب القضائي تعني إلغاء جميع الحدود وحقوق المواريث وجميع القوانين الكافلة لحق أي فرد في المجتمع وبالتالي لن يُصبح أي فرد قادراً على الحصول على حقوقه أو ضمانها فهذه هي العلمانية الجزئية في مضمونها.
أما العلمانية الشاملة تعني فصل القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية عن الحياة بوجهيا الخاص والعام، فهي تقتضي التعامل مع الحياة والكون على أساس المادة وتصبح جميع الأمور تُقاس بمقياس المادة والأخلاق والقيم لا وجود لها على أي مستوى من المستويات والقوي يأكل الضعيف.
ما الذي تمثله الجماعات الوظيفية في فكر المسيري؟
الجماعة الوظيفية هي جماعة يستجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخل "الأقليات الإثنية والدينية أو حتى من بعض القرى والعائلات" حيث يتم إيكال مهام لهذه الجماعات بحيث تنفذها لأجل المجتمع، إذ أن هذا الأخير هو عبارة عن كيان منفصل عن هذه الجماعات الوظيفية وهذه المهام ليست من الشأن والرفعة التي ترقى لمستوى هذا المجتمع فيستجلب الجماعات الوظيفية لتقوم بهذه المهام للحفاظ على ترابطه وتراحمه وقدسيته وتبقى منفصلة تماماً عن المجتمع وبعيدة عنه قلباً وقالباً ولا يختلط أفراد الجماعة الوظيفية بأفراد المجتمع أبداً وتكون العلاقة بينها وبين المجتمع علاقة تعاقدية بحتة ومعرضة للفسخ في أي وقت، فحالما تنتهي هذه المهام وتُصبح غير مطلوبة يتم تسريح هذه الجماعات أو عند تعلم أفراد المجتمع بعض هذه المهام والوظائف من الجماعات الوظيفية ويُصبحون قادرين على أدائها مباشرة يتم الاستغناء عن الجماعة الوظيفية.
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.. العمل الأضخم في مسيرة المسيري
النماذج الثلاثة سالفة الذكر: الحلولية؛ العلمانية الشاملة؛ الجماعات الوظيفية، استخدمها المسيري في موسوعته حيث تعامل النموذجين الأوليين مع المستوى العام للظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية أما نموذج الجماعات الوظيفية فقد استعمله للتعامل مع مستويات أكثر تخصصاً.
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية هي الموسوعة الأكبر والعمل الأضخم من بين جميع أعمال عبدالوهاب المسيري التي قضى في كتابتها زهاء الثلاثين عاماً وقد مرت بثلاث مراحل: مرحلة التكوين؛ مرحلة العمل الموسوعي؛ مرحلة كتابة الموسوعة، نقاش المسيري في الموسوعة الكثير والكثير من المواضيع من تعريف اليهودي وتصنيفات اليهود ومُسمياتهم وانتماءاتهم وعرف الصهيونية ونشأتها وكيف تبدو في كل منطقة كما قام بتقسيم الذين ينتمون لها.
تدور بعض الإشاعات حول أن المسيري يميل إلى اليهود أو يتعاطف معهم وهذا غير صحيح بالطبع ولكن هذه الإشاعات مُنبثقة من المبدأ الذي أسماه "أنسنة اليهود" والذي يعني به تحويل اليهود إلى بشر خاضعين لعوامل الزمان والمكان، يقول المسيري أن اليهود في العالم ليسوا بيد واحدة ولا هم يتسمون بنفس السمات أو لهم نفس العادة كما أنه يعدهم من الجماعات الوظيفية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية لأنه يعتبر أن الكيان الصهيوني ما هو إلا جيش وحامية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط فبذلك هم جماعة وظيفية تخدم أغراض عسكرية لصالح الولايات المتحدة ولو أرادت استبدالها لاحتاجت لترسانة حربية كبيرة في تلك المنطقة.
نظرية المؤامرة: هل تثني عن الجهاد أم هي محفز له؟
وعلى ضوء ذلك ووفق فلسفة أنسنة اليهود ينضم الدكتور عبدالوهاب المسيري إلى صف المُعارضين لنظرية المؤامرة، ويعتبر أن الإيمان بنظرية المؤامرة والعداء لليهود ينطوي على دعوة لعدم الجهاد، لأِن نظرية المؤامرة تُظهر اليهود على أنهم إما شياطين أو عباقرة ويقول أنهم لو كانوا هكذا ففي كلا الحالتين لا يُمكن أن ندحرهم، يقول:
"كنت في إحدى الندوات أعرض وجهة نظري، فقام أحدهم وصرخ بصوت عال: "إن حربنا مع اليهود إلى يوم قيام الساعة" قالها بحماسة شديدة جعلت الجمهور كله يصفق له بحماسة أشد، فقلت لهم: إن هذا القول يعني أن قيام دولة إسرائيل جزء من مخطط إلهي، وأن انتصاراتها علينا أمر مكتوب علينا تقبله إلى أن تحين الساعة"
فيقول أن الإيمان بهذا الأمر يعني التسليم به والبقاء عاجزين دون محاولة، كما يضيف أن بروتوكولات حكماء صهيون وما يشابهه ما هو إلا خُطة وُضعت من قِبل أذكياء لإيهام الناس بها والترويج لقوة اليهود وتمكنهم من العالم.
ولكن ما يجدر بنا النظر إليه ومن وجهة نظري أن قيام دولة إسرائيل هو مُخطط إلهي لا محال ولا يُمكننا أن ننكر فإنه مُثبت بالكتاب والسنة والديانات الأخرى وأن هلاكهم كذلك مُخطط إلهي ويذكر المسيري ذلك عند سرده لقصة التأسيس للصهيونية حيث أن مؤسس فكرة الصهيونية قد أصبح من ألد أعدائها لِأنه وجد في التوراة الأصلية أن العودة إلى فلسطين تعني النهاية واقتراب إبادتهم وبقي يُحاربها حتى وفاته، كما أن الحرب بيننا وبين اليهود ليست إلى حين قيام الساعة فعلاً ولكن انتهاء الحرب مع اليهود يعني اقتراب قيام الساعة فهذه مفاهيم لا يجب التشكيك فيها ولا النقاش في صحتها ولكن ما يحدث من جدل بسببها هو بسبب عدم رؤية الأمر من جميع جوانبه، فإن الإيمان بنظرية المؤامرة وبوجودها ليس بالضرورة يعني التقاعس عن الجهاد وإنما يعني إدراك حجم المُشكلة التي علينا مواجهتها ولن تُحل أي مشكلة إلا بإدراك حجمها الحقيقي وطالما علمنا المشكلة فقد تبقى حلها فقط، وإن كان اليهود فعلاً بشر فلا هم بشياطين أو غير ذلك ولكن ليعلم الجميع أننا أيضاً نستطيع محاربة الشياطين ومهما عظم الشيطان لابد له من رادع فلو كان اليهود شياطين حقيقة فبالتأكيد لا يعني هذا الأمر أنه لا يُمكن ردعهم، ولا يردعهم إلا عباد الله فإنه عند النظر في النصوص الشرعية نجد أن انتصار المسلمين من علامات الساعة ولكن هذا لا يعني عدم الجهاد فإنه عند اقتراب قيام الساعة لا يعني أن هناك جيوش ستنزل من السماء أو قوى خارقة تقوم بمحاربة اليهود وإنما نحن المسلمون من سندحرهم أي بجهادنا ونضالنا وحربنا فكون دوام الحرب لا يعني الاستسلام لها وإنما يعني دوام الجهاد، فهذا مُثبت أيضاً أننا قادرون على هزم الكيان الصهيوني أياً كان هذا الكيان فسواء كانت المؤامرة حقيقية أو غير حقيقية فإن إنهزامهم على يد المسلمين لا محال.
في رحاب المسيري.. خطة جردية لقراءة نتاجه الفكري الغزير
كتب المسيري حوالي ستين كتاباً باللغة العربية وستة كتب باللغة الإنجليزية وتُرجمت مؤلفاته لعدة لغات من ضمنها التركية والبرتغالية والفرنسية والمالاوية وغيرها، كما كتب العديد من قصص من الأطفال لِأنه رأى أن بإمكانه التغيير في القصة المعهودة وإضافة لمسة حداثية لها لإبقاء الأطفال على اطلاع بالقصص المأثورة مع إضافات جديدة وحديثة.
إن دراسة فكر المسيري ومؤلفاته أمر مهم جداً فإن فكره متنوع جداً ومُميز ويكمن تميزه في أسلوبه الفريد في ضرب الأمثلة وطرح الأفكار بصورة مُبسطة مما يسهل تملكها لمختلف المستويات الفكرية، ناقش المسيري في مؤلفاته الكثير من الأفكار والقضايا المهمة بداية بالرحمة والعاطفة الفطرية لدى الفرد وما يشوهها من علاقات تعاقدية مروراً بحركات تحرير المرأة وحركات التمركز حول المرأة إلى ظواهر العلمانية والتحيز والصهيونية.
تحصل المسيري على عدد كبير من شهادات التقدير والجوائز من بينها جائزة سوزان مبارك لأحسن كاتب لأدب الطفل 2000 وجائزة أحسن كتاب، معرض القاهرة الدولي للكتاب: عن كتاب رحلتي الفكرية 2001، وإليكم بعض أهم مؤلفاته وتاريخ نشرها:
- نهاية التاريخ 1972.
- موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية 1975.
- الفردوس الأرضي 1979.
- إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد 1992.
- الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة "تتكون من ثمانية مجلدات" 1995.
- من هو اليهودي 1997.
- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد 1999.
- رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار 2001.
- العالم من منظور غربي 2001.
- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة "مجلدين" 2002.
- البروتوكولات واليهودية والصهيونية 2003.
- الموسوعة الموجزة "مجلدان" 2003.
وإليكم هذه الخطة المُفيدة لدراسة فكر المسيري ومؤلفاته بصورة مُمنهجة لتوفر لكم تجربة ثرية وفريدة.
وختاماً لِمقالنا، أعمال مؤلفنا الدكتور عبد الوهاب المسيري ما يكون لنا أن نحصرها في مثل هذا المقال المتواضع الذي ما هو إلا دعوة للتفكر في حياة العلامة الراحل المسيري ودراسة إنتاجه الفكري بشكل أعمق وإعادة النظر فيما لم نُحط به ذكراً في هذا الطرح سائلين الله أن يُوفقكم لخيري الدنيا والآخرة والخروج بنتاج فكري لا نقول مُشابه أو مُماثل وإنما رؤى تحليلية ونقدية مع حلول لِأزمات المُجتمع الإسلامي والعالم ككل.