أرسل اللهُ سيدنا إبراهيم - عليه السّلام - إلى قومه في بلاد الرافدين، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وحذَّرهم من عبادة الأصنام والكواكب والنجوم التي كانت شائعةً بينهم، لكنهم كذَّبوه ولم يستجيبوا له، وعلى الرغم من ذلك فقد استمرَّ في تبليغ رسالته، مُستخدِمًا أساليبَ متنوعة؛ لإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.
وقد برع الخليل عليه السّلام في حوار قومه ومناقشتهم أثناء دعوته لهم، حتى كان أسلوبه محطَّ اهتمام الدعاة والمصلحين والباحثين، وخاصة أنَّ الله تعالى أرشدنا إلى اتِّباع ملَّته وطريقته وهديه، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة:130).
وفي هذا المبحث، سنبيّن، بعون الله وتوفيقه، كيف كان حوار إبراهيم عليه السّلام مع الملك الظالم وسؤاله لربِّه كيف تحيي الموتى؟
أولاً: حوار إبراهيم عليه السّلام مع الملك الظالم:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:258).
1.مناسبة الآية لما قبلها:
لما بيَّن الله عزّ وجل في الآية التي قبلها ولاية الله لعباده المؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وولاية الطاغوت للكافرين، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، كما قال عزّ وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257)، أخذ الحق سبحانه يدل على ولاية الله للمؤمنين بقصة الذي حاجّ إبراهيم - عليه السّلام - في ربّه في سياق التعجب من تلك الجرأة.
كأنه قيل: انظروا إلى إبراهيم - عليه السّلام - كيف كان يهتدي بولاية الله عزّ وجل له في الحجج القيمة والخروج من الشبهات التي تعرض عليه؟ فيظل على نور من ربه وإلى الذي حاجّه كيف كان بولاية الطاغوت له يعمى عن نور الحجة؟ من ظلمة من ظلمات الشُبه والشكوك إلى أخرى.
ولما ذكر الحقّ عزّ وجل أن الله سبحانه وتعالى ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، ساق شواهد على ذلك في الآيات التي بعدها، ومنها هذا الشاهد الذي اشتمل على ضلال الكافر، وهدى المؤمن، واستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به الكلام وهو: اجتراؤه على المحاجة في الله عزّ وجل، وما أتى في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته.
2.متى كانت هذه المناظرة؟
انتقل إبراهيم - عليه السّلام - في دعوته انتقالاً متدرجاً منظماً، وقد بدأ دعوته إلى الله مع أبيه، أقرب الناس إليه، ثم انتقل يدعو قومه، وهي الدائرة الأوسع، ثم الخطوة التي تلتها، وهي دعوة الملك، وهو رأس القوم. ومن المفهوم المعروف أنه لما ناقش وجادل وحاجج قومه، انتشرت دعوته بين الناس واشتهر أمره وذاع صيته، وعرف الناس من هذا الفتى وما هي دعوته وماذا يريد، ومن المفهوم أن تكون دعوته قد وصلت بلاط الملك، وأن يكون الملك قد سمع به، ولذلك توجّه إبراهيم - عليه السّلام - إلى الملك داعياً ومحاججاً ومجادلاً.
وقد اختلف علماء التفسير وغيرهم في الوقت الذي وقعت فيه المناظرة بين إبراهيم - عليه السّلام - وبين النمرود لعنه الله، وهل كانت قبل حرق إبراهيم بالنار أو وقعت بعد إحراقه، وجاء الاختلاف على ثلاثة مواقف:
- ذهب فريق منهم إلى أن المناظرة وقعت قبل إحراق قوم إبراهيم له بالنار، ومنهم: أبو السعود، والزمخشري في تفسيريهما، ولم ينسباه إلى أحد.
- ذهب فريق إلى القول بأن المناظرة، إنما وقعت بعد إلقاء إبراهيم في النار ونجاته منها، ومنهم: الطبري في تفسيره، وابن كثير في تفسيره، وفي البداية والنهاية، وهذا الرأي منسوب إلى السُّديّ.
- فيما ذهب فريق ثالث إلى عدم الجزم بأحد القولين، وعدم ترجيح أحد الرأيين، وممن ذهب إلى ذلك الألوسي في روح المعاني، والرازي في التفسير الكبير، وأبو حيّان في البحر المحيط، والخازن والقرطبي في تفسيريهما، فقالوا واختلفوا في وقت هذه الحاجة: فقيل: بعد كسر الأصنام وقبل إلقائه في النار، وهو مرويّ عن مقاتل والربيع. وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، وهو مرويّ عن جعفر الصادق والسُّديّ.
-
القول المختار:
إنَّ هذه المناظرة قد وقعت بعد إلقاء إبراهيم - عليه السّلام - في النار ونجاته منها؛ وذلك لأنَّ أسلوب القرآن الكريم في قصة الإحراق يدل على أنه كان نتيجة تكسير الأصنام، ومحاكمته على ذلك، وليس في القرآن الكريم ما يدلُّ من قريب ولا من بعيد على أن الإحراق كان نتيجة مناظرته الملك، إذ ليس في القصة ما يدل على أن الملك استدعاه أو ناظره بعد محاكمته وقبل الحكم عليه بالإحراق، وأن هذه المناظرة كانت بعد أن نجى إبراهيم - عليه السّلام - من النار، وتعجب الملك بنجاته حيث رأى أن ذلك أمر خارق لمألوف العادات، وأنه لا سبيل إلى أخذه عن طريق البطش والقهر، وأن أحسن وسيلة لمراجعة إبراهيم - عليه السّلام - هي مناظرته لعلَّه يعود إلى رشده في زعمه، ويرجع إلى عبادة معبوداتهم والخضوع للملك، فجرت بينهما هذه المناظرة التي ذكرها الله في كتابه.
3.من هو هذا الملك؟ وما اسم مملكته؟
من هو هذا الملك الذي جادله إبراهيم عليه السّلام؟ وما هي مظاهر ملكه؟ وما هي قصة ادّعائه الألوهية؟ وما اسم مملكته وعاصمته؟ وكيف كانت نهايته؟
هذه أسئلة لا جواب عليها في القرآن الكريم، ولا في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونعتبرها من مهمات القرآن التي يجب إبقاؤها على إبهامها؛ لأنّها لم تبيّن في النصوص الصحيحة المعتمدة.
ونعلم أن هذه الأسئلة عليها إجابات مفصلة في الإسرائيليات، وأن هذه المُبهمات مبيّنة في الأساطير، فالإخباريون ورواة الإسرائيليات يقولون: الملك اسمه "نمرود"، وكان ملكاً على "بابل"، وأنَّ الله أهلكه بالبعوضة، دخلت في أنفه إلى دماغه، وكانت "تطنّ" في دماغه وتزعجه، فيطلب ضربه بالنعال ليذهب الألم.. إلى غير ذلك من الإسرائيليات.
ونتوقف في هذه التفاصيل، ولا نقول بها، ونتعامل مع الآية كما تعامل معها الصحابة رضي الله عنهم، ونفهم قصة إبراهيم - عليه السّلام - مع الملك كما فهمها الصحابة، ونسكت عمّا سكتوا عنه ويسعنا ما وسعهم، فكل ما نقوله عن ذلك الملك: إنّه كان ملكاً كافراً ادّعى الألوهية، وكان الناس يعبدونه من دون الله فتوجّه إبراهيم - عليه السّلام - إليه، وحاجّه وجادله وناقشه، وأقام الحجّة عليه، ثم أفحمه وغلبه، فكان الملك أمام إبراهيم - عليه السّلام - مهزوماً مبهوتاً.