إن المهتم بشؤون الأمة العربية والإسلامية ليحزنه ما أصابنا من ضعف واستسلام وما نعانيه من أزمات، ولعل أبرز هذه الأزمات أزمة الهوية. أما المستفيدون من هذا الوضع فلا يخفون أهدافهم الساعية إلى ضرورة تمزيق النسيج الاجتماعي للأمة وقلب الثوابت والقيم المتعلقة بالهوية، ومن بين ما استهدفوه اللغة العربية باعتبارها ركيزة من ركائز الثقافة الإسلامية؛ والعربية لغة القرآن الكريم، دستورنا ومنهجنا وشريعتنا، والإسلام قد أكسبها بعدا دينيا فعرفت ازدهارا كبيرا بحيث وصلت إلى العالمية. يقول الأستاذ Max Vintéjoux في كتابه المعجزة العربية: "الحق أن مؤرخينا قد حاولوا جهدهم أن يجعلوا من العالم الغربي محورا للتاريخ مع العلم أن كل مراقب يدرك أن الشرق الأدنى هو المحور الحقيقي لتاريخ القرون الوسطى. إن تأثير اللغة العربية قد شكل تفكيرنا بصورة كبيرة".
ورغم ذلك فلا يجوز لنا أن نغفل عن الحقائق، فما حدث من تغيير في التعليم خلق إشكالية نعيشها اليوم، فنحن نتواصل ونتعلم بغير لغتنا وسط فضاء افتراضي أكثر حضورا وتأثيرا، ولابد إذن من تحصين ثقافي خاصة في ظل الانفتاح على باقي الثقافات. فالمرء إما أن يرتمي في أحضان الثقافة الأخرى الغالبة في ضوء اعتقاده بخوائه فيذوب فيها وإما أن يتصل بثقافته وهويته عن طريق لغة ينتمي إليها كجزء من تكوينه الأساسي، في هذه الحالة هو يتعامل بوعي ويختار ما يناسبه في هذه العلاقة فيغنى ويغني.
لماذا العدوان على العربية عدوان على الإسلام؟ نسعى في هاته الأسطر للإجابة على هذا السؤال المركزي من خلال مراجعة كتاب د. عبد الرحمن رأفت الباشا المُعنون "العدوان على العربية عدوان على الإسلام" والذي ألقى فيه الأضواء على الحرب التي شنها الأعداء على لغة القرآن تارة في السر وتارة في العلن، فاستغرق في مناقشة الحجج التي أطلقها الخصوم تحت غطاء التحديث والإصلاح وكشف المقاصد الحقيقية لهذه الحرب.
الكتاب لا يتجاوز 59 صفحة وهو مقسم إلى عناوين أساسية وعناوين فرعية تتمحور حول 5 أفكار رئيسية:
1. قيمة اللغة في حفظ كيان الأمم
في العنوان الأول «قيمة اللغة في حفظ كيان الأمم»، تطرق الكاتب للُّغة بصفتها الجامع الأكبر لشمل الشعوب وأثرها في حفظ كيان الأمم، مستشهدا بالتجربتين الألمانية والأيرلندية في مواجهة التوسع الإمبريالي وكيف ساهم قادة الفكر في إحياء اللغة، فَوَرد في الكتاب عن الأديب الألماني Herder "أن اللغة هي الأساس الذي ترسى عليه دعائم الوحدة، والنواة التي تتجمع حولها الشعوب". ليتجلى ذلك الأثر في إيقاظ الشعور بالهوية والشعور ببناء المستقبل وفي قدرة اللغة على تغيير الوعي لشعوب العديد من القوميات.
فما بال معظمنا لا يخشى على لغته وثقافته ولا يهتم لواقعها في ظل "العولمة" والتي تعتبر من وجهة نظر Samuel P.Huntington أنها أيديولوجية الغرب في مواجهته للثقافات والحضارات غير الغربية للحفاظ على وضعه المتفوق والدفاع عن مصالحه التي تقدم على أنها مصالح المجتمع العالمي، فالحذر الحذر أن ننغّر بنبل مقاصد الغرب الثقافية وننسى خبث مقاصده السياسية.
2. العدوان على لغة القرآن
كما يظهر من عنوانه، يؤكد الكاتب د. عبد الرحمان اختصاص اللغة العربية بهذا العدوان لأنها لغة القرآن، فكما أسلفنا سابقا بذكر التوسع الإمبريالي، كانت تستخدم لغة المستعمِر لصهر لغة المستعمَر وذوبانها وذوبان الشخصية، وأيقن المستعمر أنه ليتغلغل في البلاد والمجتمعات لابد من السيطرة على اللغة، بترويج لغة أخرى.
وفي هذا السياق عرض الكاتب حقائق عن دور الاستعمار في تقليص التعليم باللغة العربية في الدول التي استعمرها كالجزائر، ومصر، والسودان وسوريا وبمحاربة القرآن خاصة، حيث كان الطفل يتعلم اللغة من خلال حفظ القرآن وهذه الطريقة تعمل على تطوير فكره وتزويده بمحصول لغوي هائل مؤكدا على أن أي تغيير في أسس هذه اللغة هو من حق شعوب الأمة العربية والإسلامية.
وكما يقول الكاتب ليست هذه كل الحرب التي شنها الأعداء على اللغة العربية والقرآن وإنما هي بعض الحرب. نذكر منها الدعوة الخطيرة والأوسع انتشارا وهي «إحلال العامية محل الفصحى» وبالتأكيد حجج دعاة الأخذ بالعامية موجودة، فقام الكاتب د. عبد الرحمان بالرد عليها واحدة تلو الأخرى بمنتهى التركيز والحزم فكشف زيفها مبرزا ضعف ادعاءاتهم من قدرة العامية على حل مشكلاتنا اللغوية وكأنها لم تسع حقبا من الدهر العلوم والمعارف كلها، وقد عزز هذه المكانة للعربية اهتمام أولي الأمر بها، وإعلاؤهم لشأنها، بدءا من الخلفاء في مجالسهم ومحافلهم، وانتهاء بالعاملين في مجالات الدولة المختلفة من وزراء وأمراء وكتاب. فاتسعت لفلسفة اليونان، وحكمة الهنود، وأدب الفرس ووعت أعظم ما حفل به التراث الإنساني من طب وكيمياء وغيرهما من العلوم والمعارف والفنون.
وتحت عنوان جانبي آخر «إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي» يبرز الكاتب الجدل القائم حول حججهم لأنه لو تمت الكتابة بالحرف اللاتيني فإن اثني عشر حرفا من حروف العربية ستضيع لعدم وجود الحروف المقابلة لها في الحروف اللاتينية، معلنين أنهم يهدفون إلى تسهيل اللغة العربية وتخفيفها ولكن في الحقيقة، ما هي إلا انحدار فكري لا أكثر هدفه تشويه الحروف العربية والتقليل من قيمتها.
ولما لم يتم لهم ما أرادوا عكفوا على خططهم يغيرونها فرجّحوا أن يعملوا على هدم العربية بضربات صغيرة بدلا من هدمها دفعة واحدة، فلا ننكر وجود كمّ من جيل الحاضر يحدثك بكل ثقة عن ضعف لغته الأم وعدم قدرة متكلميها ومتقنيها من مواكبة العصر الحالي.
3. لغتنا ليست ملكا لشعب بعينه
يلفت الكاتب النظر إلى أن ما حفظ للغة العربية بقاءها في وجه الحملات المستمرة المنادية بعزلها والابتعاد عليها ورغم الركود والجمود الذي اعتراها في العصر الحالي، أنها تراث العرب والمسلمين جميعا على اختلاف ديارهم وأقطارهم لأنها وعاء الفكر والمعرفة، فالتراث الغني من العلوم الإسلامية وأمهات الكتب مكتوبة باللغة العربية ومن هنا كان تعلم العربية هدفا لكل المسلمين وأَخَذَ كل عالم يبحث في مجال من مجالات اللغة وكانت نتيجة ذلك خدمة سلامة اللغة العربية وصيانتها ونمائها عبر العصور. ويؤكد الكاتب في نهاية هذا القسم بقوله أن أي تغيير في أسس هذا التراث هو من حق شعوب الأمة العربية والإسلامية كلها يوم يجتمعون...
4. تفرد لغتنا وتميزها
وتحت عنوان «تفرد لغتنا وتميزها» استكمل الكاتب الحديث عن بعض مظاهر غنى لغتنا العربية مقارنة باللغات الأجنبية كالفرنسية، فأغنى محتوى هذا القسم بذكر خصائص العربية منها سعة الألفاظ ودقة الدلالة وجودة الأمثال والبديع وفي هذا السياق يقول الجاحظ: "البديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة". فهي اللغة التي أنشأت حضارة، وأنبتت ثقافة، وكتبت آلاف الكتب في كل ضروب الصنائع والفنون والعلوم، فنحن إنما ارتقينا ونهضنا وتعلمنا بفضل اللغة العربية ومن مكتبتها نهلنا أقدم العلوم والآداب.
5. حق أبنائنا علينا
وكعنوان أخير «حق أبنائنا علينا» وجه فيه الكاتب توصياته ونصائحه بناءً على مشاهداته وخلاصاته فيما يخص الحفاظ على اللغة العربية وحمايتها والعمل على انتشارها والتمكين لها، مؤكدا على ضرورة أن نجاهد من أجلهم كما جاهد آباؤنا من أجلنا. فالعيب ليس في اللغة بل فينا، فنحن من ندفع اللغة إلى مركبة التفوق، ونحن من نعيدها إلى التردي للوراء لأن اللغة مُمارسة، فإذا ما قل استعمالنا لها فإنها تضمحل على ألسنتنا وتختفي من فكرنا ولذلك، وباعتبار اللغة العربية قضية استراتيجية في المقام الأول، تمس الأمن الثقافي والحضاري للأمة، فالمسألة في جوهرها تتطلب يقظة أشمل وأعمق، وعملا أكثر جدية وحشدا للجهود المخلصة في إطار من التنسيق والتكامل والعمل المشترك على مستوى الحكومات والهيئات والأفراد. فتصبح في غدها القريب كما كانت في أمسها البعيد خير لغة لخير أمة.