معلوم أن المؤسسات التعليمية أنشئت لغرض تعليمي لا يخفى على الجميع، تؤطره البرامج والمناهج التي تضعها الوزارة الوصية على قطاع التربية الوطنية وشركاؤها.
غير أن الفئة المستهدفة من هذا التعليم، لا يمكنها الاقتصار عليه وحده وإلا اعتبرته جحيما
"فإن اقتصرت التربية على الأساليب المباشرة من الأوامر والنواهي المصدرة ب"افعل" و"لا تفعل"، فهذا من قصورها"(1).
خصوصا إذا امتدت الدراسة مدة ثمان ساعات يوميا، لا تكاد تبقي للمتعلم إلا سويعات ليست كفيلة ولا كافية بتكوين كفاياته اللامدرسيّة أو اللاأكاديمية.
في ظل هذه الإكراهات وغيرها اهتدى أصحاب الشأن إلى تخصيص حيز للأنشطة التربوية في إطار الأندية التربوية، فصدرت ترسانة من النصوص والدلائل المؤطرة لها، مما جعلها تصطبغ بصبغة رسمية داخل الفضاءات التعليمية. وهنا يقف القارئ والكاتب على حد سواء متسائلين عن أهداف هذه الأنشطة ودورها في تكوين شخصية المتعلم، وعن العوائق التي تمرق بها وتنبو عن تلكم الأهداف؟؟
لا غرو أن نصرح ابتداء بتعدد هذه الأهداف، فلا تحيط بها أنامل هذه الأسطر، غير أنه كما يقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
إن الأنشطة التربوية تتغيا الترويح عن النفس؛ وذلك بإخراجها من طابع المقررات الدراسية الإلزامية وما تفرضه من روتين يومي، يرخي بظلاله على نفسية التلميذ، إلى أنشطة التفتح التي تفتح مواهب المتعلمين وتصقلها صقلا، فتنمو الكفايات اللامدرسية، وتتكون شخصيات المتعلمين المستقبلية وتتشكل معالمها بشكل كبير؛ فعبر هذا النوع من الأنشطة تظهر بعض مواهبهم، وتبرز جوانب أخرى من شخصياتهم؛ كانت قد ضيق عليها الخناق، بين جدران الحجرات الدراسية، وحاصرتها المقررات الرسمية.
إضافة إلى ما سبق، فإن الأنشطة التربوية تعتبر محضنا للتصدي لبعض السلوكيات الانحرافية التي ظهرت، أو توشك أن تظهر عند بعض المتعلمين؛ فكم من تلميذ كَبَحت الأنشطة التربوية سلوكا عدوانيا كان قيد الظهور في تصرفاته، وأبدلته سلوكا حسنا.
وعليه، فإنها تقوم بدور وقائي علاجي من أمثال تلك السلوكات، كل هذا تحت إطار قيمي، يهدف إلى ترسيخ القيم النبيلة النابعة من روح الشريعة، والمستمدة من القيم الكونية التي أطبقت عليها العقول السليمة، بل يمكن أن نؤكد أن الوثائق الرسمية التي تصدرها وزارة التربية الوطنية المغربية، تهدف إلى هذا التكامل السلوكي، لكن أنى لها ذلك مع مجموعة من العراقيل، ومنها المقررات الدراسية التي أضحت عائقا بقدر ما هي سبيل إلى بناء الكفايات بشتى أنواعها خصوصا الكفايات اللامدرسية.
ولعل الأندية التي يؤطرها أساتذة التربية الإسلامية قد حازت قصب السبق في ذلك، شأنها شأنَ الأندية الحقوقية والبيئية والفنية والأدبية، التي يؤطرها ثلة من الأساتذة الذين ما فتئوا يبذلون من جهدهم ومالهم ووقتهم، في سبيل إنارة درب عقول، أُريد لها أن تخبوَ وتتوقف عن الإبداع، لكن شرذمة قليلة من الأطر التربوية والإدارية تأبى إلا أن يكون ثمة جيل متشبع بكل القيم السليمة، فتمرر ذلك عبر الأنشطة التربوية، ويسهل عليهم بثها عبرها.
إذ شهدنا وسمعنا ورأينا تلاميذ كنا نحسبهم متكاسلين، فلما انخرطوا في أندية تربوية وتتبعنا مسارهم الدراسي بعد ذلك، انجلى لنا فرق شاسع بين التلميذ قبل الانخراط في الأنشطة التربوية وبعد انخراطه فيها.
وهنا تتزاحم الأحرف، فتدفعني إلى التصريح بأهداف أخرى؛ منها:
ومن الأهداف التي تتحقق بفضل هذه الأنشطة: تنمية الحس الجماعي الاجتماعي لدى المتعلم؛ ويتجلى ذلك في أنشطة التجويد مثلا، كما في حديث" مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ"(2)، وفي أنشطة المسرحة أيضا، علاوة على الأناشيد التربوية الهادفة.
إضافة إلى ما سبق، فإن هذه الأنشطة تساهم في تعزيز روح الإبداع لدى المتعلم، وهي روح لا نكاد نجد لها في الدروس الصفية إلا القليل من التوجيهات، فالأنشطة التربوية إذن تسد هذا الخصاص في هذا الجانب.
علاوة على ذلك، فتلكم الأنشطة تساهم في إيقاظ الروح الوطنية في قلبه، فيترسخ لديه حب الوطن، ولعل من أمثلة ذلك ما يقوم به أساتذة الاجتماعيات في المغرب من أنشطة مواكبة للمناسبات الوطنية؛ كالأنشطة الاحتفالية بذكرى المسيرة الخضراء، وتلك المواكبة لعيد الاستقلال وعيد الشباب وغيرها.
غير أن ما سبق، وإن بدا سَنَا بَرْقِه للأبصار والعقول، يعرقلُ تمثلَ نتائجه في الواقع مجموعة ٌمن العراقيل؛ بعضها حقيقي وبعضها متوهم.
فمن العراقيل التي لا تخفى إلا على من أبى، ضعف الموارد المالية واللوجستيكية التي تعاني منها مؤسساتنا التعليمية، فماذا ستغني دراهم معدودة مخصصة للحياة المدرسية في أنشطة ذات نفع عام، وأغلبها من جيوب أولياء المتعلمين. بل الأدهى والأمَرُّ أنك تجد مؤسسات لا تتوفر على العاكس الضوئي أو تجده معطلا، وإن وجدت قاعات متعددة الوسائط فتجدها محجوزة مغلقة أشد الإغلاق خوفا عليها، وكأنها جهزت من أجل الإغلاق. إنها طامة كبرى من حيث التجهيزات اللوجيستيكية التي تحتاجها الأنشطة التربوية لتحقق بعضا من تلكم الأهداف التي ذكرنا أعلاه.
يضاف إلى ذلك العائق عائق آخر - هذه المرة - بشري، فالأستاذ المشرف على النادي لابد أن يتم تعويضه على مهامه، كي يتحفز هو أيضا للإبداع، وإلا فتطوعه لا يدوم، وستحترق شمعته قبل أن تشعل شموع متعلميه، وما مذكرات الأستاذ الرئيس التي خرجت علينا بها وزارة التربية الوطنية بالمغرب عنا ببعيد، فالمشروع كبير، لكن نجاحه يكاد يكون منعدما، نظرا لعدم تخصيص عدة بيداغوجية تربوية تساعد المشرفين على هذا الورش التربوي المهم، ونظرا لغياب التحفيزات المالية - كما تقدم - للأطر المشرفة عليه من هيئة التدريس خصوصا.
كما أن فضاءات الاشتغال في كثير من الأحيان، تحتاج إلى إضفاء لمسة أخرى، تُخرج المتعلم من الحجرة، وما عهده عليها، إلى فضاء آخر يفتح شهيته وفكره للإبداع والانعتاق من سلطة: "افعل" و"لا تفعل"، "قل" و"لا تقل". نعم إن الفضاء مؤثر، وللأسف كثير من أنشطتنا في المؤسسات التعليمية إما تكون في قاعات الأكل أو قاعات الأساتذة، وأحيانا أقساما دراسية عادية، ونادرا في قاعات مخصصة للأنشطة التربوية...
ولا أن أنسى هنا حاجة المتعلم إلى محفزات مادية أو معنوية تجعل المتعلم ينخرط في هذه الأندية، أو تلك الأنشطة التربوية بطواعية وعن حب، ونحن نعلم ما يفعله حبها من طرفه فيخرج لنا منهم ما خفي، فننبهر بإبداعاتهم باعتبارنا مشرفين على الأندية قبل أن ينبهر بها الجمهور المتابع.
وقبل أن يجف القلم، أنبه على عائق مهم، لا نكاد ننتبه إليه، مرتبط بأولياء المتعلمين، الذين يظن بعضهم ظن السوء بهذه الأنشطة فيعتبرونها هدرا للزمن المدرسي، وإشغالا للتلاميذ بما لا ينفع، وإلهاء لهم عن دروسهم.
وعليه، يكون مسك الختام، بالدعوة إلى دعم هذه الأنشطة والرفع من القدر المالي المخصص لها، وعقد شراكات مع فاعلين عندهم الرغبة في خدمة المتعلم، مع التخلي عن تلكم النظرة الخاطئة التي تَخَالها هدرا للوقت والزمن المدرسي، والواقع أنها -على العكس من ذلك- محطة أخرى لا يستغني عنها المتعلم في تكوين الكفايات المدرسية واللامدرسية، في إطار استعداده لتحمل المسؤولية الحقيقية فيما بعد.
ولا أخفيك أيها القارئ الكريم أنه خلال تجربتي في التدريس التي جاوزت العقد من الزمن عاينت فيها وتتبعت حالات كانت متفوقة في تحصيل المعدلات الدراسية لكن بعد زمن وجدتهم يتخبطون في الجامعة أو بعدها لا يكادون يظفرون بعمل لائق بمستواهم، وبعد تساؤلات عدة وتواصل مع بعضهم بدا لي غياب بعض المهارات اللامدرسية التي ضيعوها أو غفلوا عنها إبان انكبابهم على التحصيل الدراسي، فمضى الزمن وانصرم عهد اكتساب بعضها، فلما اجتازوا اختبارات التوظيف أو اختبارات الحياة لم يواجهوها بالعدة اللازمة من الكفايات اللامدرسية، فمنهم من يندب حظه ومنهم من استدرك وحاول إنقاذ المسار. وعلى العكس من ذلك درس عندي تلاميذ متوسطون في المستوى لكنهم كانوا كثيري الانخراط في الأنشطة الموازية التي تنمي مهاراتهم فواصلوا السير بتوازن بين ما هو دراسي وما هو حياتي، فنجحوا أو يكادون ينجحون.
فلا مناص إذن من الانخراط الإيجابي في هذه الأنشطة التربوية، وتخصيص وقت مناسب لها، وما نظام الأنشطة التربوية في بعض الدول الرائدة اقتصاديا عنا ببعيد.