العقليّة التي يبنيها القرآن الكريم من خلال تقريراته للقضايا والأمور، عقليّة رصينة؛ تتسم بالعلميّة والموضوعيّة، تقوم على الحجّة والدليل والبرهان، وتبتعد عن الهوى الشخصي والظنّ والتقليد، إذ تتبنّى النظر والتحليل والتفكير والنظر، منهجاً أساسّاً لتكوين المعتقدات والحكم على المسائل والقضايا.
ثمّ إنّ القرآن الكريم لم يكتفِ بتكوين هذه العقلية الموضوعية، بل بنى نسقا واضحا للعقلية المرفوضة، ليحذر الناس منها، وقد كان محور العقلية التي يرفضها القرآن الكريم هو فرعون، فاتسمت شخصيته باتباع الأهواء والحكم على الأشياء من غير برهان واستخفاف الناس وكثرة الحديث عن المؤامرة وغيرها مما يرفضه القرآن.
يصور القرآن الكريم للبشر عقليّة ذلك الظالم المستبد الطاغية، بأدقّ التفاصيل، وأوضح الطرق، حتّى يتجنّبها المسلم في تفكير وطرق محاكاته للقضايا والأمور، وينبه الناس إلى أن متبع هذا الطريق يحظى بالخسران وبغضب الله في الدنيا ويصلى ناره يوم القيامة. فما ملامح العقليّة الفرعونية، التي حذّر منها القرآن الكريم؟
للوقوف على عقلية فرعون لا بد من استقراء مواضع قصة موسى عليه السلام مع فرعون مصر، حيث يقف المفتش في القرآن الكريم على بعض الصفات الأساسية تشكل مبادئ العقلية الفرعونية وملامحها.
1-الاستبداد بالحق:
قال الله تعالى على لسان فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ ففي هذه الآية يبين لنا القرآن أن العقلية الفرعونية لا تحتمل الرأي الآخر، ولا النظر من زاوية غير زاوية الفرعون، لأنّ في ذلك الضلال المبين، والتيه المؤكّد، إذ إنّه يصوّر لأتباعه، ومن يستمع له، أنّ الحقّ كلّ الحقّ معه، ولا يمكن أن يكون الحقّ خلاف ذلك، كيف لا؟ وهو يعتقد أنّه أعلمهم وأفهمهم وأذكاهم؟!
2- الاستخفاف بالناس:
تعالى متحدّثاً عن فرعون: {فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاٰسِقِينَ} في هذه الآية يبرز جانب آخر للعقلية الفرعونية، إنها تستغل جهل الناس وخفة عقولهم لتحريكهم وفق رغبات الفرعون. ويمكن للإنسان أن يستشعر في هذه الآية الكريمة كم التكبّر والتعالي عند من يمتلك هذه العقليّة، وكما يذم القرآن فرعون فإنه يشنّع أيضا على التابع الذي يخضع لحكم الطاغية وتكبره على خلق الله، قال الله تعالى عن الأتباع: (إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين)
فاسقين لأنّهم لم يطيعوا الله تعالى إذ أمرهم بإعمال عقولهم، وعدم الاتباع الأعمى الذي اعتادوا عليه،
فاسقين بخروجهم عن أمر الله في النظر والتأمّل، والتفكير في كلّ ما يعرض عليهم، ومحاكمته بالدليل والبرهان والحجّة. وعلى النقيض من عقلية عبيد الفرعون يبني القرآن عقلية المؤمنين به، عبر إثبات الحق بالعقل والفكر وفق الدليل والبرهان، بعيداً عن اتباع الآباء والأجداد والسادة والكبراء، وبعيداً عن التقليد الأعمى الذي ينزل بالإنسان عن بشريّته.
3- استخدام القوة لإخضاع الناس:
قال الله تعالى متحدّثاً على لسان فرعون:
{قَالَ: ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ؟ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. وهنا يبرز جانب آخر للعقلية الفرعونية، ويتمثل بالوصاية على عقول الناس، فهم كلّهم جهلة وضعيفو نظر، وهو الوحيد الذي يعرف الحقّ من الضلال والصحيح من الخطأ، لذلك تراه يختار للناس، ويفكّر عنهم، ويقرّر عنهم، ويعطي لنفسه الحق في السيطرة على اختياراتهم وقراراتهم، في حين أنّ الله تعالى ينبه نبيه وهو أكرم الخلق وأعقلهم، أنه لا سلطة له على عقول البشر، قال الله تعالى: {فذكر إنّما أنت مذكّر. لست عليهم بمسيطر}.
وتبعا لاعتقاد الوصاية على عقول البشر يشنع الفرعون على من يخرج عن إرادته وسيطرته، فيرميهم بتهمة العمالة والخيانة والتآمر مع السحرة أو غيرهم، بمجرد شعوره بتحررهم من براثن سيطرته، بل حتّى يصل به هذا الشعور الأصيل في نفسية الفرعون النرجسية إلى الإيذاء اللفظيّ والجسديّ، والحكم على المتمرّد عليه، بالقتل الفوريّ، بلا محاكمة ولا مماطلة، حيث قال: {قَالَ: ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ، ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
4- إسقاط الخصم بدل إسقاط الحجّة:
يحدّثنا القرآن الكريم عن صفة أخرى لهذه العقليّة، وهي التهرّب من النقاش العلميّ المبنيّ على الحجج والبراهين والأدلّة والعلم، إلى كيل التهم للخصم، وإشغال الساحة عن الفكرة والمسألة المراد بحثها تارة، وتارة أخرى تقوم هذه العقليّة بالتهديد بالتعذيب والقتل، وجميع أشكال الإهانة والإيذاء، قال الله تعالى متحدّثاً على لسان فرعون، عندما خاطبه موسى عليه السلام بالحجة والبرهان: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، هنا يريد فرعون أن يوهم الناس بأنّ هذا الذي يتكلّم الآن هو قاتل مجرم، ناكر للجميل والمعروف الذي قدّمناه له، بل إنّه فارّ من القانون، متمرّد على المجتمع، وهذا ما بات يعرف اليوم بـ (اغتيال الرسول)، أي إسقاط حامل الرسالة والمتكلّم، بغضّ النظر عن مضمون رسالته، والفكرة التي يتحدّث عنها.
وإنّ المتمعن في كثير من أحاديث المستبدين المعاصرين وحتى آحاد الناس، يجد تجليا واضحا لهذه الصفة في تعاملهم مع المخالف لهم، فأيّ فكرة لا تعجبهم أو لا يستطيعون ردّها بالعلم والحجّة، يختلقون لها الأعذار، ويكيلون التهم لقائلها، حتّى يسقطوه بين الناس، ويصرفوا أنظار الناس عن أصل الفكرة. ولتنفيذ هذه الخطة ثمة سبل مختلفة منها ما قاله فرعون مخاطباً بني إسرائيل: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}
وقال الله تعالى على لسان فرعون مخاطباً قومه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
وهنا يحاول صاحب هذه العقليّة المتخلّفة إسقاط حامل الفكرة مرّة أخرى بوصفه مجنوناً أو ساحراً، أو أيّ شيء تزيّنه له عقليّته المستبدة، بغية إشغال الناس عن الفكرة الأصليّة التي يجري حولها النقاش. لتهافت منطق الفراعنة فإنهم يهربون من النقاش العلمي إلى العمل على التهديد عبر الأمر والنهي: {قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ} فقد حاد الفرعون عن النقاش العمليّ، وانتقل إلى التهديد بالسجن والتعذيب، بدلاً من الحوار الرصين الذي يتّخذ من البراهين منهجاً لطريقة تفكيره.
5- احتقار المعارضين والاستهزاء بهم:
قال الله تعالى على لسان فرعون، متحدّثاً عن نبيّ الله موسى ومن معه: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) وهنا يحاول فرعون أن يصوّر للناس والعامّة أنّ المخالفين لرأيه ومعتقده مجرّد شرذمة قليلة لا يلتفت إليها البتّة، وهذا شأن من يفكّر وفق هذه العقليّة المريضة، التي ترى أنّ كلّ من يختلف معها، أو يعارض أحكامها، هم مجرّد عدد قليل لا يليق بهم إلا الاحتقار والاستهزاء، على عكس العقليّة التي دعا إليها القرآن الكريم، التي تقرّر التواضع العلميّ مع الخصم والمحاور، والوقوف معه على أرضيّة واحدة تكون منطلق النقاش والحوار، قال الله تعالى: ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وقال في موضع آخر: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
هذه عقليّة المسلم المتتبّع للعلم والحقّ، يسمع من المخالف، ويفسح له المجال حتّى يتحدّث ويعرض أفكاره وبراهينه، ثمّ يدحض الحجة بالحجّة، والدليل بالدليل، وهذا أساس النقاش العلميّ الهادف.
6- الاعتماد على التهويل والإعلام المضلّل لحجب الحقّ:
واستخدام القوّة والمنصب والسطوة بدل الإقناع والحجّة والبرهان: قال الله تعالى: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)) (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)) وقال تعالى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)
في هذه الآيات تبرز ملامح أخرى للعقليّة الفرعونيّة وهي حشد المناصرين والأتباع من خلال الإغراء بالمال تارة، أو بالإرهاب والتخويف تارة أخرى، ليظهر للناس أنّه صاحب السواد الأعظم، والأغلبيّة الساحقة، التي كاد أن يجمع عليها الناس، لولا هذه الشرذمة الصغيرة التي تعترض عليه، وتحاول شقّ صفّ الناس، وتشتيت جمعهم وكلمتهم!
وفي الحقيقة ما أجمل تشتيت صفّ الباطل، وتفريق جمعهم وكلمتهم، وما أحلى تقديم النصح والبيان للناس بالحكمة والموعظة الحسنة. فهنيئاً لمن وفّقه الله لنصرة الحقّ والحقيقة، وتمزيق الباطل والجهل والتخلّف.
وقال الله تعالى: ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)
وقال أيضاً (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)
وهذه حال من تقصّر به حجّته ويخذله البرهان والدليل، من أصحاب هذه العقليّة العقيمة، التي لا ترى الإقناع إلا بالبطش والمال والقوّة والغطرسة، والإبهار بالممتلكات والزخارف، التي تقنع كلّ صاحب بصر، ولكنّه أعمى البصيرة..
كيف لا يستعمل صاحب هذه العقليّة هذا الأسلوب الماكر الخبيث في الإقناع، وهناك الكثير من ضعاف النفوس والتفكير، في كلّ زمان ومكان، وعلى مرّ الدهور والعصور؟!
صاحب هذه العقليّة الخبيثة لا يمكن أن يكون غبيّاً أو ساذجاً، بل هو داهية وماكر، ولكنّه ضلّ عن طريق الحقّ، وتاه في بحر الظلمات، وبعد عن سبيل الرشاد، وأضاع الصراط المستقيم. هذا الصراط الذي طالما رغب به المسلم في حياته.
هذه بعض الملامح التي حاولت أن أتلمسّها من خلال النظر في الكتاب المبين، ولا أدّعي أنّني جمعت الملامح كلّها، كما أنّني لا أزعم أنّ ما كتبته هو قطعيّ ويقينيّ، بل هو محض تأمّلات، وتفكّر واجتهاد، في فهم عقليّة هذا الطاغية، وطريقة تفكيره، وأساليب مكره وظلمه.
الغاية التي أسعى إليها، والهدف الذي أريده من هذا كلّه، يمكن تلخيصه في أمرين اثنين:
1-اتباع أوامر القرآن الكريم، في تشكيل العقليّة العلميّة التي تهتدي بالدليل والبرهان، والنظر والتفكّر، وتنبذ التقليد الأعمى للآباء أو السادة والزعماء، كما ترفض اتباع الهوى والتخمين والتكهّن.
2-الحذر من العقليّة الفرعونيّة التي تقوم على تقديس نظرة الفرد الأوحد، والبعد الواحد، وفرض الوصاية على الناس، وسلبهم حرّياتهم وقراراتهم، كما تقوم على خداع للناس والكذب عليهم، واحتقار واستصغار الخصم وشيطنته، ومحاولة إسقاطه، بدل إسقاط حجّته ودليله.