"إن دخول السوق العالمي لمكان ما يصحبه تحول في الثقافة والهوية وأساليب الحياة في هذا المكان".
هذا ما خطه كيفن روبنس أستاذ علم الاجتماع بجامعة لندن في ورقة بعنوان "التقاليد والترجمة". فالعولمة إذن مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية والسلوكية للأفراد، لكن ما علاقة هذا برمضان؟ أو حتى بالكريسماس الغربي؟
عيد بلا دين
في القرن التاسع الميلادي بدأ الاحتفال بميلاد المسيح لا على الصورة الحالية إنما في حده الأدنى الذي تطور بمرور القرون، شجرة الميلاد ثم تبادل الهدايا ليصل الأمر في القرن التاسع عشر إلى ما يسمى بسانتا كلوز. في مراحل كان المشترك بينها تخفيض جرعة الدين وعلمنة العيد بتخليصه من مضامينه الدينية شيئا فشيئا.
لقد تحول وانتقل من مدار الدين إلى مدار الثقافة ومن احتفال بالمخلص إلى بحث عن الخلاص في سوق الهدايا والمناسبات، بما جعله يتسم بالاستهلاك التنافسي، فلا شيء يزاحم قداسة السوق، والأرقام خير دليل، حيث أن ألف مليار دولار هو مقدار ما تبيعه الشركات الأمريكية في فترة الأعياد، ويتضاعف متوسط إنفاق العائلات وتتفاوت الحالات بين مستدين أو بائع ما لديه لأجل اللحاق بالركب، وتعريف كل هذا في كلمة: التسليع، إنها عملية تحول كل الأنشطة الإنسانية إلى سلع، فالمقدس هنا صار سلعة تباع وتشترى تقديسا لنزعة الشراء.
إنسان الاستهلاك
النظام النيوليبرالي يخفي بنيته القهرية وراء الحريات المشاعة لآحاد الناس الذين بدورهم لا يدركون تحولهم إلى ذات مستعبدة في طريق سعيهم لتحقيق ذواتهم، خاصة مع استبدال "يجب" ب "تستطيع" في خضوع لحتميّة أنّنا قادرون على فعل شيء ما.
إن أول حضور لرأسمالية الاستهلاك يتجلى ظاهرا في العلامات التجارية، الإشهار، التعليب، والإنتاج المتسلسل، لكن كل هذا لم يكن كافيا فمجتمع الإفراط في الاستهلاك يقوده الإنسان الاستهلاكي، وهو كما يعرفه الحائز على درجة الأستاذية في الفلسفة وأستاذ جامعة جرونوبل جيل ليبوفيتسكي:
"إنه شكل للفردانية المفرطة، إنه مستهلك مُقلِع عن ثقافات الطبقة، ويبحث عن المتعة، وعن التجربة، وعن المشاعر، أكثر من بحثه عن المكانة الاجتماعية، لكنه مستهلك قلِق وخائف".
إن الثقافة الجماهيرية تُعيد اليوم تعريف الواقع وتجعل من غيرها شكلا داخل قالبها، فقد انتهت فترة تحديث الاستهلاك (أو الاستهلاك الحداثي). ونحن ندخل في عصر الاستهلاك المُتَعيّ والتجريبي.
والناظر في تاريخ النزعة الاستهلاكية لا تخطئ عينه قصص تحطيم عوائق الحريات المنفلتة، ما يضبط الرغبة ويهذب مبدأ اللذة لابد أن ينحى من طريق الاستهلاك والتسوق، فلم يعد الأمر يتعلق بتوفير الحاجات مهما كانت ضرورية إنما دافع هذا النشاط رغبة وكينونة متمحورة حول ذاتها لا تحتاج معها إلى تسويغ ولا علة.
في سباق الاستهلاك يتحرك خط الوصول بسرعة تجاوز أسرع العدائين رغم ذلك نبقى في السباق ما دمنا نتسوق هنا وهناك متجاوزين المحال التجارية والأسواق الشعبية أي معابد الاستهلاك بتعبير جورج ريتزر إلى التسوق عند اليقظة أو المنام.
رمضان.. ما العلاقة؟
ما تقدم من استطراد مقصود بالأصالة بسبب مجتمع الاستعراض أو الفرجة كما يسميه جي دوبور والذي يمثل القيمة التي تحرك عالم الأشياء في فضاء الرأسمالية، كل شيء يدور حول الصورة التي يرسمها المجتمع للفرد ويغذيها الاستهلاك والاستهلاك فقط.
أو يمكن القول أنه الإغراق الثقافي أي إشباع السوق بالمواد الثقافية التي تنتمي لمكان آخر.
لا يغيب عنا أن نزعة الشراء والاستهلاك تتعاظم مع دنو شهر رمضان فينتقل المستهلك من النمط العادي إلى نمط الإفراط، وتغيير في المفاهيم والممارسات وتطبيع مع الأسس الفلسفية للسوق، النزعة الفردانية، العولمة ونزعة الاستهلاك هذا بعض ما يصار إليه.
يستشري نهم استهلاكي لدى عامة الناس، وجديد أدوات المطبخ وزينة المنزل على قوائم الضروريات التي يُستعد بها لشهر رمضان، المواد الغذائية قصة أخرى، إسراف واشتهاء لكل ما يمكن أن يؤكل.
تقول التقارير أن معدل إنفاق الأسر العربية يتضاعف في رمضان فيتجاوز سقف الحاجة والميزانية، نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي أيضا أرقامه صادمة، بعض الدول العربية تستهلك خمس إنتاجها السنوي في شهر يفترض أنه للترشيد والاقتصاد!
رمضان.. كما ينبغي
الأصل أن هدوء النفس البشرية في رمضان لتقلص فضول الطعام والشراب والنكاح بالصيام، وتقلص فضول الخلطة والكلام بالاعتكاف، حقيق بتدبر الغاية منه والمقصد من تشريعه، فما ترسمه مجموعة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة حول الشهر الكريم وصيامه، هو تشديد على أن رمضان مناسبة للتدرب على التحكم في النفس، وضبط نظام الحياة الشخصية، توجيها للحياة وجهة تقلل من المساحة المتاحة للبدن واحتياجاته، تطويعا لسلطان العادة ومفاصلة لنمط الاستهلاك الغربي.
فالصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جوِّ الحضارة المادية التي تسود العالم. فهي كما قال محمد الغزالي رحمه الله: "تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر!"
فمتى يستعيد المسلم وجهته في تقييد الشهوات -ولو إلى حين- وتأديب هذا البدن المدلَّل امتثالا لأوامر رب العالمين؟