استضاف عمران الحضارة في برنامج رواء الأستاذ أحمد القاري من المغرب في جلسة عنوانها "كيف تشكل اللغة هويتنا الحضارية؟" وذلك بتاريخ 30 دجنبر 2021؛ تقرؤون فيما يلي نص الحوار كاملا.
الأستاذ شمس الدين حميود:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحييكم وأرحب بكم في حلقة جديدة من حلقات رواء. حلقة اليوم سنستضيف فيها الأستاذ أحمد القاري من المغرب، كاتب في مجال السياسة اللغوية ولغات التدريس، ومؤلف كتاب "اللغات الحية.. كيف تعامل الشعوب لغاتها" لنتحدث ونستفيض في الحديث عن موضوع سؤاله الرئيس هو: كيف تشكل اللغة هويتنا الحضارية؟ أهلا وسهلا أستاذ أحمد.
الأستاذ أحمد القاري:
أهلا بك.. شكرا جزيلا على الاستضافة، وأهلا بكافة المتابعين؛ بارك الله فيكم.
اللغة: أي علاقة لها بالهوية؟ ولماذا تتموقع خارج الحسابات النفعية؟
الأستاذ شمس الدين حميود:
الله يبارك فيكم، سعداء جدا بهذه الاستضافة، بداية قبل أن نتوجه إلي الأستاذ بالأسئلة، نقول أن علاقة الهوية باللغة علاقة جدلية، تفاعلية، فليست اللغة أداة للتعبير فقط، ولا وسيلة للتواصل بين الأفراد فقط، ولا شأنا من شؤون العلم والثقافة والتدريس فقط أيضا، ولكنها شأن من شؤون الهوية والأمن القومي والسيادة الوطنية والاستقرار الاجتماعي والنفسي. واللغة أيضا هي مؤلف رئيس من مؤلفات الهوية في كل بلد أو وطن أو أمة، وهي أيضا الناطق الرسمي بلسان الهوية ووسيلة إدراك العالم وتصنيف المجتمعات. في هذا السياق يقول الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.)، فحول هذا سندندن مع الأستاذ أحمد القاري، نبتدؤه بسؤال حول علاقة اللغة بالهوية، وهل اللغة هوية أم الهوية لغة؟ ومن منهما متضمن ضمن الآخر أو وعاء الآخر؟
الأستاذ أحمد القاري:
اللغة مكون أساسي من مكونات الهوية. الهوية تتكون طبعا من عدة عناصر، لكن اللغة في صلب عناصر الهوية، وهذا أمر تدركه البلدان والشعوب وتتصرف على أساسه. لذلك نجد عددا كبيرا من دساتير العالم ينص بشكل واضح أن اللغة الرسمية محددة، وعلى النقاط الرئيسية للسياسة اللغوية، كما نجد أن هذا الأمر منظم بالقوانين على المستوى المركزي في الدول، القوانين التي تصدرها البرلمانات لحماية اللغة الوطنية أو اللغة الرسمية باعتبارها المكون الرئيسي للهوية، وباعتبارها أمرا غير خاضع للحسابات النفعية.
يعني لا يقولون لغتنا صعبة ومعقدة، ولغتنا قليل من يتحدثها، وتوجد لغة أخرى ربما تنفعنا في العلوم أو تفيدنا في الانفتاح، هذه معطيات وعناصر لا يتم أخذها بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بتحديد اللغة الرسمية وبحماية اللغة الرسمية، لأن الهوية ليست أمرا يمكن التصرف فيه أو التعامل معه بطريقة نفعية براجماتية باردة كما هو شائع عندنا للأسف.
من الأوهام اللغوية الشائعة الظن أن كل شعوب العالم تنظر إلى اللغة الأجنبية -خاصة اللغة الإنجليزية وبعض اللغات الأوروبية الأخرى- باعتبارها ميزة ضرورية لكل شخص، أو أنها تصرف الجهد والموارد والوقت على تعليم اللغات الأجنبية على نفس النحو الذي نقوم به، فالمقدم عند الشعوب هو لغتهم.
عند الصينيين المهمة الأولى للمدرسة هي تعليم الطفل الصيني كيف يجيد اللغة الصينية المعيارية، والصينية المعيارية نسبة قليلة من الصينيين تتحدثها في البيوت، لكن المهمة الأساسية للمدرسة هي أن تغمس الطفل -التلميذ- منذ مرحلة ما قبل الابتدائي أو مرحلة روضة الأطفال.. أن تغمسه في اللغة الرسمية حتى يحسن قراءتها وكتابتها على رغم ما فيها من تعقيد، على رغم أنها لغة ليست فيها حروف. هم لا يقولون لغتنا ليست لها حروف أبجدية وبالتالي ينبغي أن نستعيض عنها بسواها، هذا الأمر ليس مطروحا البتة. كذلك الأمر في اليابان، اللغة معقدة جدا، فيها الكتابة الصينية إضافة إلى نظامين كتابيين آخرين. الذي جرى في اليابان مثلا هو أن التركيز على ضرورة إجادة الطفل للغة اليابانية جعل الوقت المخصص للغة الأجنبية قليلا جدا، وبالتالي في المستوى الرابع الابتدائي يخصصون خمس وثلاثين ساعة في السنة -أي أقل من ساعة في الأسبوع- للغة الإنجليزية، لأن كل زيادة في حصص اللغة الإنجليزية يمكن أن تأتي على حساب اللغة اليابانية، وهذا أمر لا يمكن التسامح معه البتة. ويمكننا التعلم من تجارب العالم أن اللغة في الحقيقة هي الهوية، بمعنى أنها هي المكون الرئيسي الأول أو واحد من المكونات الرئيسية للهوية. وفي حالتنا -الناطقين بالعربية- وفي حالة المسلمين عموما اللغة العربية مكون له بعدان بعد لغوي وبعد ديني أيضا باعتبار اللغة العربية لغة القرآن الكريم ولغة حديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهي اللغة التي قبل المسلمون في العالم بأجمعه أن تكون لغة عبادتهم ودعائهم وصلاتهم ومناسباتهم الدينية.
فبالنسبة لنا الأمر أشد من الحالة الصينية ومن الحالة اليابانية ومن الحالة الإنجليزية ومن سائر الحالات بسبب هذين البعدين، يعني التداخل بين البعد اللغوي الصرف والبعد الديني، البعد الذي رفع العربية إلى أن تصبح في مكانة أعلى من أن تكون لغة قوم أو لغة شعب محدد أو لغة عرق إلى أن تكون لغة عالمية، لأنها ارتبطت بكتاب الله المنزل هداية للعالمين، وبهذا الدين الذي هو رحمة للعالمين جميعا.
الأستاذ شمس الدين حميود:
دكتور وأنت تحدثنا عن محورية وأهمية هذه اللغة خاصة مع ما تختص به عن سائر اللغات من حيث أنها تجمع بين أنها تحتوي فيها خصوصية اللغة وأيضا خصوصية الدين مما يستوجب اهتماما وعناية وحرصا أكبر من بقية المجتمعات واللغات، قد يتساءل البعض ويقول: ما هو دور اللغة في تأصيل جذور الهوية في سبيل الوصول إلى واقع بعيد عن التماهي مع الآخر واتباعه في كل شيء، فتفرض اللغة نوعا من المفارقة تجعل للإنسان فيصلا بينه وبين الآخر؟
الأستاذ أحمد القاري:
هي اللغة بطبيعتها المميز الرئيسي للثقافة لأنها مرتبطة بمجموعة أمور:
اللسان، اللكنة، المجاز، الأمثال، الحكايات، القصص، الشعر، الموسيقى.. لذلك البعد اللغوي حاضر في الثقافة وله عنصر محلي دائما حتى في اللغة الواحدة، حين نتحدث عن العربية هناك مشترك والعربية الفصحى التي لن تحتاج إلى أن تكون لها هيئة تنظم أمرها، ولا هيئة رسمية تتولى شأنها، وإنما يكفيها أنها مرتبطة بالقرآن الكريم؛ فالمسلمون يتواضعون على حفظ اللغة العربية على أصولها وكما كانت يوم نزل القرآن الكريم، مع طبعا إضافة كلمات جديدة والتغييرات التي تحدث على أنظمة الكتابة أو ما إلى ذلك. لكن داخل العربية نفسها هناك تعدد لغوي واسع ذو طابع محلي، وهذا الذي يعطيه عنصر المحلية ميزة مهمة، تجد الشخص يجيد لهجة من لهجات اللغة العربية التي هي بالمناسبة قريبة جدا من العربية عامة. لذلك اللهجات مفهومة بشكل عام، لا نحتاج لمترجمين. وإن اجتمعنا مجموعة من الأشخاص من بلدان مختلفة في مكان واحد. فهذا البعد المحلي.. هذا العمق لا يمكن للإنسان أن يكسبه إلا بلغته الأم.. اللغة التي يتحدثها بشكل مستمر، لأنه سيكسب فيها معاني محلية.. أمثال.. قصص.. أمور مرتبطة بالنباتات المحلية.. مرتبطة بالعادات.. بالتاريخ. فحتى لو أجاد شخص لغة أجنبية لنقل مثلا اللغة الإنجليزية، فهو لن يكون أبدا يتحدثها مثل أهل لندن لأن عندهم ذلك العنصر المحلي، ولا مثل أهل يورك لأن عندهم عنصر محلي من لكنة وغيرها.
لذلك ما يحدث أحيانا من استبدال بعض الناس لهويتهم العربية، باعتبارهم ناطقين بالعربية، بلغة أخرى بدعوى أن تلك اللغة لغة عالمية هم يفقدون العمق الثقافي المحلي الموجود عندهم أو عند أبنائهم، ولن يكسبوا العمق الثقافي الآخر، لأنه أنت ناطق بالإنجليزية من أي بلد؟ من أي مكان بالضبط؟ من أي قرية أو من أي مدينة؟ فتكون معرفتهم باللغة الأجنبية سطحية، ويكونون قد تخلوا عن معرفتهم باللغة العربية فتكون خسارة كبيرة جدا.
لذلك يتسم هؤلاء بالسطحية ويعوضون هذه السطحية بشيء من الغرور والتعالي والتكبر على الآخرين ومحاولة إظهار هذه البطاقة.. بطاقة إجادة اللغة الأجنبية باستمرار، يعني يدخل في كلامه كلمات أجنبية دون داعي كأنه يريد التنبيه إلى تميزه بشكل مستمر، وهذا في الحقيقة شيء مضحك ومؤسف وصاحبه يجب أن يكون محل أن نشعر بالشفقة تجاهه. وأظن هذا هو السلوك الذي سيتجه إليه المجتمع الناطق بالعربية.. ستتجه إلى أن تتعامل مع من يستخدم لغات أجنبية في غير محلها كما تفعل المجتمعات الأخرى، كما يفعل مجتمع مالطا الصغيرة الذي يتحدث لغة متفرعة عن العربية. منذ السبعينيات حدث تغيير اجتماعي في مالطا بحيث لم يعد مقبولا أن يتحدث المالطي إلى المالطي باللغة الإنجليزية. أصبحوا ينظرون إلى ذلك على أنه نوع من التصنع أو نوع من الغرور، حتى أنه مبتذل، حتى أنه إساءة إجتماعية؛ فاختفت تلك الظاهرة وصار المالطيون يتحدثون إلى بعضهم باللغة المالطية في كل الأحوال والوضعيات.
سياسة التحقير اللغوي.. نهج فرنسا للتسلط اجتماعيا على المحلي وإشعاره بالدونية
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، ذكرت نقطة مهمة جدا، من يدقق نظره يلحظها في من ضربت فيهم المثل، وهي قضية أن نشك في كل عربي لا يحسن لغته الأم، وهذا الأمر له أصلا في بحث علاقة اللغة بالفكر في علم الفلسفة. أحيانا لا يمكن أن تجرب شابا عربيا يلوك لسانه أو فاه بلغة الأعاجم إلا ووجدته كاسدا في عقله ولا يملك من الزاد إلا قليلا، لكنه رغم هذا يتقعر بلغة الأجانب دون حاجة إلى ذلك. قد يُتفهم لو فرض عليه السياق والحال والظرف أن يتحدث بها، لكن في غير محلها أراه يسارع إلى هذا الإبراز للغة الآخر.
الأستاذ أحمد القاري:
هذا سليم أخي شمس الدين، هذا واضح، هي ظاهرة استخدام اللغة الأجنبية دون داعي واعتبارها بطاقة تميز ورقي اجتماعي متفرعة عن ممارسة قامت بها فرنسا في فرنسا نفسها للقضاء على اللغات الجهوية. فرنسا عندما قامت الثورة كان ربع السكان يتحدث بلغة باريس، أو ما يسمى الآن باللغة الفرنسية، وكان ثلاثة أرباع يتحدثون لغات كثيرة أخرى.. الأوسيتانية والألزاسية والبريتانية والكورسيكية والباسكي وغيرها؛ فعندما قرروا أن يجعلوا اللغة الفرنسية الباريسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في التعليم والإدارة والعبادة والقضاء وسائر الأنشطة مارسوا سياسة عرفت لاحقا بالتحقير، حقروا اللغات يعني ربطوها في ذهن المتحدثين بها بالفقر والوسخ والدونية والضعف والمرض، وربطوا لغة باريس بكل ما هو راق.. بالقوة.. بالحضارة.. بالثروة.. بالسلطة، ثم نجحت هذه السياسة في فرنسا وتم القضاء على اللغات الجهوية قضاء تاما، الآن لغة الجمهورية هي اللغة الفرنسية فقط. لاحقا، مارسوا نفس الشيء في كل المستعمرات التي استعمروها، حقروا اللغة المحلية وطبعا اللغة العربية هي لغة أغلب المستعمرات الفرنسية إما لغة أولى للمجتمع، أو لغة ثانية مستخدمة في الكتاتيب القرآنية وفي العبادة وفي التعليم وفي القضاء وفي الكثير من الأنشطة وسائر الدول الإفريقية التي استعمرتها فرنسا. فحقروا اللغة العربية، يعني هذه سياسة خطيرة جدا، وربطوا اللغة الأجنبية بكل ما هو جميل وقوي، وأصبحت هذه النظرة تنتقل إلى كل من يتعلم اللغة الأجنبية، هو يتعلم معها أن يبعد اللغة العربية.. أن لا يتحدثها.. أن ينساها.. أن يحتقر أهلها.. أن يعتبرهم بدوا متخلفين، فهذا التحقير اللغوي يجب أن نتصدى له. من ضمن طرق التصدي أن ننبه هؤلاء الذين يحاولون أن يمارسوا علينا سلطة بطاقة اللغة الأجنبية من حقنا أن نضحك منهم. هذا ما فعلوه معهم في مالطا، أن ننبههم إلي أن هذا السلوك ليس سليما. أن نفعل ما فعله فريق اليوسفية لكرة السلة في الرباط، حين أصرت جامعة كرة السلة علي أن تراسله باللغة الفرنسية، فقام بإجابة الرسالة باللغة الكورية، أرسلوا رسالة باللغة الكورية إلى جامعة كرة السلة.
يعني إذا خاطبني شخص بالفرنسية في غير موضعها في الحقيقة يجب أن نجيبه بلغة بعيدة حتى ينتبه إلى هذا التقعر، لأن التقعر لا داعي له. فهي ظاهرة خطيرة ليست فقط مرتبطة بالجانب اللغوي وإنما بالجانب الإجتماعي، ممارسة سلطة اجتماعية على المحلي وإشعاره بالدونية.
يجب أن ننبه من لا يحسنون لغات أجنبية أن يرفعوا رؤوسهم، كونهم لا يحسنون لغة أجنبية ليس عيبا. معظم الناس في العالم بمن فيهم كبار رجال الأعمال مثل بيل جيتس مثلا صاحب مايكروسوفت لا يتكلم لغة أجنبية، معظم رؤساء وزعماء العالم لا يتكلمون لغات أجنبية. فلماذا هذه المبالغة عندنا نحن فقط، وماذا جنينا منها؟ كم أنفقنا من الأموال على تعليم لغات أجنبية؟ ما الذي جنيناه؟ وما الذي استفدناه؟ هل فعلا حققنا الرقي الإجتماعي المطلوب؟ أم أننا فقط أضعنا اللغة العربية وضيعنا فرصة وجود خدمات جيدة ووجود نقاش عام جيد؟ هذا السؤال الذي يجب أن يطرح.
لا حياد في اللغة.. الهجوم على العربية إساءة وليس وجهة نظر!
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، قبل أن نتعمق أكثر في التمثلات وأيضا سبل الرقي باللغة العربية، لابد أن نعود إلى سؤال حول النقطة التي تحولت فيها اللغة العربية من كونها لغة قوم إلي كونها لغة حضارة، لغة عقيدة ودين، يعني أخذت ذلك البعد العالمي الكوني.
الأستاذ أحمد القاري:
في لحظة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لما اختار الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يكون خاتم الأنبياء وبعثه بالقرآن الكريم ونزلت سورة العلق "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، في تلك اللحظة بالضبط أصبحت اللغة العربية لغة عالمية. لأن هذا هو الكتاب الخاتم، لا ينزل كتاب بعده، وهذا الكتاب مرتبط بمعجزة دائما وهي أنه محفوظ.. محفوظ بدون وجود مقر لحفظه.. لا يوجد مقر لحفظ القرآن الكريم، ولا هيئة مسؤولة عنه، لا يوجد شخص في العالم مسئول عن أن يحافظ لنا على القرآن الكريم. هذا أمر تكفل به الله سبحانه وتعالى، فتجد نسخ المصحف في أقصى الأرض.. في الصين وفي أدغال إفريقيا وفي شمال أوروبا وفي سائر البلدان والبوادي والحضر، تجد المصحف يمكنك أن تأخذه وتقرأ منه. وإن كانت نسخة قديمة جدا فتجد أنك ببعض الجهد ستتمكن من أن تتعرف على الآيات والقراءة. هذه هي الميزة، هذا هو مربط الفرس. هذا الكتاب الذي حافظ على اللغة العربية، وحافظ المسلمون على اللغة العربية بسبب حاجتهم للقرآن الكريم وتفسيره وحاجتهم للحديث وضبطه وما صاحب ذلك من علوم. ومن الميزات العظيمة للتجربة الإسلامية أننا من أجل دراسة القرآن الكريم ولغة القرآن الكريم حافظنا على الأدب الجاهلي. لاحظ الأدب الجاهلي مليء بالقيم التي ليست قيما إسلامية، مليء بذكر الخمر وذكر ما يقوم به الرجال والنساء من أمور، وقيم القبائل، واعتدائها على بعض، والفخر، والهجاء، ومع ذلك فإن المسلمين حفظوا ذلك التراث كاملا لم يحذفوا منه حرفا واحدا. هذا شيء معجز في التجارب الإنسانية لأن هذه الحضارة لم تحاول أن تمحو إرث الحضارة التي قبلها، بل حفظته للاستفادة منه والاستمتاع به. فصار الناس أحيانا يحفظون المعلقات قبل حتى أن يبدأوا حفظ القرآن الكريم، حتى تستقيم ألسنتهم، وحتى يأخذوا رصيدا لغويا واسعا، وحتى يتعلموا أيضا مكارم الأخلاق.
نحن لا ننكر أن في الأدب الجاهلي مكارم أخلاق. فانظر إلى هذا الانفتاح. هل مثله انفتاح في العالم؟ لا يوجد انفتاح مثل هذا. لكن من يعادي الإسلام يرفض حتى الأدب الجاهلي. من شدة عداء بعض الناس للإسلام وقيم الإسلام، يرفضون حتى الأدب الجاهلي. فأنا أقول لهؤلاء إذا كان عندكم عداء للإسلام على الأقل اقرؤوا الأدب الجاهلي، لا تحرموا أنفسكم من الأدب الجاهلي. هذا أدب لمشركين، ومع ذلك نحن حافظنا عليه. يعني عندنا شئ عجيب، لاحظ، مضرب المثل في الكرم.. حاتم الطائي -وهو نصراني، ومضرب المثل في الوفاء.. السموأل -وهو يهودي، ومضرب المثل في الشجاعة.. عنتره ابن شداد -وهو مشرك، ما عندنا مشكل في هذا. هذه حضارة مستوعبة، هذه حضارة لا تخاف. ولذلك العربية لم تعرف في تاريخها الرقابة. كل ما أنتج من النصوص وإن كان فيه محتوى صادم جدا تجد النساخ يكتبونه ويتداولونه ولا يحفظونه حتى بعيدا عن متناول الأطفال. هذه فكرة الحماية من النصوص وتخصيص الأطفال بنصوص محددة جاءتنا من الغرب وجاءتنا من التجربة الكاثوليكية التي فيها تحفظ شديد وخوف من النصوص، إنما نحن ليس عندنا هذا الأمر. لذلك على الناس أن تنفتح على الأدب العربي وتستفيد منه وتستفيد من هذه الميزة العالمية في اللغة العربية والتي هي مشاهدة اليوم في تأثير العربية على لغات العالم، تأثير واسع وكبير جدا ومدهش.
الأستاذ شمس الدين حميود:
لنا عودة إن شاء الله إلى تأثير اللغة العربية على لغات الآخرين وأيضا العكس الذي ربما يحدث أحيانا. أستاذ أحمد، ما تُلاقيه العربية اليوم من كيد وتجن، وما يشن عليها من غارات من أغراضه محو ذواكر العرب وطمس هويتهم، فهل يمكن القول أن الاعتداد بالهوية هو الذي يبنى عليه الشعور بالتميز والتأبي على التدويل الذي ذكرناه والاستتباع وأيضا هل يمكن القول أن متى طمست الهوية حل محله ذلك الشعور الذي ذكرناه شعور الاعتزاز والتأبي على اتباع الآخر حل محله نزوع إلى مماثلة الغالب واتباعه والانبهار به وأيضا التماس للكمال يعني يرى الإنسان كما كنت تذكر قبل قليل؟ فهل هذا الذي يمارس على اللغة العربية هو من أجل طمس هذه الهوية ومحو هذه المشاعر أو حتى ممكن هذه الأمور التي يتعلق بها العربي؟
الأستاذ أحمد القاري:
نعم، قضية اللغة في الأساس، هي عزة، هي فخر.. لذلك الانحياز اللغوي ظاهرة إنسانية طبيعية. الذي ليس طبيعي هو أن يأتي شخص يقول لك أنا محايد كل اللغات عندي سيان، هذا ليس طبيعيا. الانحياز اللغوي من صميم الخصائص المجتمعية، لذلك الصيني رأى أن اللغة الصينية هي اللغة، والألماني رأى أن اللغة الألمانية هي اللغة، ومن باب أحرى أن يرى الناطق بالعربية والمسلم عموما أن اللغة العربية هي اللغة. هذه لغة القرآن الكريم يعني اللغة الصامدة منذ خمسة عشر قرنا من الصمود والتراكم المعرفي. هذه اللغة قياسية كتابتها بسيطة، نطقها واضح بسيط، الاستثناءات فيها قليلة، هذه لغة الاشتقاق التي يمكنك فيها أن تنتج كلمات بنفسك دون أن يعترض عليك أحد. هذه اللغة المليئة بالأدب والأمثال، مجمع الأمثال فيه أكثر من أربعة آلاف مثل وأمثال ما يسمى بأمثال المولدين فيه حوالي خمسة عشر ألف حتى العشرين ألف مثل. كل هذا تجارب غنية جدا.. كل هذا لا يمكن أن نستفيد منه إلا بعنصر معنوي أساسي يجب أن يكون عندنا ويجب أن نقوله لمن حولنا وإلى الأطفال خاصة وهو العزة اللغوية.
كنت في طوكيو مع أستاذ في الجامعة، بصعوبة تدبرت موعدا مع أستاذ في الجامعة يحسن اللغة الإنجليزية كي أسأله عن موضوع القضية اللغوية، وتعمدت أن أهاجم اللغة اليابانية بحضوره وأقول هذا التعقيد الذي عندكم.. هذه المشكلة الموجودة في الكتابة.. يعني لما حاولت أن أحاصره كي أجد رأيه توقف قليلا ثم قال لي: أنظر، نحن قبل أن نقرأ الرمز صوتيا، نشعر بمعناه من خلال رسمه، فحوّل ما أراه أنا ضعفا في اللغة اليابانية ومشكلة في اللغة اليابانية حوله إلى مفخرة. قال لي هذه علاقة عاطفية انسيابية تحدث بيننا مع الكلمات حتى أن معانيها تدخل إلى أذهاننا قبل أن نتذكر أصواتها. هذا هو الذي ينبغي أن يكون، وهذا الذي تشاهده مثلا في بلد صغير مثل أيسلندا -خمسمائة ألف من السكان- منذ صعدت الطائرة المتجهة إلى أيسلندا على الخطوط الأيسلندية لاحظت أن الكأس الذي يوزعون فيه القهوة عليه كلمة من اللغة الأيسلندية، ويشرحون لك نريدك أن تتعلم كلمة أيسلندية في الرحلة. في نظام الترفيه في الطائرة عدة كتب مسموعة أغلبها عن أيسلندا وعن حضارة الفايكنج- أي حضارة عند الفايكنج؟! هذه العزة معنى عميق وهو معنى لا يمكن أن يقاس أو يوزن أو يحسب بالمال، ولا يحتاج إلى حجج. المشكلة في القضية اللغوية أننا نضيع في متاهات محاججة كأننا نبرر لوجودنا وللساننا. تصور أنك تحتاج إلى مبرر أن عندك لسان ولغة خاصة بك! فوضعونا دائما في وضع دفاعي. في الحقيقة أن القضية لا يمكن أن تنزل إلى مستوى التبرير.
كل من هاجم اللغة العربية، حقّر من اللغة العربية، انتقص من اللغة العربية، يجب أن ينبه إلى أن ما يقوم به إساءة وإهانة وليست وجهة نظر. يجب أن يتم إسكاته بالقانون إذا قام بذلك في بلد العربية هي لغتها الرسمية لأن هذه إهانة. أنا أرى أن إهانة اللغة العربية على أنها إهانة في مستوى إهانة العلم أو في مستوى إهانة النشيد الوطني إن لم تكن أشد. فكيف يمكن التسامح مع هذا الكم الهائل من التحقير والإهانات التي توجه للغة الرسمية لبلداننا على مدار الساعة؟ وأحيانا على منابر التعليم وعلى منابر الإعلام؟
تجد أستاذ جامعة يتبجح ويقول اللغة العربية لغة ميتة. هذا يحدث أحيانا. لا أجد أجهل من هذا الشخص. مثل هذا الشخص الذي يقول هذا الكلام يجب أن يجرد من جميع شهاداته العلمية وأن يطرد من التدريس لسبب بسيط أنه جاهل أولا ثم لأنه يهين ويحقر هوية أمة كاملة، ثم لأنه أيضا ليس مهذبا. تصور واحدا يقف على رؤوس الأشهاد.. وهو لا يمكنه أن يقول ذلك على اللغة الإسبانية أو الفرنسية أو الإيطالية أو أي لغة أخرى لكن للأسف الاعتداء على اللغة العربية أصبح يمر دون محاسبة قانونية ودون مساءلة كأنهم جعلونا نطبع مع هذا الأمر. نطبع مع الإساءة للغة العربية. وهذا التطبيع ككل التطبيع سيء يجب أن ينتهي ويتوقف وأن نعود لحماية عزتنا وحماية هويتنا بكل القوى المطلوبة في إطار القانون طبعا.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، حديثك عن الجهل المعرفي الذي قد يتلبس به البعض ممن حازوا الشهادات والأسماء الرنانة يذكرني بمقولة دائما تحيلني إلى هذا الجانب وهي قضية أن اللغة البعض يعتبرها كيانا محايدا لما يحدث في الواقع. هل الأمر هكذا؟ أم أن اللغة بحد ذاتها هي وجهة نظر للهوية لها خصوصية ولها علاقة بمباحث أخرى. مثلا نحن في المغرب العربي، كثيرا ما يقال أن اللغة غنيمة حرب. فهل هذا الأمر سائغ؟ أم أنه علميا يسقط؟ وفيه علاقة بمباحث عدة حتى بالمبحث الفلسفي. د.طه عبد الرحمن لديه كتاب يتحدث عن علاقة اللغة حتى بمبحث الوجود، وكيف أن اللغة العربية لها علاقة بالتوحيد مباشرة، واللغات الأخرى اللاتينية عندها علاقة بالشرك. فالأمر يعني أعقد من أن يقول القائل مجرد أنها هي غنيمة حرب أو ناقل محايد.
الأستاذ أحمد القاري:
التبسيط من شأن اللغة من أدوات تبرير حضور لغة أجنبية بمخالفة مقتضيات الدستور. واحدة من الألاعيب التي يلعب بها. هناك ألاعيب متعددة تقوم من جهة على التهويل من أهمية اللغة عندما يتعلق الأمر بلغة أجنبية وهذه اللغة ضرورية لابد أن نتعلم جميعا الإنجليزية حتى نستطيع أن نتحاور مع الغير، فهو يهول الأمر حين يريد ثم يبسط أمر اللغة حين يريد. حينما يتعلق الأمر بالعربية يقول هذه محايدة أنا أتعلم أي لسان ليس لي موقف محدد. فهذا تلاعب، مجرد لعب بالحجج أحيانا بسذاجة وأحيانا بسوء نية وكل غرضه هو التحقير والتنقيص من اللغة العربية. لا يوجد هذا الخطاب في بلد آخر. لا يوجد هذا الخطاب في فرنسا مثلا.. أبدا لا يقول الفرنسيون ذلك، الفرنسية يتحدثون عنها بفخر. لاحظ عندما يتحدث رئيس فرنسا عن الفرنسية يتحدث عن خدمة الفرنسية، يتحدث عن دولة في خدمة الفرنسية. لماذا نفتقد لمثل هذا الخطاب في الحديث عن العربية في بلداننا؟ لماذا لا تكون دولنا في خدمة اللغة العربية؟ هناك دائما عنصر فخر وحب تجاه لغة البلد لغة الجمهورية أو اللغة الرسمية وهذا الذي نجده في إيطاليا، نفس الشيء. الدساتير لا تذكر اللغات الأجنبية، لا تعنيها.
اللغة الأجنبية مرتبطة بعناصر نفعية تقدر بقدرها. من يريد احتراف الترجمة لابد أن يجيد اللغة التي سيترجم لها. من يريد القيام ببحث في دراسات عليا في موضوع معين يحتاج لغة معينة لابد له أن يجيدها لكن لا يخرج الأمر عن هذا النطاق. ثم هم يدرسون لغات أجنبية للتلاميذ لكن لا يجعلون ذلك على حساب اللغة الوطنية ولا حجر عثرة في طريق تفوق التلميذ. أما أن تكون اللغة الأجنبية لغة تدريس العلوم فهذا مستحيل في أي بلد تقدر قيمة التعليم ويرسم سياساته اللغوية دون إملاء خارجي.
أيسلندا التي ذكرناها تدرس الطب باللغة الأيسلندية رغم ثلاثمائة فقط من السكان يتحدثون باللغة الأيسلندية. إيطاليا تدرس باللغة الإيطالية طبعا. إيطاليا هي أضعف بلد في أوروبا كلها في اللغة الإنجليزية رغم أن الإيطالية لا يتحدثها إلا إيطاليا فقط. وقس على ذلك في التشيك.. في النرويج.. في السويد.. بدون استثناء لا يوجد بلد أوروبي يدرس بغير لغته الرسمية. هناك استثناء في الأقاليم وبترتيبات دستورية يكون للأقاليم الحق في أن تدرس بلغاتها أو في حالة التعدد اللغوي كالحالة البلجيكية هناك إقليم يدرس بالفرنسية لأنه ناطق بالفرنسية، وإقليم يدرس بالهولندية لأنه ناطق بالهولندية. وفي حالة سويسرا هناك منطقة تدرس بالألمانية ومنطقة بالفرنسية ومنطقة بالإيطالية. هناك دائما التزام بأن لا يكون حضور اللغة الأجنبية أكثر من حضور نفعي بحت لا يزيد على ذلك. هذا ما ينبغي أن ننبه له أولئك الذين يتلاعبون بهذا الموضوع ويستخدمون المحاججة بطريقة ملتبسة يعني فيها كثير من التزييف. هؤلاء يجب إيقافهم عند حدهم.
من ينصبون العداء للعربية: هل هم ضد اللغة أم ضد الإسلام؟
الأستاذ شمس الدين حميود:
ممكن في نفس السياق يمكن القول أنه يكاد للعربية بوسائل وطرق عدة، حتى أن بعضها من داخلها حسب البعض. ما رأيكم أستاذ في أنه يمكن اعتبار شركاء في هذا الكيد يمكن أن يكونوا حتى حكومات في الوطن العربي؟ البعض يقول أنه حتى بعض أعضاء المجامع اللغوية العربية البعض يقول أيضا أن الأدباء وكيفية تعاملهم مع اللغة، وأيضا أحيانا يكاد للعربية في التعليم وأيضا يستعمل للتنفير منها وتبغيضها لأهلها، وأيضا استعداء غير العرب على العربية وحملهم على المطالبة بترسيم لغاتهم. يعني يجعلونها ضرات لها. فهل يمكن القول أن هناك مجموعة من الوسائل من المساهمين في الكيد للعربية بمستويات مختلفة؟
الأستاذ أحمد القاري:
أكيد أن الحرب على العربية هي جزء من الحرب على الإسلام، وهي أيضا جزء من خدمة لغات أخرى. كل بلد لديه طموحات. فرنسا مثلا عندها طموح عجيب كان مسطرا في وثائق منظمة الفرانكوفونية قبل سنوات أنهم يريدون أن تكون الفرنسية هي اللغة الأولى في العالم بحلول ألفين وخمسين، لاحظ هذا الطموح العجيب. طبعا هم يعولون على الشعوب الإفريقية هذا لأن شعوب إفريقيا بلدان متفرنسة أي أنها ستصبح متحدثة بالفرنسية لغة أما بحلول ذلك الوقت، هذا طموحهم. لاحظ طموح هؤلاء؛ طموح كبير. هم يريدون منا أن نصبح ناطقين بالفرنسية في بيوتنا وأن تختفي العربية خدمة لهذا المشروع، فالهجوم على العربية هو لإتاحة المجال للفرنسية ومن ناحية أخرى هناك من يهجم على العربية ظنا منه أنه بذلك يخدم لغات وطنية. نحن في منطقتنا لم نعرف القصر اللغوي، لم نعرف الإبادة اللغوية أبدا. لذلك بعد الفتوحات الإسلامية دخلت الشعوب في الإسلام وأصبحت قاعدة.
نحن نعرف أن طارق ابن زياد قائد فتح الأندلس بربري من السكان المحليين، وأن الفرس تحولوا إلى قادة وعلماء وهكذا. بعض المناطق تعربت باختيارها مثل الشام والأردن والعراق، وبعض المناطق بقيت ناطقة باللسان الفارسي كإيران والأتراك حافظوا على لسانهم، السند والهند كذلك، في إفريقيا الحال متفاوت من مكان إلى آخر. كل هذا جرى في إطار اختياري فليس هناك تعسف وإلا فإن خمسة عشر قرنا كافية لأن تختفي اللغات الأصلية اختفاء تاما. إذا كانت هناك سياسة رسمية لمحوها لمحيت، أو كان هناك سياسة تحقير رسمية. كذلك مجالس تدريس الفقه كانت تعقد باللغات المحلية وكذلك التدريس حتى يدرسون كل شيء باللغات المحلية دون مشكل، لم يعترض أحد. ويمكن أن نقارن ببساطة جزر الكناري مثلا.. الأمازيغية تصنف الآن لغة ميتة في جزر الكناري. لا يوجد أي مواطن من سكان جزر الكناري يتحدث اللغة الأمازيغية، يعني اختفت. مع أن الغزو الصليبي للكناري تم قبل حوالي خمسمائة سنة. قارن ذلك مع ألف وأربعمائة سنة تقريبا من الوجود الإسلامي في الضفة الأخرى، ولا تزال الأمازيغية منتشرة على نطاق واسع بلداننا قبلت ترسيمها يعني لم تنقرض. ما وقف أحد وقال لا نريد: نحن ضد ترسيم الأمازيغية، ليس عندنا مشكل مع اللغات. هناك في موريتانيا قرروا أن اللغات الوطنية الثلاث يكون لها اعتبار، ما في مشكل، نحن ليس عندنا هذا المشكل.
لكن المشكل هو أن كثيرا ممن يدافعون عن اللغات الوطنية تم جرهم إلى الاعتقاد والتصرف على أساس أن العربية معادية للغاتهم؛ هم لا ينتبهون إلى أن الضرر الرئيسي يأتي للغاتهم من الفرنسة. الفرنسة هي التي ستقضي على الأمازيغية وأشكال الحديث بالأمازيغية في المنطقة المغاربية. الخطر لا يأتي من اللغة العربية؛ ثم الأمازيغي مسلم مرتبط باللغة العربية، لا يعتبرها لغة أجنبية عنه. هذا هو الفرق، المسلمون لا يعتبرون اللغة العربية أجنبية. إن أحسنها شخص فبها ونعمت، وإن لم يحسنها فهو على الأقل يستخدم جزءا منها.. يسمع بها القرآن.. يصلي بها.
أما مناصبة العداء للعربية فهذا أمر خطير ويجب أن ننبه أن من ينصب للعربية العداء أو يقف في وجه ترسيم واستخدام العربية وتعميمها وتدريسها يجب أن ينبه إلى أنه يقوم بفعل مناقض لدينه. يعني عليه أن يعلن هل هو ضد العربية أو ضد الإسلام نفسه؟ هذه اللغة ليست لغة عرق، ليس واحدا منا في المغرب الكبير اليوم متأكدا من عرقه تأكدا تاما، واليوم العربية هي اللغة المشتركة في إفريقيا، المنتديات الاجتماعية باللغة العربية. وهي قادمة منتشرة منتصرة بإذن الله تعالى. فقط على أي شخص ألا يضيع وقته في محاولة الوقوف في وجهها لأن تلك المحاولة ستبوء بالفشل، ومصيرها الخسارة التامة.
من أشد مظاهر التحقير اللغوي إقصاء العربية من النقاش العلمي
في نفس السياق الذي نتحدث عنه من الكيد للعربية والتجني عليها، من التجني على العربية قلت هذه النقطة وألمحت إليها في بداية حديثك وهي قضية إلصاق تهمة للعربية وهي قضية الصعوبة، الشيخوخة، أيضا عدم الصلاحية للعلم. فمن يقوم بهذا الشيء يتغافل عن أن العبرة بسلطان أهلها وبجدهم في ترقية هذه اللغة والوقوف معها وتصديرها. ونحن نرى الكرونولوجيا التاريخية، اللغة السائدة للعلم قبل مائتي سنة ليست هي اللغة الإنجليزية. العبرة بحركية أهل هذه اللغة وليس بهذه العبارات والاصطلاحات.
أنا أعتقد أن القول أن العربية ليست لغة علوم ولا تصلح للعلوم هو إهانة وإساءة ليس وجهة نظر. يجب أن نتصرف معه على هذا الأساس. لأن التشيكيين لا يقبلونه. في تشيكيا ربما لا أدري هل يتحدثها عشرة ملايين واللغة المجرية أعتقد من أعقد اللغات وعدد من يتحدثونها بضعة ملايين لا يقبلون نهائيا أن يأتي شخص يقول لهم لغتكم لا تصلح لتدريس العلوم. الفيتناميون كانت تحتلهم فترة فرنسا ومع تخلصهم من الاحتلال سارعوا إلى الفتنمة. اليوم كل شيء يدرس في فيتنام بالفيتنامية ومع تعقيد هذه اللغة في نظرنا يعني لأن اللغة مسألة ليست محايدة، بالنسبة للغة الفيتنامية معقدة لكنها ليست كذلك بالنسبة للناطق بالفيتنامية، ولا يقبلون نهائيا أن تذكر بالسوء. دخلت مختبرات ومكتبة جامعية وكلية الهندسة، تجولت في الجامعة في "هانوي" دهشت لأن كل شيء بالفيتنامية. الفرنسية اختفت تماما مع أن فرنسا احتلت فيتنام مدة طويلة جدا وكان تأثيرها عميقا جدا على البلد، المسألة مسألة عزم. أندونيسيا نفس الشيء، حين تخلصوا من الاستعمار الهولندي حولوا كل شيء إلى الأندونيسية، والأندونيسية فيها نسبة كبيرة من الكلمات العربية، فحين تأخذ كتابا للعلوم الطبيعية في أندونيسيا تجد أنه باللغة الأندونيسية وتجد كثرة الكلمات العربية. فسبحان الله الكلمات العربية موجودة في العلوم في أندونيسيا وموجودة في العلوم في تركيا. حدث معي موقف طريف في تركيا، زرت معهدا خاصا بمعدات مراقبة الجودة، وكانت هناك لافتة كبيرة لمعهد يدرس، العبارة باللغة التركية هكذا "تخريبات سز معاينة خدمات فار" العبارة كلها عربية.. تخريبات سز يعني بدون كسر، معاينة هي المعاينة التي نعرفها أو مراقبة، خدمات.. فسبحان الله آلاف الكلمات العربية موجودة في اللغة التركية ويمكن أن تستخدم في تدريس العلوم والرياضيات والفيزياء وكافة المواد ولكن لا تصلح عندما نستخدمها نحن. أنا أقول لهؤلاء من باب السخرية لأنهم يجب أن يجاوبوا بالسخرية، أقول لهم فقط احذفوا الأرقام العربية من الكتب، استخدموا الأرقام الفرنسية من فضلكم أو الأرقام الإنجليزية. لماذا تستخدمون الأرقام العربية؟ إذا أنا أوصي بأمر أساسي، كل من يذكر أن العربية لا تصلح للعلوم يجب أن ينبه إلى أن هذه إساءة بالغة، وأن عليه أن يسحبها، ولا يعود لتكرارها لأنها لا تستقيم، لا يمكن أن تقال في حق أبسط وأقل لغة انتشارا، فكيف بواحدة من أكثر اللغات انتشارا وتأثيرا في العالم؟
أنا أعتقد أن العربية هي الأكثر تأثيرا في لغات العالم بسبب استمرار هذا التأثير، ليس تأثيرا عابرا، وبسبب كونه تأثيرا عميقا جدا. قبل كنت أبحث في كلمة "كراء"، وجدت أن أكثر كلمة تفيد معناها في العالم موجودة هي "كراء" هي نفسها باللغة الهندية "كراء"، هي في الفارسية، في التركية، في الإسبانية، يعني يستخدمها حوالي مليارين أو أكثر من الأشخاص هي كلمة "كراء" التي نعبر بها عن الإيجار. كلمة "كتاب" يستخدمها ملياران في العالم، "كتاب" باللغة الهندية، باللغة السواحلية، باللغة العربية، مستخدمة في آسيا، في أوروبا، في إفريقيا. نحن نحتاج إلى التوقف عن الحاجة لأن نبرر، ولأن نكون في موقف دفاعي. اليوم العربية تؤلف بها آلاف الكتب وتنشر بها آلاف المقالات.
ويجب التوقف عن نشر كلمة لغة العلوم، لغة العلوم نقولها نحن في العالم العربي لكن لا يقولونها في الصين، لا يقولون عن لغة العلوم أن هي اللغة الإنجليزية، لأن لغة العلوم في الصين هي اللغة الصينية، ولغة العلوم في اليابان هي اللغة اليابانية، ولغة العلوم في روسيا هي اللغة الروسية، ولغة العلوم حتى في تركيا هي اللغة التركية، وفي إيران هي اللغة الفارسية.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، ما أجمل قول "حافظ إبراهيم" في هذا المعنى الذي تذكره على لسان العربية حين قال: "وسعت كتاب الله لفظا وغاية، وما ضقت عن آي به وعظات، فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة، وتنسيق أسماء لمخترعات". سبحان الله وسعت لوصف كل ما ذكر الله عز وجل، فكيف تضيق عن وصف مخترع بسيط؟ في الحقيقة نحن نتحدث عن تأثير العربية وتبنيها في التعليم، وأيضا نزوع أغلب الدول إلى التدريس بلغاتها الأم، والتمكين لهذه اللغة. فأنا أسأل هنا عن آثار التعليم بالعربية واللغات الأجنبية في الوطن العربي؟ وهل يحدثنا الأستاذ أحمد عن تجارب الشعوب في التعليم بلغاتها؟ لو في ممكن تجربة عربية؟ تحدثنا عن التجارب الأجنبية تحدثنا عن اليابان، عن أيسلندا، عن أغلب الدول الأوروبية. فلو يفصل أكثر في ما يترتب عن هذا التعليم باللغة الأم، ما يترتب عليه من تقدم وتنمية وتوطين للعلم، على عكس ما يمكن أن يشيعه الآخرون. أعتقد أن سوريا كانت عندها تجربة في التدريس باللغة العربية.
الأستاذ أحمد القاري:
في سوريا درسوا باللغة العربية ويقال أن الأطباء السوريين تفوقوا في عملهم في دول عديدة، أتمنى أن يسلط الضوء أكثر على هذه التجربة وأن يفيدنا الأطباء الذين تخرجوا من سوريا حول هذا الأمر. وكذلك الناس الذين درسوا الهندسة. هناك حاجة لمزيد من تسليط الضوء على هذا الأمر لأنه عيب حقيقة، عيب أن تكون مصر تدرس بالإنجليزية. أنا متأكد أن الطلاب والأساتذة لا يريدون أن يدرسوا بالإنجليزية وهذا يعني أنهم يعذبون الطالب وهذا يؤثر. يجعل التأليف أقل، يجعل نشر العلم أقل، يجعل الإبداع أقل، وأيضا غير ملائم. السياسة اللغوية تقوم على الملائمة، على أن تقوم بأسهل ما يمكن. إذا كان أستاذ الجامعة لا يستطيع أن يعد كراريس المقرر باللغة العربية فكيف يستحق الأستذة؟ هذا لا يستحق. كيف يعني تدريس الطب في تركيا باللغة التركية مع أنه يسمى طب؟ طب الجلد مثلا يسمى "جلد طب". آلاف الكلمات العربية داخلة في المعجم الطبي التركي. العلاج يسمى "علاج". والكلمات العربية دخلت في المصطلح العلمي في البلدان كلها، نحن نعلم أن ترسانة مثلا كلمة عربية "أرسنال" لا نحتاج إلى تبرير. الشراب الطبي الذي يسمى "السيرب" مستخدم في كل لغات العالم اليوم هي كلمة عربية هي شراب بكل بساطة. المسلمون هم أول من تداوي بشراب طبي معد خصيصا للعلاج. ولذلك هو يسمى بالإنجليزية "سيرب" من شراب، والفرنسية "سيروب" وفي الإسبانية يسمى "خرابي" أقرب إلى كلمة شراب. هذا أمر لا يحتاج إلى تبرير.
رسالة إلى رجال التعليم والقائمين على الشأن اللغوي
هناك سياسة لغوية منحرفة فاسدة إما جزئيا أو كليا لأن لا يكاد يوجد بلد عربي لا يدرس باللغة العربية جزئيا على الأقل هناك من يدرس الإبتدائي.. الحال في موريتانيا يدرسون الإبتدائي بالعربي ثم ينتقلون إلى الفرنسي في الإعدادي. في المغرب حتى هذه السنة كان التدريس حتى الثانوية العامة بالعربي وبعد ذلك ينتقل إلى الفرنسية والآن قرروا أن يفرنسوه حتى يكون التدريس في الإعدادي والثانوي مماثلا للغة التدريس في الجامعة فصححوا خطأ بخطأ والنتائج كارثية جدا.
الأساتذة يجب أن يتحدثوا، يجب أن يبينوا ضرر هذا الأمر على التلاميذ. هذا أمر لا يحتاج إلى إثبات علمي، هذا أمر يحتاج إلى شهادات لأن التجربة الدولية استقرت على أن التدريس يجب أن يكون باللغة الأم، والبنك الدولي أجرى قبل شهور، قبل مدة ليست طويلة ندوة حول هذا الموضوع والنقاش كله ذهب إلى اتجاه أن هناك ارتباطا بين التفوق الدراسي ودراسة التلميذ بلغته الأم.
وكذلك بعض الدراسات الأخرى مثل دراسة "تيمز" التي تقوم برصد مستويات التلاميذ في القراءة والكتابة والحساب في عدد من الدول أثبتت أن هناك علاقة بين إجادة الطفل للدروس ومستواه الدراسي وبين استخدامه للغته الأم. يعني لا يحتاج هذا الأمر إلى إثبات، هو يحتاج إلى قرارات، تشريعات، ملاءمة، شجاعة، ضغط من المدرسين، ضغط من الآباء، إدراك لكون المتاهة اللغوية والسياسة اللغوية الخاطئة تعني تدريسا خاطئا وخدمات صحية ضعيفة، إدارة ضعيفة وتعني أيضا بؤسا شديدا في الإنتاج.
نحن ليس عندنا مجلات علمية ولا نحن نترجم المجلات العلمية لأننا بقينا بين بين، لا نحن نستورد المجلات العلمية الغربية بلغات الغرب بسبب أنها لا تنتمي إلينا، لا تنتج عندنا، أسعارها مرتفعة، لا نجيد اللغة التي تنشر بها، ولا نحن ننتج مجلات علمية عندنا لأننا حرمنا العلوم على العربية. فهذا الإقصاء للعربية من النقاش العلمي هو واحد من أشد مظاهر التحقير اللغوي في وقتنا الحاضر ويجب أن ينتهي، وأن ينتهي فورا.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ أنت ضربت مثال لموريتانيا والمغرب، في الجزائر أيضا يدرس الطالب قرابة اثني عشرة سنة باللغة العربية ثم ينتقل إلى المرحلة الجامعية ليدرس التخصصات العلمية بلغة أجنبية. فمهما ادعى المدعي أن الأمر لا يؤثر لكن من خبر الواقع أدرك أن حتى وإن نجح التلميذ لكن لا أعتقد أن يجادل اثنان في أن فهمه باللغة الأم لغته التي تربى عليها ممكن يقترب حتى اقترابا من فهمه بلغة أجنبية أتقنها بعد مدة من الزمن. أستاذ في برنامج "المشاء" على قناة الجزيرة الروائي التونسي "الحبيب السالمي" يتحدث عن تجربته وحبه للعربية وأيضا لماذا هو يكتب بها دون غيرها رغم إتقانه للفرنسية، يقول أن اللغة التي تتحدث بها وتقرأ وتكتب بها تحدد هويتك ورؤيتك للعالم وليست شيئا هامشيا؛ هذا ملحظ مهم جدا، يقول أن اللغة التي تتحدث بها تؤثر على رؤيتك للعالم المحيط بك وتحدد المنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها، فما رأيكم أستاذ في هذا التوجيه؟
الأستاذ أحمد القاري:
هذا ما ذكره الأديب التونسي ثابت جدا، وهذا الذي يجب أن يكرر باستمرار. اللغة لا ينبغي تبسيط أمرها وخطرها. هي أعمق وأخطر كثيرا من أن تكون مجرد أداة محايدة. لا يوجد حياد لغوي. وهذا الذي يجب أن يدفعنا في اتجاه الحسم في مسألة اللغة، المسألة اللغوية يجب أن تكون محسومة ولا يمكن أن تستمر معالجتها بهذا التخبط الموجود حاليا والذي يكلفنا في رأيي نقاط عدة من الناتج القومي. المهندس لا يمكنه أن يتحدث بلغة واضحة مع العامل، العمال بينهم لا يتحدثون بطريقة واضحة، هناك مشكل في نقل المعلومات، الكل يخاف من الكتابة.. عليهم أن يكتبوا بلغة أجنبية يخافون منها لأنهم لا يجيدونها، تتغلب التعليمات الشفاهية. هذا الغموض مؤثر ومكلف، مكلف في الورشة الصغيرة ومكلف في الإدارة المتوسطة ومكلف على مستوى البلد بالكامل، مكلف في المدارس، ومكلف في المستشفيات.
هذا الشخص الذي يدخل على الطبيب ويجد أنه يخاطبه في أمر تتوقف عليه حياته، قرارات مصيرية.. هل ينجز هذه العملية أم لا؟ هل عنده التكاليف؟ هل يذهب إلى طبيب آخر؟ هل يذهب إلى بلد آخر؟ يأخذ تقريرا طبيا ولا يفهم منه شيئا. المشكلة أن هذا التقرير الطبي المكتوب بلغة أجنبية يعتمد على مصطلحات، حتى اللغات الأوروبية تستخدم مصطلحات يونانية ولاتينية فيصبح الأمر أشد تعقيدا. بدلا من أن يقول الطبيب للمريض أنت تحتاج إلى أن تذهب إلى طبيب عيون يقول له (أوفثالمولوج)، من يفهم الأوفثالمولوج؟ لا أعتقد أن 0.1% من سكان البلدان يفهمون هذا المصطلح، لأنه ليس حتى من الفرنسية البحتة، بل هو مأخوذ من اللاتينية ومن اليونانية. هذه لغات أوروبية معتزة بإرثها اليوناني واللاتيني ومحافظة عليه. لم يطلبوا منا نحن أن نتخلى عن كل إرثنا، وأن نستسلم استسلاما لغويا تاما؟ فما هذا الهبل؟ هذا لا يمكن أن يستمر. نحتاج إلى أن نوقفه، نحتاج إلى أن نفرض سياسة لغوية ملائمة نربح على إثرها عدة نقاط في الناتج القومي وأن نربح على أثرها أيضا أموالا هائلة جدا ومناصب شغل أعتقد بمئات الآلاف أو بالملايين.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، تحدثنا عن تأثير اللغة العربية في اللغات الأخرى وأثرها في المصطلحات والكلمات، لكن يتبادر إلى ذهني سؤال حول أن هناك دراسات حول تأثير اللغات المهيمنة مثلا الإنجليزية والفرنسية على اللغة العربية من خلال الترجمة طبعا، وكيف جرت هذه التغيرات باتجاه محدد. مثلا استخدام صيغة المستقبل لسرد الماضي هي مستعارة أعتقد من اللغة الفرنسية مثلا أن نقول بعد سفره لمصر سيضطر فلان لترك دراسته ثم سيصدر مجلة كذا. أيضا أعتقد أن طلال الأسد في "جينيالوجيا الدين" تحدث أو أشار إلى هذه النقطة وأحال إلى دراسة له في سنة 1975. هل الأستاذ أحمد لديه فكرة حول هذا التأثر للعربية أو للصياغات العربية باللغات الأجنبية. والبعض يتساهل في هذا الأمر والبعض الآخر يشدد ويقول أن على العربية أن تحافظ على فصاحتها وتبتعد عن هذه العجمة.
الأستاذ أحمد القاري:
صحيح الأمر ملتبس فيه تعقيد. من ناحية العربية مفتوحة على استعارة الكلمات، ليست مغلقة، ليست مثل بعض اللغات التي لا تأخذ كلمات أجنبية، من الممكن أن نستخدم كلمة ديمقراطية، نستخدم أحيانا كلمة برلمان. كلمات كثيرة تم قبولها وإن لم تكن عربية الأصل. أرى أننا كلما استخدمنا العربية أكثر في الحديث وفي الكتابة سينتبه الناس أكثر إلى ما يجب تصحيحه، لأن ما دخل على العربية من تأثير الفرنسية والإنجليزية يزيد اللغة تعقيدا ولا يزيدها بساطة. هي لغة بسيطة في أصلها وبسيطة جدا في ومعادية للتكلف ومعادية للحشو. فألاحظ زيادة نسبة التنبيهات إلى هذا الأمر وتحسن مستوى الناس في الكتابة على التواصل الاجتماعي. وأشجع الناس على أن يكتبوا وأن يكون التصويب والتصحيح لطيفا. بمعنى من المهم عندي جدا أن يزيد المحتوى المكتوب بالعربية. هذا مهم جدا في حد ذاته ويجب أن نعول على أن الناس يتحسنون مع الممارسة، يعني في البداية تكون أخطاء إملائية، أخطاء طباعية، أحيانا الأجهزة تقترح عليك تصليحات هي نفسها تكون خطأ. فكلما أنتجنا أكثر تتحسن حتى الاقتراحات المقدمة من الذكاء الصناعي. المهم هو المزيد من الكتابة والمزيد من الإنتاج، المزيد من الترجمة، مع زيادة الإنتاج سيزيد النقل وسيزيد التصويب وسيتحسن الأداء بإذن الله تعالى.
الأستاذ شمس الدين حميود:
بإذن الله أستاذ، ونحن اقتربنا من نهاية هذه الجلسة الطيبة والشيقة التي استفدنا فيها كثيرا أتسائل ما يوجد في جعبتنا لجعل المسألة اللغوية لنقول تتخطى مجال المناشدة والدعوة والطلب إلى الجهات المسؤولة ونطالبها بالتحرك تجاه لغة الضاد؟ ماذا يوجد لنفعله نحن؟
الأستاذ أحمد القاري:
يوجد الكثير جدا. المبادرة اليوم انتقلت من الجهات الرسمية إلى المجتمع على التواصل الإجتماعي. التواصل الإجتماعي اليوم هو المؤثر الأول في اتخاذ القرار وحتى الحين لا يظهر الأثر فوريا، هو يظهر مع مرور الوقت، لاحظ أنه سنة بعد أخرى يتحسن النقاش اللغوي نحن ننتقل الآن من مرحلة الدفاع ومرحلة التحسر ومرحلة استجداء الاهتمام بالعربية إلى مرحلة المطالبة بالالتزام بالدستور وتطبيق القوانين. هذا الذي نطالب به. هنالك تجارب تطورت كثيرا ومضت بعيدا مثل الحالة الموريتانية، هناك مبادرة تطالب بتطبيق الدستور الموريتاني وأصبحوا الآن يراسلون الإدارات ويراسلون الشركات ويطالبونها بأن تعتمد العربية في تعاملها وفي خدماتها، وهناك مستوى استجابة جيد جدا لهذا الأمر. في المغرب والجزائر النقاش محتدم جدا حول القضية اللغوية، حتى في بلدان إفريقيا مثل السنغال وغينيا ومالي هناك حراك قوي للمستعربين والآن يقابلون مسؤولين في الدولة ويفرضون احترام حقوقهم القانونية في التشغيل وفي الاعتراف بما يحصلون عليه من شهادات. في مالي نظم بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية مؤتمر كبير حول اللغة العربية في إفريقيا شارك فيه عشرات من الباحثين وقدمت أوراق مهمة جدا، وتميزت هذه الأوراق بالعمق وإلقاؤها كان ممتازا جدا. هناك ملاحظة أن الزخم في تزايد، الجهات الرسمية تشعر أن مطالب استخدام اللغة العربية مطالب قوية وأن السياسات اللغوية الخاطئة والخادمة للمستعمر لم تعد مقبولة وأنها أيضا ضارة ومكلفة اقتصاديا وأنها ليست شعبية، هذا كله متوفر الآن. مطلوب أن نخرج عن صمتنا، كل واحد من زاوية خبرته يجب أن يساهم، المهندس يجب أن يتحدث عن الأضرار الموجودة بسبب اعتماد لغة أجنبية، الطبيب يجب أن يساعد في الوصول إلى أن تكون الخدمة الطبية كما في كل العالم بلغة المريض، الأستاذ يجب أن يتحدث. الأساتذة في بورتوريكو كانوا هم القوة الأساسية في المحافظة على التدريس في الجزيرة باللغة الإسبانية بدل الانتقال إلى الإنجليزية رغم أن بورتوريكو تابعة للولايات المتحدة وسكانها مواطنون أمريكيون لكن حجتهم كانت واضحة.. لغتنا لغة إسبانية ولا يمكننا أن ندرس باللغة الإنجليزية، وإن كانت كما يدعي البعض - وهو ادعاء خاطئ - أنها لغة العلوم. لو كانت لغة العلوم لانتقل إليها البورتوريكيون أنفسهم. ملايين من الأمريكيين يدرسون باللغة الإسبانية.
القضية تحتاج إلى أن نخرج من إحساس العجز، يجب أن تكون هناك قطيعة مع إحساس العجز والانتظار والاستسلام إلى مرحلة الفعل والنقاش العام والضغط على الجهات التي بيدها اتخاذ القرار. الضغط على المدارس، أن تعطي اهتماما أكبر للغة العربية وأن تطور تدريسها للعربية وأن تعتمد على النصوص العربية الكلاسيكية الجميلة جدا المليئة من القصص والمليئة من الأمثال ومن المقامات والأساطير، يأخذون من الأدب الجاهلي أو الأدب الإسلامي.. لا مشكل، والضغط على البرلمانات أن تشرع.
كان هناك إنجاز جيد مؤخرا للبرلمان الموريتاني حين أصر رئيس البرلمان، وتبعه البرلمانيون في ذلك، على أن تكون الترجمة داخل البرلمان من العربية إلى اللغات الإفريقية الوطنية في موريتانيا فقط، أن لا تكون هناك ترجمة للغة الفرنسية، وبالتالي لا تكون مداخلات باللغة الفرنسية. هناك أيضا رفض لأي مداخلات واستخدام اللغة الفرنسية في البرلمان المغربي. هناك مطالبات برفع التجميد عن قانون التعريب في الجزائر. كل هذا في غاية الأهمية يمكن تحقيقه بشيء من الجهد والثقة في النفس واليقين أن هذه اللغة منتصرة بإذن الله تعالى لأنها لغة القرآن الكريم، فليكن لنا شرف جميعا أن نساهم في هذا الأمر.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، ذكرت في البداية السياسة التي اتبعتها فرنسا وهي سياسة التحقير اللغوي، هل يمكن أن نستورد هذه السياسة واتباعها لنعيد للغة العربية هيمنتها أو هيبتها؟
الأستاذ أحمد القاري:
في الحقيقة كنت سألت قبل أسابيع، هل يمكن أن نمارس تحقيرا لغويا مضادا تجاه التحقير اللغوي الممارس علينا؟ ما زلت أتساءل وأحب أن أسمع آراء الجمهور والأصدقاء في هذا الأمر. أما تجاه اللغات الوطنية فنحن لا نحتاج إلى أن نمارس تحقيرا لغويا أبدا، بل ينبغي أن نتمسك بما دأب عليه المسلمون في تاريخهم من ترك اللغة مسألة لغة حرة.. كل يختار.. لا مشكلة في الاختيار، لكن الذي نرفضه هو أن يتم إجبارنا على سياسات لغوية غير ملائمة إما مباشرة من المستعمر أو عن طريق من يخدمون برامجهم. هذا يجب أن نرفضه رفضا تاما وأن نطالب بأن تكون السياسات التي ترسم داخل البرلمانات وترسم في خدمة مصالح الناس كما في سائر البلدان. أنا أطالب كل المغتربين وكل المطلعين على التجارب في الغرب والشرق أن يبسطوا هذه التجارب ويتحدثوا عنها. عندي صديق "ياسين قزابري" مقيم في كوريا ينشر بشكل جيد عن التجربة الكورية، اعتماد اللغة الكورية في كوريا مبهر جدا، لا تكاد تكون اللغة الإنجليزية موجودة في كل المجالات حتى لا ترى الحرف اللاتيني. أنت تعرف عندما تأتي إلى صوفيا في بلغاريا يختفي الحرف اللاتيني وأنت في قلب الإتحاد الأوروبي تجد فقط الحرف الكيريلي، هذا مثل الحرف الذي تكتب به اللغة الروسية. فلماذا يوجد الحرف اللاتيني عندنا أكثر مما يوجد في أثينا أو في موسكو أو في صوفيا؟ هذا غير معقول. ولاحظت في زيارتي أخيرا للصين تناقص حضور الحرف اللاتيني، هو كان أصلا قليلا ولاحظت في السنوات الأخيرة أنه ينقص حضوره في المحلات، حتى محل مثلا يبيع أجهزة هاتف شركة تفاحة تجد أنه عليه الكتابة الصينية فقط. بالمناسبة هم هناك يسمون الشركة تفاحة ليس آبل، باللغة الصينية يسمونها "بينجوا" ما عندهم حرج.
الأستاذ شمس الدين حميود:
نستزيد ثقة في تاريخها، ونلاحظ أستاذ أن ارتباط هذا الأمر بالمهيمن وبالغالب وبثقافة الغالب ارتباطا وثيقا جدا، يعني لو غدا سيطرت الصين عالميا وانتشرت ثقافتها سيأتينا من يحاولون تمكين بعض اللغات الأخرى وتحقير لغتنا الأم فيحاولون تمكين اللغة المهيمنة ثقافيا واقتصاديا. يعني هو ينتقل من استعبادنا عند هذه إلى الآخر دون اعتبار للذات ولتميزها والخصوصية الخاصة بكل إنسان. وأعتقد أستاذ أن، ليس تعميما لكن، كثير ممن يعادي العربية إنما يعاديها انطلاقا من معاداته للإسلام لكن ربما لا يصرح بهذا، فالأمر أصعب، فمعاداة العربية أسهل من معاداة الإسلام طبعا. فيدخل من هذا المدخل للتهوين من أمرها وتصغيرها وأيضا الانتقاص منها.
الأستاذ أحمد القاري:
تماما.. هذا الذي يحدث.. وهؤلاء يجب فضحهم ويجب مطالبتهم بأن يظهروا برامجهم الحقيقية ويجب تنبيههم إلى أن الحديث بطريقة محقرة عن العربية هو إهانة لكل المسلمين وتنبيههم إلى ذلك بحزم حتى لا يعودوا إليه. هذا الأمر يجب أن يتوقف فقد طال الأمد به وطال التسامح معه ومخالف لكل الأعراف الأخلاقية في العالم.. أن تحترم الآخرين، تحترم ألوانهم، تحترم أشكالهم، تحترم عاداتهم، تحترم دينهم، وتحترم أيضا لغتهم. من يأتي إلى بلد ويهاجم اللغة التي يتحدثها أغلبية البلد ويفهمها كل الناس في البلد؛ هي اللغة الرسمية، لغة القرآن الكريم ثم يأخذ في الهجوم عليها، هذه وقاحة ليست مثلها وقاحة، وأعتقد أن التسامح معها هو ذل لا ينبغي أن نقبله البتة.
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ، على كثرة الفوائد والالتقاطات المميزة في كلامكم لكن أكثر ما شدني هو حديثك عن أن الانتقاص من العربية ومحاولة النيل منها والكيد لها والتجني عليها لا يمكن أبدا أن يعتبر وجهة نظر، الأمر يتعدى ذلك. وأعتقد أن من رزايا هذا العصر أو من المعرفة التي نحن ضمنها أنه صار الجميع يتحدث والجميع له الحق في إبداء وجهة النظر، والأصل أن الكلام الذي لا يدلل عليه أو لا يستند إلى ما يمكن أن يحاجج به لا يمكن أن ينطق به. فكانت لفتة جميلة جدا أنه مهاجمة العربية والانتقاص منها، لأنه علميا لا يستند إلى أي شيئ ذي معنى وذي قيمة، فهذا الأمر ليس وجهة نظر أبدا بل يجب الوقوف بحزم أمامه. دكتور، أنا لا أريد أن أطيل عليكم أكثر، أريد أن أحيل إليكم الكلمة لتختتم هذا المجلس الطيب وهذه الإفادة التي أكرمتنا بها اليوم فتفضل دكتور.
الأستاذ أحمد القاري:
شكرا جزيلا لكم على هذه الاستضافة وعلى هذا الجهد الطيب.
توصيتي للجميع أن تكون القضية اللغوية قضية جوهرية، أن تكون القضية الأولى. حقا هي القضية الأولى. وأن نحسمها جميعا في تعاون عابر للأقطار وعابر للمؤسسات وعابر للأحزاب وعابر للجامعات للتعاون لحسم القضية اللغوية، فبحسمها سنحسم الكثير من الأمور الأخرى، سنحسم مسألة العزة، الهوية، سنحسم مسألة الملاءمة، سنحصل على نقاط إضافية في الناتج الخام، سنحصل على ربما ملايين من فرص العمل في العالم العربي، سنحصل على نهضة ثقافية، على صناعة، على نشر أفضل، على ميزات كثيرة لا يمكن أن نستمر في التفريط فيها. ويلزم لتحقيق ذلك أن ننتقل من مرحلة الدفاع والاعتذار إلى مرحلة العزة والإصرار على المطالب قانونيا ودستوريا بالدستور والقانون والسلام.
نريد احترامنا واحترام لغتنا، ولا نقبل أن يهينها أحد كائنا من كان، ولا نقبل أن تكون أي منابر رسمية إعلامية ولا تعليمية ولا صحفية ولا غيرها منابر للتعدي على هوية شعوبنا والتحقير منها، ويجب أن نحقر التحقير اللغوي ونحقر ممارسيه وأن نكسره حتى ندحره من أرضنا لأنه لا مكان له بيننا ولا مكان لممارسته بيننا وهذا أمر يمكن أن يساهم فيه الجميع من التلميذ، طالب، أستاذ، إداري، سياسي منتخب، الكل.. كل الأعمار.. كل الأشخاص.. كل الخبرات.. المغترب.. الكل يجب أن يدلي بدلوه في هذه القضية وفي هذا الموضوع حتى يتحقق الانتصار اللغوي بإذن الله تعالى.
في علاقة اللغة بالاقتصاد.. ماذا تُكلّفنا السياسات اللغوية الخاطئة؟
الأستاذ شمس الدين حميود:
أستاذ حديثك الآن أعادني إلى نقطة تحدثت عنها في معرض حديثك وأراني أتقمص دور المتابع والمشاهد من وراء الشاشة الذي يتساءل عن هذه النقطة، فأنت ذكرت ضمنا أن اللغة تؤثر في الاقتصاد يعني فرص عمل وكذا.. فلو تفصل في هذه النقطة.
الأستاذ أحمد القاري:
السياسة اللغوية الملائمة تجعل التعليم أفضل لأنها سياسة ملائمة، الناس يدرسون بلغتهم. هذا يؤثر على مخرجات التعليم، ويجعل المتخرجين أفضل في قدرتهم على ممارسة أعمالهم. استخدام اللغة الرسمية يجعل تمرير الخبرات أسهل، يجعل القيام بالأعمال أسهل، يجعل التعليمات أوضح، يجعل التواصل في مكان العمل سلسا وطبيعيا وليس متكلفا ولا معقدا، ثم هو يجعل الأشخاص الملائمين يصلون إلى المسؤوليات وليس الأشخاص الذين يتميزون بالرطانة. الذي يحدث عندنا الآن هناك مرشح اللغة الأجنبية يجعل شخص ليست لديه صفات قيادية ولا خبرة عملية ولا احتراف يقفز فوق شخص آخر أفضل منه في كل هذه الأمور فقط لأنه قادر على أن يظهر أمام لجنة الانتقاء أكثر قدرة على الحديث باللغة الأجنبية. فاللغة الأجنبية في هذه الحالة هي حاجز وهي عائق أمام الخبرات والكفاءات الحقيقية، وتضيع أموال كثيرة في عملية الترجمة بسبب أن الإدارات لا تشتغل بنفس اللغة تجد العدل تشتغل بالعربية لكن الصحة تشتغل باللغة الفرنسية. إدارة تشتغل بالعربية وأخرى بالفرنسية. هذا كله إذا نسق يوفر لنا المال ومناخا ملائما للإبداع والنشر والكتابة، وتزدهر المكتبات التجارية والمكتبات العامة، ويصبح التدريس أكثر فاعلية وأكثر إنتاجية. طبعا كل هذا سيعني بالضرورة نقاطا إضافية في الناتج الوطني الخام، لأن كأنك تزيح عددا من العوائق، كأنك تزيح عددا من المثبطات ومن الكوابح وتسمح للاقتصاد أن ينطلق انطلاقا صحيحا كما في سائر بلدان العالم. فأنا أطالب الخبراء أن يسعوا إلى حساب كم تكلفنا السياسة اللغوية الحالية؟ كم تكلفنا الفرنسة؟ كم يكلفنا إقصاء اللغة الرسمية من المجالات العملية ومن السلطة التنفيذية، لأنه أكيد أن التكلفة بعشرات المليارات من الدولارات لكن نحتاج خبراء يحسبونها لكي يتم الوعي بها ويعرف المواطن كم تكلف هذه السياسة اللغوية الخاطئة الممارسة حاليا.
شمس الدين حميود:
صدقت أستاذ، في الحقيقة كنت أستمتع جدا بهذه الجلسة الطيبة مع الأستاذ أحمد القاري الكاتب في مجال السياسات اللغوية ولغات التدريس. أتمنى أن يجمعنا لقاء قادما نستفيض فيه أكثر في هذا الموضوع الذي يحتاج منا الكثير والكثير. فشكرا جزيلا لكم أستاذ على تلبيتكم وما تفضلتم به؛ شكرا جزيلا.
الأستاذ أحمد القاري:
شكرا جزيلا لكم، أيضا لا أنسى شكر المتابعين الكرام. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.