كان ـ رضي الله عنه ـ يحفظ سوابق الخير للمسلمين، وكان لديه ميزانٌ دقيقٌ في تقييم الرِّجال، فقد قال رضي الله عنه: لا يعجبنَّكم طنطنة الرَّجل، ولكن من أدَّى الأمانة، وكف عن أعراض النَّاس، فهو الرَّجل، وكان رضي الله عنه يقول: لا تنظروا إِلى صلاة امرأىٍ، ولا صيامه، ولكن انظروا إِلى عقله، وصدقه. ويقول: إِنِّي لا أخاف عليكم أحد رجلين: مؤمناً قد تبين إيمانه، وكافراً قد تبين كفره، ولكنِّي أخاف عليكم منافقاً يتعوَّذ بالإِيمان، ويعمل لغيره. وسأل عمر عن رجلٍ شهد عنده بشهادةٍ، وأراد أن يعرف هل له مَنْ يزكِّيه، فقال له رجلٌ: إِنِّي أشهد له، وأزكيه يا أمير المؤمنين ! فقال عمر: أأنت جاره في مسكنه ؟ قال: لا ! قال: أعاشرته يوماً، فعرفت حقيقة أمره ؟ قال: لا ! قال: أسافرت يوماً معه، فإِنَّ السفر والاغتراب محكٌّ للرجال ؟ قال: لا ! قال عمر: لعلَّك رأيته في المسجد قائماً قاعداً يصلِّي ؟ قال: نعم ! قال: اذهب، فأنت لا تعرفه.(الطنطاوي،1983،ص339) وقد حظي مجموعةٌ من المسلمين بالثَّناء، والتَّقدير من عمر ـ رضي الله عنه ـ بفضل توفيق الله لهم للأعمال المجيدة لخدمة الإِسلام، وهذه بعض المواقف الدَّالَّة على ذلك:
آمنت إِذ كفروا، وأقبلت إِذ أدبروا، ووفَّيت إِذ غدروا:
عن عديِّ بن حاتمٍ، قال: أتيت عمر بن الخطاب في أناسٍ من قومي، فجعل يفرض للرَّجل من طيِّأىٍ في ألفين، ويعرض عنِّي، قال: فاستقبلتُه، فأعرض عنِّي، ثمَّ أتيته في حيال وجهه، فأعرض عنِّي، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أتعرفني ؟ فضحك حتَّى استلقى على قفاه، ثمَّ قال: نعم، والله إِنِّي لأعرفك ! امنتَ إِذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفَّيت إِذ غدروا، وإِنَّ أول صدقةٍ بيَّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيِّأىٍ، جئت بها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .(الخزندار،2000، ص164) ثمَّ أخذ يعتذر، ثمَّ قال: إِنَّما فرضت لقومٍ أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق.(بنعبد الله،1996ـ،ص66) .وجاء في روايةٍ: فقال عديٌّ: فلا أبالي إِذاً !
حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يُقَبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ:
أسرتِ الرُّوم الصحابيَّ الجليل عبد الله بن حذافة السَّهميَّ فجاؤوا به إِلى ملكهم، فقال له: تنصَّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوِّجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمَّد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ! فقال: إِذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، فأمر به فصُلبَ وأمر الرُّماة، فرموه قريباً من يديه، ورجليه وهو يعرض عليه دين النَّصرانية، فيأبى، ثمَّ أمر به، فأنزل، ثم أمر بقدرٍ، وفي روايةٍ ببقرة من نحاسٍ، فأحميت، وجاء بأسيرٍ من المسلمين، فألقاه؛ وهو ينظر، فإِذا عظامٌ تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيه فرفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه، ودعاه، فقال: إِنِّي إِنما بكيت؛ لأنَّ نفسي إِنَّما هي نفسٌ واحدةٌ تلقى في هذا القدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرةٍ في جسدي نفسٌ تعذَّب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الرِّوايات: أنَّه سجنه، ومنع عنه الطَّعام، والشَّراب أيَّاماً، ثمَّ أرسل إِليه بخمرٍ، ولحم خنزيرٍ، فلم يقربه، ثم استدعاه، فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إِنَّه قد حل لي، ولم أكن لأشمِّتك بي، فقال له الملك: فقبِّل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلمَّا رجع؛ قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام، فقبَّل رأسه رضي الله عنه.
أفيكم أويس بن عامر ؟
كان عمر بن الخطاب إِذا أتى عليه أمداد أهل اليمن؛ سألهم: أفيكم أويس بن عامرٍ ؟ حتَّى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامرٍ ؟ قال: نعم. قال: مِنْ مراد، ثم مِنْ قرن ؟ قال: نعم. قال: فكان بك برصٌ، فبرئت منه إِلا موضع درهمٍ ؟ قال: نعم. قال: لك والدةٌ ؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد، ثمَّ من قرن، كان به برص، فبرأ منه إِلا موضع درهمٍ، له والدةٌ، هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإِن استطعت أن يستغفر لك فافعل »، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد ؟ قال: اتي الكوفة، قال: ألا أكتب لك إِلى عاملها ؟ قال: أكون في غبرات.(اليحيى،1996،ص297) النَّاس أحب إِليَّ. قال: فلمَّا كان من العام المقبل، رجع رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، فقال: تركته رثَّ البيت، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثمَّ من قرن، كان به برص، فبرأ منه إِلا موضع درهم، له والدة، هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإِن استطعت أن يستغفر لك فافعل ». فأتى أويساً، فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفرٍ صالح، فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: لقيت عمر ؟ قال: نعم، قال: فاستغفر له، قال: ففطن له النَّاس، فانطلق على وجهه.(ابن كثير،1990)
عمر ـ رضي الله عنه ـ ومجاهد بارٌّ بأمِّه:
أقبل قومٌ غزاةٌ من الشَّام يريدون اليمن، وكان لعمر جفناتٌ يضعها إِذا صلى الغداة، فجاء رجلٌ منهم، فجلس يأكل، فجعل يتناول بشماله، فقال له عمر، وكان يتعهَّد النَّاس عند طعامهم: كل بيمينك، فلم يجبه، فأعاد عليه، فقال: هي يا أمير المؤمنين مشغولةٌ، فلمَّا فرغ من طعامه؛ دعا به، فقال: ما شغل يدك اليمنى ؟ فأخرجها، فإذا هي مقطوعةٌ فقال: ما هذا ؟ فقال: أصيبت يدي يوم اليرموك، قال: فمن يوضِّئك ؟ قال: أتوضأ بشمالي، ويعين الله، قال: فأين تريد ؟ قال: اليمن، إِلى أمٍّ لي لم أرها منذ كذا وكذا سنةً، قال: أوَ برٌّ أيضاً ؟ فأمر له بخادمٍ، وخمسة أباعر من إِبل الصَّدقة، وأوقرها له.
رجل ضُرِب ضربةً في سبيل الله حفرت في وجهه:
بينما النَّاس يأخذون أعطياتهم بين يدي عمر؛ إِذ رفع رأسه، فنظر إِلى رجلٍ في وجهه ضربةٌ، فسأله، فأخبره: أنَّه أصابته في غزاةٍ كان فيها، فقال: عدُّوا له ألفاً، فأعطي ألف درهم، ثمَّ قال: عدُّوا له ألفاً، فأعطى الرَّجل ألفاً أخرى، قال له ذلك أربع مرَّاتٍ كلُّ ذلك يعطيه ألف درهم، فاستحيا الرَّجل من كثرة ما يعطيه، فخرج، فسأل عنه، فقيل له: رأينا أنه استحيا من كثرة ما أعطي، فخرج، فقال: أما والله لو أنَّه مكث ما زلت أعطيه ما بقي منها درهم ! رجلٌ يُضرب ضربةً في سبيل الله حفرت في وجهه.