وُجد على مر العصور بعض العلماء الذين كان لهم دور أساسي وكبير في علم من علوم الشريعة، بل زادت شهرة بعضهم إلى أن صار لاسمه اقتران مع الفن الذي انشغل به، فصار إذا ذُكر العلم ذُكر فلان العالم به، ومن هؤلاء العلماء الذين كان لهم الأثر الكبير في علم السنة النبوية ونشرها وحفظها وتدوينها الإمام محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، وكان يكنى بأبي بكر، ويعرف بالزهري، كما يعرف بابن شهاب نسبة إلى جد جده شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وإذا أطلق العلماء لفظ الزهري أو لفظ ابن شهاب، فلا ينصرف هذان اللفظان إلا إليه لغلبتهما عليه دون غيره (الإمام الزهري وأثره في السنة، للضاري، ص 21).
ولد الإمام الزهري في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن سنة ولادته معلومة على وجه التحديد، وقد اختلف العلماء في تحديدها، ورجح الدكتور حارث سليمان الضاري أن سنة ولادته كانت 51 من الهجرة في خلافة معاوية، رضي الله عنه.
نشأ الإمام الزهري في المدينة المنورة بعد ولادته فيها، وكانت المدينة محط أنظار طلاب العلم وعشاق المعرفة الذين وفدوا إليها من كل حدب وصوب، والزهري من التابعين الأفذاذ، وقد بدأ طلبه للعلم مبكرا، وكان أول شيء اتجه إليه القرآن الكريم، فحفظ القرآن في 80 ليلة، وتعلم علم الأنساب ثم السنة المطهرة، ومعرفة الحلال والحرام، وكان إذا فرغ من تلقي العلم عن أساتذته يستعيد ما تلقاه منهم، ويتذكر ما رواه عنهم رغبة في جمعه وحفظه، وخوفا من ضياعه ونسيانه.
ثناء العلماء عليه:
- قال له سعيد بن المسيب: ما مات من ترك مثلك.
- قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: هل تأتون ابن شهاب؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: فأتوه، فإنه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه، قال معمر: وإن الحسن ونظراءه لأحياء يومئذ.
- روي عن جعفر بن ربيعة: أنه قال: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله، وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان، وأفقههم فقها بما مضى عن أحوال الناس: سعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثا، فعروة، ولا تشأ أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله بحرا إلا فجرته، وأعلمهم عندي جميعا: ابن شهاب، فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه.
- قال مالك بن أنس: بقي ابن شهاب وما له في الناس نظير (الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم؛ نقلا عن الأوزاعي وأثره في السنة، ص 234).
- قال الأوزاعي: ما أدهن ابن شهاب لملك قط دخل عليه، ولا أدرك أحد خلافة هشام من التابعين أفقه منه. (الأوزاعي وأثره في السنة، ص 235)
- قال الشافعي: لولا الزهري ذهبت السنن من المدينة (تهذيب الأسماء واللغات (1/91).
- وقال أحمد: الزهري أحسن الناس حديثا، وأجود الناس إسنادا.
- وقال علي بن المديني: أعلم الناس بقول الفقهاء السبعة الزهري (تذكرة الحفاظ (1/331).
الزهري ونشره للسنة:
كان الإمام الزهري قد قام بجهود مشكورة في نشر السنة وإذاعتها بين الناس، وإليك أهم أعماله التي قام بها لنشرها:
- تدريسها لكل من يطلبها.
- مذاكرته لها مع أقرانه.
- نشره لها بطريق الكتابة.
- إملاؤه إياها على تلاميذه.
- وعظه وتفقيهه للأعراب: فقد كان ينزل بالأعراب يعلمهم.
- نهيه عن حبس كتب العلم: فعن يونس بن يزيد قال: سمعت الزهري يقول: إياك وغلول الكتب، فقلت: ما هو؟ قال: حبسها.
- حثه على حفظ السنة وتعلمها: روي عن مالك بن أنس أنه قال: حدث الزهري بمائة حديث، ثم التفت إلي، فقال: كم حفظت يا مالك؟ قلت: أربعين. فوضع يده على جبهته ثم قال: إنا لله كيف نقص الحفظ.
- حثه على التمسك بالسنة والتأدب بآدابها: قال الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة، وعن الأوزاعي عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضا سريعا، فبعز العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله.
- ما أنفقه في نشرها من أموال: بالإضافة إلى ما أنفق الإمام الزهري من وقت وجهد في نشر السنة، فإنه قد أنفق كثيرا مما كان متيسرا لديه من مال، بل لا أغالي إذا قلت: إن ما كان ينفقه على نشرها أكثر بكثير مما كان ينفقه على نفسه وأهله وشؤونه الخاصة، فقد كان يطعم طلاب العلم بكل معاني البذل والسخاء، فكان يقدم لهم أفضل ما لديه من طعام، وكان يتعهد بالإنفاق على من ليس عنده ما ينفقه على نفسه من طلابه، وكان لا يعلم طالبا إلا إذا أكل عنده شيئا، كما كان يخرج للأعراب في البوادي فيعلمهم ويطعمهم ويقدم لهم ما يملكه من لذيذ الطعام وشهيه، هذا بالإضافة إلى ما كان ينفقه على رحلاته لطلب العلم وجمعه. وعن موسى بن عبد العزيز قال: كان ابن شهاب إذا أبى أحد من أصحاب الحديث أن يأكل طعامه حلف ألا يحدثه عشرة أيام (الإمام الزهري وأثره في السنة، ص 390).
- ما روي عنه في نشره للسنة: روي عن الليث بن سعد أنه قال: سمعته -أي ابن شهاب- يبكي على العلم بلسانه، ويقول: يذهب العلم وكثير ممن كان يعمل به. فقلت له: ووضعت من علمك عند من ترجو أن يكون خلفا في الناس بعدك؟ قال: والله ما نشر أحد العلم نشري، ولا صبر عليه صبري.
- ما يراه في كيفية طلبها: لكي تكون مهمة تعلم السنة وتعليمها يسيرة ناجحة، يرى الإمام الزهري ما يلي:
- التدرج في أخذها شيئا فشيئا، وحديثا بعد حديث، وألا يهجم عليها الطالب مرة واحدة لئلا تزدحم عليه المعلومات فتثقله وتؤدي به إلى الملل، فيفوته بذلك شيء كثير.
- أن يسعى الطلاب إلى العلماء، ولا يسعى العلماء إلى بيوت الطلاب والمتعلمين، لما يترتب على سعي العلماء إليهم من هوان العلم وذلته، روي عن مالك أنه قال: سمعت الزهري يقول: هوان العلم وذله أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم.
- كراهته طول المجلس، فقد كان يحذر من طول مجلس العلم وغيره، لما قد يؤدي إليه طوله من السأم والملل، أو الخوض فيما لا فائدة فيه. فقد قال: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب.
- توجيهه إلى ما قد يساعد استعماله أو تركه على الحفظ والتذكر من المطعومات: فقد قال الزهري: من سره أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب. وكان يشرب العسل ويقول: إنه يذكر. وعنه قال: ما أكلت تفاحا، ولا أكلت خلا منذ عالجت الحفظ (الإمام الزهري وأثره في السنة، ص 392).
وفاة الزهري (124 هـ):
توفي الإمام الزهري بعد حياة علمية رفيعة، عن نيف و70 سنة، ليلة الثلاثاء لـ19 أو لـ17 ليلة خلت من شهر رمضان، سنة 124 على أرجح الأقوال، في قرية (أدامي) وهي خلف (شغب) (وبدا)، أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز، وبها ضيعة الزهري، وقد أوصى أن يدفن على قارعة الطريق، ليمر مار فيدعو له (السنة قبل التدوين، ص 500).
وقد مر الأوزاعي بقبره يوما، فوقف عليه وقال: يا قبر كم فيك من علم ومن حكم، يا قبر، كم فيك من علم ومن كرم، وكم جمعت روايات وأحكاما. تغمده الله برحمته وجزاه عن الإسلام والسنة النبوية خير ما يجزي به العلماء العاملين (الإمام الزهري وأثره في السنة، ص 263)