مبحث الاخلاق في نظرية المعرفة مبحث معقد جدا، فهو مبحث عظيم للغاية، ذلك أنه يعتبر من زاوية النظر العلمية نهاية مطاف، لكن من زاوية النظر القانونية والسياسية هو بداية المطاف لا نهايته.
ولذاك لا تزال الكثير جدا من القضايا ذات الطابع الاخلاقي تأخذ حيزا واسعا من التجاذب في المجتمعات الغربية الى اليوم، خذ كمثال على ذلك مسألة الاجهاض في أمريكا التي لا تكاد تمر انتخابات دون التطرق اليها من قبل المرشحين، وقضية "الموت الرحيم" أيضا وغيرها من القضايا التي يدلي فيها العلم التجريبي بتقارير صماء في البداية، ثم تأتي الفلسفة لتشرع في التحاليل الفلسفية بعد التحاليل المخبرية لتعبر عن رأيها في تلك التقارير، فتتحدث عن مآلاتها على المجتمع طولا و عرضا وعمقا، ثم ينقسم الرأي أو لنقل المزاج العام لأحد طرفي القانون المساند أو المعارض تبعا للتحاليل الفلسفية المختلفة التي تمتح من مدارس متباينة ومرجعيات مختلفة مرتبطة كل واحدة منها بنظرية معرفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها، لتجد السياسة نفسها مضطرة للتفاعل هي الاخرى، فتَتبُّع الأصوات يقتضي ذلك، بصرف النظر عما قاله العلم أولا وما حللته الفلسفة ثانيا.
بالحديث عن الأخلاق يجد الانسان نفسه في مفترق طرق حقيقي ليس تبعا للعلم ولا للفلسفة فكلاهما في الحقيقة في طريق واحد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما سنفصله قريبا، إنما هناك مفترق خطير جدا قبل هذا، وكثيرٌ من الذين يسارعون في الخروج بنتائج جاهزة تفجأهم سرعتهم بمفترق طرق لا قبل لهم به، فغالبا ما يقعون ضحايا حوادث السرعة المفرطة نتيجة الثقة المفرطة.
في مفترق طرقنا هذا، هناك فلسفة أخلاقية وفلسفة لا أخلاقية، وحين نقول لا أخلاقية فنحن لا نقصد بذلك أنها فلسفة غير أخلاقية فالمعنى مختلف تماما! وتفصيل ذلك أنه حين نتعمق في الفلسفة الأخلاقية، فإننا ننتهي بالمحصلة الى تقسيم سلوك الانسان إما أنه أخلاقي أو غير أخلاقي، ذلك أن المنظومة الأخلاقية واضحة، يكفي فقط استشارة العلم والفلسفة حتى نقترب ونبتعد عن الأخلاقية في ذلك السلوك.
لكن هناك في الفلسفة اللاأخلاقية فالموضوع مختلف تماما، فهو يعني أن المنظومة برمتها لا أخلاقية بمعنى أنه لا يوجد أصلا معلم أخلاقي يقاس عليه، بمعنى آخر أن سؤال الأخلاق أصلا غير مطروح. وبمجرد أن تسأل داخل هذه الفلسفة السؤال البارز هل هذا أخلاقي أو غير أخلاقي، فسيعتبر السؤال من أصله عبثي.
هناك فرق شاسع بين أن نقول هذا سلوك غير أخلاقي وهذا سلوك لا أخلاقي، فالسلوك غير الأخلاقي عبارة لها معنى واضح وهو أن هذا السلوك بالقياس الى المنظومة الأخلاقية المتعارف عليها والتي تقوم على العلم والفلسفة معا (العلم مدخل أساسي فيها والفلسفة إطار لتحليل مخرجات العلم) يقال عنه سلوك غير أخلاقي، كما أن درجة غير أخلاقيته يمكن قياسها بالقرب والبعد من السلوك الأخلاقي الذي تحدده المنظومة كنموذج للتمثُّل.
لكن السلوك اللاأخلاقي فهي عبارة لا تحمل أي معنى، ذلك أن اللاأخلاقية تعني غياب المنظومة من أساسها فالمنظومة القائمة هنا لا تفترض أصلا وجود سؤال الأخلاق باعتباره منذ البداية موضوعا خارج الاهتمام.
هذه المقدمة بطولها ضرورية جدا لفهم ما نود الإشارة اليه في موضوعنا اليومالمتعلق بالبحث في سؤال الأخلاق في المنظومة العلمانية، ونظيرتها الاسلامية التي سنأخذ رمضان كحالة خاصة تنتظم مع الفلسفة الأخلاقية الاسلامية العامة، في مقابل العلمانية التي سنبحث أولا ما إذا كانت لديها منظومة أخلاقية، وعلى اعتبار وجودها كيف هي قيمها الاخلاقية تلك.
إذا حاولنا الاجابة عن سؤال المنظومة العلمانية، هل هي أخلاقية أم لا أخلاقية؟ لا يمكننا الفصل في ذلك الا إذا بحثنا عن الجذور التي تسبق المعايير الأخلاقية التي بها وفقط يمكن أن نقول هناك منظومة أخلاقية ام لا.
لاحظ أننا الآن لا نبحث أصلا ما إذا كانت المعايير الأخلاقية العلمانية متينة وجيدة أم لا، بل لازلنا نبحث في وجود المعايير أصلا، وهذا في حد ذاته فرق جوهري جدا عن المنظومة المعرفية الاسلامية التي لها قدرة بسيطة وسريعة جدا في إقامة معايير أخلاقية، تدخلها بشكل مبدئي في سباق الأخلاق وبين المنظومة المعرفية العلمانية التي لا تزال قيد البحث.
الى هنا نكون قد وصلنا الى خطوة مهمة ومركزية في البحث حول مسألة المنظومة الأخلاقية العلمانية، ومهّدنا لفهم الأرضية التي سيكون عليها حكمنا في المفارقة بين المنظومة الأخلاقية الاسلامية، التي تستند على معايير ثابتة ومتينة، وبين المنظومة العلمانية التي سنؤصل للبحث في معاييرها الاخلاقية في المقال القادم بحول الله.