في خضم الانهيار المفاجئ الذي تتعرض له العملات الرقمية، بدأ الجميع يتساءل: "هل هي نهاية لغز العملات الرقمية؟".
إذا قدر لنا أخذ جولة عبر آلة الزمن، والإبحار بها بعيدا في عمق الزمان الماضي. لوجدنا أن العملة قد خضعت لسلسلة من العمليات الجراحية التي غيرت مظهرها جملة وتفصيلا، لكن جوهرها لم يتغير كثيرا. لقد كانت الرحلة مثيرة، ما بين العملات الطينية إلى المعدنية، ما بين العملات الفضية إلى الذهبية، وما بين العملات الورقية إلى البطاقات الائتمانية.
نقل عن الإمام مالك أنه قال: "لو اتخذ الناس عملة من جلود لكرهت أن يتعاملوا فيها بالربا". لقد أثبت إمام دار الهجرة أنه يرى بنور الله، ويبصر ببركة العلم. لا غرو، فهو هنا يبحر في آفاق المستقبل ليخبر أقرانه أن العملات التي يتعاملون بها قد لا يكون لها ذكرا في القادم من الزمان. وأنه سيأتي يوم تتخذ فيه عملات لا يتصورها العقل ولا يقبلها المنطق.
عندما بدأت آلية التمويل عبر سندات الملكية Equity Based Finance في بداية القرن السابع عشر في كل من إنجلترا وهولندا وفرنسا (وهي الآلية التي مهدت لتطور البورصات) تعرضت أسهم الشركات الناشئة وقتها لانهيارات كبيرة. لكن ذلك لم يعني فشل النموذج the proposed model. فقد عكفت أسواق المال على تطوير هذا المنتج الجديد ووضعت من الضمانات والتشريعات ما جعله يصمد أمام عثرات البدايات. حتى أصبح سوق الأسهم هو السوق المهيمن على الاقتصاد العالمي، متجاوزا سوق السندات (ولا يخفى على القارئ الكريم أن السندات أقدم تاريخا من الأسهم).
إننا اليوم نشهد فصلًا جديدا من فصول مسلسل العملات، وغني عن القول ان التطور التكنولوجي جعل من الممكن استحداث عملات رقمية، لا قيمة لها في ذاتها، لكن قيمتها تكمن في إيمان المتعاملين بها. لاشك عندي انه من الممكن ان تنهار بعض العملات الرقمية (والتي تجاوزت الآلاف من العملات المختلفة). لكن يقيني أن هذه الانهيارات ستدفع إلى المزيد من التطوير والتحديث والتقنين لهذا النمط الجديد من العملات.
عندما ظهرت عملة Bitcoin في العام ٢٠٠٨، سخر منها دهاقنة المال والأعمال وراهنوا على سذاجة فكرتها. لكن في نفس العام تعرضت أسواق المال إلى أكبر إنهيار في التاريخ الحديث، تجلت إحدى نتائجه في فقدان الثقة في النظام النقدي العالمي على وجه العموم، والدولار الأمريكي على وجه الخصوص. كما أن المتعاملين في السوق أخذوا يجأرون بالشكوى من عمليات المراقبة التي يتعرضون لها، وبدأوا في البحث عن عملة تمنحهم قبعة الاختفاء.
لست أزعم هنا أن الانهيار الذي تعرضت له العملات الرقمية إبتداء من منتصف الأسبوع الماضي هي من قبيل ال cyclical movement وأن أسعارها ستعاود الصعود، فقناعتي أن عددا من تلك العملات ستذهب إلى سلة المهملات. لكن التاريخ يخبرني أن العملات الرئيسية منها ستصمد، وأن البنوك المركزية لن تجد بدا من التعامل معها وإصدار التشريعات التي تمنحها قبلة الحياة.
أهمية العملات الرقمية لا تأتي من جهة التضخم في قيمتها نتيجة لقبول العالم لها. لكن أهم ميزة تحمله أنها توفر Technical framework يمكن من تبادل الأموال بين البشر في كل أصقاع العالم بصورة مباشرة دون الحاجة لوسيط او طرف ثالث. هذه الميزة كفيلة بتدمير ال business model الذي تقوم عليه شركات تحويل الأموال وحتى جزء من مهمة البنوك. عليه يمكن توقع ان يكون اثر Bitcoin على قطاع الحوالات مماثلا لأثر ال Uber على شركات التاكسي.
حاولت منذ فترة تصور مستقبل العملات الرقمية في اقتصاديات دول العالم الثالث، والتحدي الذي ستمثله على البنوك المركزية في دول العالم الثالث. سيما أن العملات المحلية لم تعد محل ثقة، الشيء الذي يدفع المواطنين للمضاربة على الدولار. عليه أتوقع أن يقل الطلب على الدولار في دول مثل السودان ومصر ولبنان، وازدياد الطلب على العملات الرقمية.
محاولة الصين التصدي للعملة الرقمية "البيتكوين" قد يفسر في إطار الحفاظ على مشروعها الخاص بالذكاء الاصطناعي AI، والذي تسعى من خلاله السيطرة على مواطنيها. لاشك أن الصين قد تفوقت على أمريكا في أنظمة الدفع الإلكتروني وتحويل الأموال، حيث اعتبرت الصين إن هذه الانظمة تقود إلى الحد من استخدام العملة الورقية (والتي يصعب مراقبتها)، وقد نجحت الصين بجدارة في تحجيم العملات الورقية.
لكن العملات الرقمية (Bitcoin وأخواتها) من شأنها أن تقضي على المجهود الضخم الذي قامت به الحكومة الصينية، وتحد من مقدرتها على مراقبة مواطنيها ومتابعة حركة انتقال الأموال. من هنا يمكن فهم قلق الصين وحساسيتها من العملات الرقمية.
بقي أن نقول أن صراع النفوذ والهيمنة بين القطبين الأمريكي والصيني سيكون له بعض التأثير على مستقبل العملات الرقمية، ليس من حيث القبول بجوهرها، لكن من باب التنافس ودعم العملات المطروحة. لن تقبل الصين بال Bitcoin فهي ترى فيه سلعة غربية ليس إلا. لذا فإننا غالبا ما نشهد ميلاد عملة الكترونية جديدة تكون للحكومة الصينية فيها شكلا من أشكال السيطرة.