إن الهم المركزي الآن هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل إلى زمن الإبداع الفكري والفلسفي والعلمي، وهذا يتطلب منا الوعي بالخصوصية والكونية في الخطاب الفكري المتداول في العالم اليوم، لنستعيد المبادرة ونفتح المجال للإبداع، لأننا ما لم ندرك حدود ما هو كوني، وما هو محلي أو خصوصي، فإننا لن نستطيع أن نبدع، وسنبقى مقلدين لغيرنا.
فجدلية الخصوصية والكونية لازمتان للخطاب الفلسفي والفكري اليوم، ليستعيد فكرنا دوره في الإبداع والتواصل؛ الإبداع في الإجابة عن الأسئلة الملحة في سياقها العربي الإسلامي، والتواصل مع الخطابات الفلسفية والفكرية الأخرى باعتبار أن مرحلة العولمة تفرض تواصلا.
فالخصوصية اشتغال على افتكاك الاعتراف من الآخر على أن لنا نصيبا فلسفيا ينبغي لغيرنا أن يُقِر بخصوصيته، بمعنى آخر أننا نحتاج إلى الاعتراف بالحاجة إلى إيجاد فكر نتميز به كعرب عن غيرنا "لا تَمَيُّز الانقطاع ولكن تَمَيُّز التكميل والإغناء"، ليندرج خطابنا الفكري في سياق كونية إنسانية.
وهذا يقتضي منا الوعي بأننا نستطيع أن نفكر في قضايانا ونتفلسف فيها على مقتضى خصائص ذواتنا، وأن نستمد أفكارنا من مقومات مجالنا التداولي الإسلامي، وأن نضع لنا فكرا وفلسفة نابعين من تراثنا وواقعنا، لا ما يُقرره غيرنا لنا، وهذا في جوهره مناقض لكثير من الأطروحات الفلسفية العربية الحديثة والمعاصرة، بل وحتى القديمة؛ التي ترى أن لا مندوحة من الاندراج في السائد الغالب من الخطاب الفكري والخطاب الفلسفي المهيمن سواء أكان في شكله الإغريقي الغابر أو شكله الغربي الحداثي وما بعد الحداثي.
بعبارة أخرى، فإن الموقف الفلسفي والفكري من قضايا العصر ليس أمرا معزولا عن سياقه الحضاري، وليست الفلسفة والفكر مجرد فكر بلا زمان ولا مكان وبلا حضارة، إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر ما، يقوم به جيل ذلك العصر، ويخدم من خلاله مجتمعه ليعبر في نهاية المطاف عن الحضارة ... هذا الوضع هو الذي يدعونا إلى التفكير في علاقة الفلسفة والفكر بالموقف الحضاري لجيل محدد هو جيلنا، فهناك أبنية ذهنية ونفسية واجتماعية تظهر في كل عصر ولا يمكن تعميمها إلا بقدر عموم النفس الإنسانية، وإطلاق العقل البشري، وهو في الحقيقة عموم لا يأتي إلا بعد خصوصية.
ولذلك فإن معالجة موضوع لا صلة فيه بين الدين والعلم في الأوساط الفكرية والفلسفية اتسم بهيمنة خطاب الحداثة، كما اتسم بالجمود أمام الخطاب المهيمن للحداثة، ووضعنا أنفسنا في الغالب ضمن مقُولاتها بوجوب الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف، وصار المفكرون والمتفلسفون المسلمون عموما والعرب خصوصا تحت تأثير الخطاب الفلسفي للحداثة وما بعد الحداثة، فصاروا يخوضون في نفس المسالك الفكرية على نفس الأشكال المنهجية السائدة.
ولا بد من سبيل إلى الخروج من هذا التقليد الذي لا يوضح ما استشكل علينا من أمر العلاقة بين العلم والدين، ولا يرفع ما استغلق علينا بصددها، بل ينقل إلينا ما يزيد هذا الأمر استشكالاً واستِغلاقا؟ ولكي نبدع في الإجابة عن هذه العلاقة، نحتاج أن نتجاوز الاختزال الذي وقع فيه الغرب ومن نقل عنهم، وذلك بأن نخرج من "اختزال العلم في علوم الطبيعة"، ومن "اختزال الدين في أحوال الإيمان".
وللخروج من ضيق الرؤية الحداثية للصِلة بين الدين والعلم، وتهافت خطابها، علينا -كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن – بالخروج من التقليد لها، ورفض الاختزال المزدوج؛ رفض اختزال مفهوم ومجال العلم في العلوم الطبيعية، ورفض اختزال الدين في الأحوال الايمانية الصرفة كما هي في الموروث المسيحي.
وهذا يجعلنا قادرين على بناء وتحديد العلاقة بين الدين والعلم بطريقة إبداعية، حيث تقوم هذه العلاقة على توسيع مفهوم العلم إعمالاً لمبدأ "مراتب العقل"، فيتَجاوز تضييقات المفهوم الغربي للعلم، وتقوم أيضا على توسيع مفهوم الدين إعمالاً لمبدأ "تعدد شُعَبْ الحياة"، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، للخروج من ضيق المفهوم الغربي المنقول إلينا تقليداً كما يقول طه عبد الرحمن.