إن من أروع وانفع القواعد الفقهية التي سطرها الفقهاء هي قاعدة "الميسور لا يسقط بالمعسور" ومعناها: أنه إذا تعذر وتعسر على الإنسان أن يقوم بالكل وعجز عنه، فإنه لا يسقط عنه شرعا فعل البعض وقد تيسر له هذا البعض وقدر عليه.
وأبسط مثال على ذلك: الصلاة، فمن عجز عن الوقوف لم يكن له أن يترك الصلاة كلها، بل يصلي قاعدا لأن القعود مقدور عليه.
وكذلك النهي عن المنكر، فمن عجز عن التغيير بيده غير بلسانه فإن عجز غير بقلبه، ولم يكن له أن يترك النهي عن المنكر جملة.
إن مقصدنا من إيراد هذه القاعدة هو بيان أمور عدة أذكر منها:
- التنبيه على أنها سارية في كل مناحي الحياة، فعلى المسلم أن يحدد بالضبط دائرة ما يتعسر عليه ويعجز عنه، ودائرة ما يقدر عليه ويتيسر له، في كل شؤونه الفردية والأسرية والاجتماعية وغيرها.
- حالة الإحباط التي يمر بها المسلمون لتجعلهم يتركون الميسور لوجود المعسور، فالحنق والامتعاض من كثرة المعسور تجعلهم لا يتحمسون للميسور، وهذا أمر خطر على مستوى الدين والدنيا.
- الغفلة عن أن إنجاز الميسور جسر لإنجاز المعسور مستقبلا، فالمعسور لا يبقى معسورا أبدا، فلكثرة المعسور وغلبته، يذهل البعض أن إنجاز الميسور هو المرجع والدافع لإنجاز المعسور عند يسره.
- العمل بالميسور واجب شرعي، وقد يتسنى العمل بالمعسور إن تيسر وقد لا يتسنى ذلك، فليس من شأن المسلم أن ينشغل إن هذا الأمر هل سيتيسر مستقبلا أو أنه لن يتيسر؟ إلا على سبيل الإعداد والاستشراف والدراسة المستقبلية المحمودة.
- قد تتكفل جهة من الأمة بالعمل بالميسور وتتكفل جهة أخرى مستقبلا بالعمل بالمعسور حال يسره، فلا يشترط أن يقوم بالعملين جهة واحدة في كل وقت وحين، فاللاحق يبني على منجز السابق.
- إن الميسور والمعسور أمران نسبيان، فما يكون ميسورا لشخص أو مجتمع أو دولة قد لا يكون ميسورا لشخص أو مجتمع أو دولة أخرى، وهنا ينبغي أن ينتبه العالم والمفتي والدعاة عموما لهذا التباين حتى يبتعدوا ويحذروا من التعميم في الأحكام.
- إن الميسور هو مجال التكليف ومحاسبة الله تعالى للمرء، يقول سبحانه: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ" ويقول: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا"، وهنا يقع خطأ كثير من المسلمين من خلال الانشغال بالمعسور على حساب الميسور، فالله لا يحاسبك إلا على ما قدرت عليه.
- مشكلة الخطأ المنهجي الحاصل في تركيز الخطاب من بعض طلبة العلم والدعاة على المعسور لا الميسر حرصا منهم على تطبيق الدين كاملا، ومنشأ ذلك الجهل أصلا بالتمييز بينهما، حتى يكون نتيجة ذلك إدخال الناس في الحرج والمشقة المنهي عنهما وتكليفهم بما فوق طاقتهم.
- لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهم والحزن، والهم للمستقبل، والحزن على الماضي، وفي ذلك توجيه للمسلم أن يركز على حاضره وما يستطيع أن يعمل فيه، فلا يتحسر على ماض وعلى لم يستطع فعل الكثير فيه، ومستقبل لم يأت بعد قد بدت عليه أمارات العجز عن فعل أشياء كثيرة فيه أيضا، بل الواجب التركيز على ما حضر وتيسر.
- وأخيرا فمن أهم الأمور المتعلقة بهذه القاعدة وأخطرها هو تجاوز بعض قادة الرأي في الأمة من مفكرين وعلماء ومفتين وساسة لهذه القاعدة، وتكليف الأمة بأحكام فوق طاقتها، بحجج وتبريرات متوهمة ومتعجلة وغير مدروسة، ودون بذل كاف للوسع في الاجتهاد في التمييز بين المعسور والميسور، ليدخلوا الأمة والناس في مجازفات ومغامرات سيئة العاقبة والمآل.
تلك عشرة كاملة نتمنى استصحابها في فقه هذه القاعدة العظيمة النافعة وفي كيفية تنزيلها على الواقع.