العراق بلد متعدد العرقيات الدينية والطائفية، وهذا أثر في تركيبته السياسية، وهو بلد قبلي محافظ ساد التعايش بين مكوناته على مر تاريخه، لكن ثمة ظروف جديدة لم تُقرأ بدقة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والمتمثلة في كيفية التعامل مع القضية العراقية من كثير من الأطراف الداخلية والخارجية، حيث تعددت المشكلات والأطراف والمصالح والأجندات والطوائف واختلطت الجغرافيا فيه بين التاريخ والدين والسياسة تشابكا قويا وعجيبا، وقد استغل هذا القصور في القراءة من قبل أطراف دولية واقليمية ومحلية تريد جعل هذا البلد مسرحا لتصفية الحسابات بالأدوات المشروعة وغير المشروعة.
الوضع العراقي بعد الاحتلال:
في اعتقادنا هناك مجموعة من الثنائيات الفاعلة والمؤثرة في القضية العراقية، وإن إغفال أي ثنائية من هذه الثنائيات الفاعلة من الممكن أن يعود بالضرر، ويهدد مشروع أي طرف كان، فالقضية العراقية من أعقد القضايا في العالم المعاصر لما يكتنفها من ظروف وملابسات ومصالح وتراكمات تاريخية، وقد أسيء فهمها وتحليلها في الداخل والخارج، ولشدة هذا التعقيد جعل الكثير ينظر إليها سطحيا على المستوى الفردي وحتى الجماعي حين تغيب أدوات المعاينة والتشخيص والدراسة الموضوعية.
فليس غريبا من محلل سياسي يظهر على الفضائيات، ومن كثير من مراكز الدراسات، ومن جمهرة من المتعاطفين مع القضية العراقية، بل ومن شريحة واسعة من العراقيين أنفسهم أن يظنوا أو يجزِموا بعض الأحيان أن هناك ثنائية واحدة هي التي تفعل فعلها في الساحة العراقية بعد الاحتلال وهي ثنائية المقاومة والاحتلال فقط أو ثنائية السنة والشيعة فقط.
إن هذا التمعن المستعجل والمجزأ للفاعلين في القضية العراقية أوقع أطرافا عدة في أخطاء متوقعة وغير متوقعة بل وقاتلة في الوقت نفسه.
إن الذي نريد إثباته هو أن هناك ثنائيات عدة تفعل فعلها في القضية العراقية بعضها أشد من بعض، وإن إغفال أي ثنائية منها سيوقع أصحاب الرأي والقرار في مآزق وزوايا واختناقات هم في غنى عنها، وكم كابرت أطراف في عدم الاعتداد بهذه الثنائيات الفاعلة، إلا أن عمق قوتها أجبرهم في النهاية على القبول بضرورة النظر إليها ككتلة واحدة ومنظومة مترابطة في علاج وحل القضية العراقية، إذ أن في هذه الثنائيات من التراكم والتجذر ما يجعلها تفرض شروطها على الواقع وبقوة، وأذكر من هذه الثنائيات: المقاومة والاحتلال، الشيعة والسنة، العرب والأكراد، العراق وإيران، العراق وسوريا، العراق والكويت، الشمولية والديمقراطية، الدولة واللادولة، المقاومة والإرهاب، الانغلاق والانفتاح، الإسلام والعلمانية، عدا ثنائيات أخرى يطول بنا المقام في ذكرها.
إن القضية العراقية بحكم طبيعتها المعقدة تحتاج بالضرورة إلى حلول مماثلة في التعقيد والتركيب، والنظر المتعجل لن يسعف الأفراد والجماعات لفهم ما يجري ويدور، فضلا عن اقتراح سبل الحل للقضية العراقية، والأمر بطبيعة الحال أشد حين يكون غير عراقي ولم يدخل العراق ولو مرة واحدة.
إن القضية العراقية كالجسم البشري تحكمه قوانين ونسب محددة، وأي اختلال فيها سيؤدي بالضرورة إلى اختلاله أو موته، في ارتفاع أو انخفاض الضغط الدموي ونسب السكر مرتبط بالغذاء وكمية الدم وغيرها، مقادير محسوبة لا تتحمل الزيادة والنقصان، لأن ذلك سيحدث في الجسم خلل قد يؤدي إلى الوفاة، كذلك حال الثنائيات الفاعلة أي إهمال لواحدة منها سيعود بالضرر والأذى على الجسم العراقي ككل، والقضية تحتاج إلى طبيب ماهر يدرك النسب والقوانين والثنائيات الحاكمة والفاعلة حتى يستطيع التوصيف والتشخيص والمعالجة للقضية.
من كان يتصور أن ثنائية المقاومة والاحتلال أو ثنائية الشيعة والسنة هما الوحيدتان الفاعلتَان في الساحة العراقية شأنه كمن يقف أمام الفيل فيرى خرطومه فقط، لأنه الشيء البارز فيه وينسى أن أقدام الفيل أشد أذى وضررا من خرطومه لو أراد الفيل أن يضرب خصمه.
أبعاد المشكلة العراقية في ظل الثنائيات وطرق حلها:
إن عدم الأخذ بالحسبان جملة هذه الثنائيات الفاعلة في النظر للقضية العراقية أورث قصورا جزئيا لأبعاد المشكلة وطرق حلها ولعلني أذكر بعض الأسباب من منظوري الخاص، وأعَدِدُها في ما يلي:
1- حالة الانغلاق التي كانت تعيش فيها النخبة العراقية خاصة والمجتمع العراقي عامة، ثم لم تحدث حالة الانفتاح بطرق سلمية تدريجية مستقلة، وإنما الذي قام بذلك هو المحتل الغازي مما جعلها عملية انفتاح محدودة ومفاجئة ودموية أحيانا.
2- التشتت والصراع العرقي والطائفي العام بين المكونات والخاص داخل العرق والطائفة الواحدة مما نتج عنه تشتت الرؤى والاجتهادات وافتقاد الرؤية الوطنية الموحدة.
3- نقص الخبرة والتجربة لكثير من الجماعات التي ظهرت عقب الاحتلال من أحزاب وتكتلات، مما أفقدها الرؤية الشمولية والكلية لأبعاد المشكلة العراقية.
4- الضغط الإقليمي والاحتلال المباشر، الذي خلق واقعا جديدا جعل الكثيرين يتعاملون ويتصرفون وفق ردود الأفعال السريعة وغير المدروسة.
5- حجم المشكلات الهائل والموجود قبل الاحتلال مع حجم المشكلات الهائل والمرعب الذي صنعه الاحتلال، والذي خلق واقعا معقدا في تركيبته يحتاج بالضرورة إلى نخبة مخلصة في إرادة الإصلاح، غير منقسمة على نفسها، مع تثقيف هادئ وعدم قفز فوق الثوابت، مع دراسات وابحاث موضوعية معتمدة، وقد غاب الكثير من ذلك مع الأسف.
6- الإعلام الغوغائي الخطير وغير الهادف الذي أثار حالة من الضجيج لافتقاده للأجندة والبرامج الوطنية التي تمس صميم المشكلة، بعيدا عن الصراخ في الهواء والمبالغة والتهويل أو التمييع والتهوين لمفردات الأزمة العراقية، وهذا أحدث إرباكا خطيرا في المجتمع العراقي بل حتى النخبة لم تكن محصنة بما يكفي تجاه تأثيرات هذا الإعلام الموجه.
7- القياسات الخاطئة على تجارب أخرى، نقاط الاختلاف فيها أكثر بكثير من نقاط الاتفاق مما أنتج إسقاطات خاطئة وقاتلة على التجربة العراقية.
إن القضية العراقية تعاني من جملة هذه الثنائيات، المتمثلة في الاحتلال والطائفية والأطماع الاقليمية ورواسب القومية والدكتاتورية وعدم فهم الديمقراطية وتحدي تشكيل الدولة، فالمُحتل لم يسْقِط النظام فحسب، بل أزال الدولة برمتها، وكان السباق محموما في بناء الدولة الجديدة، والتحدي لم يكن تحدي إخراج المحتل فقط بل كان تحدي تشكيل الدولة الوليدة التي إن تم تشكيلها دون توازن سيتولد الظلم الذي يؤجج حالة الصراع على طول الخط، دون أن ننسى أن العراق عانى من الإرهاب الذي حصد أرقاما خيالية من الضحايا فاقت ضحايا المحتل، كما عانى من الانغلاق السابق والانفتاح الحاضر، دون أن ننسى الهجمة الشرسة على الأخلاق والقيم من خلال التكنولوجيا المعاصرة والإعلام الممول الموجه للإنسان العراقي.
بالاستقراء المعرفي والميداني والحواري والإعلامي أن أكبر خطأ تقع فيه الاتجاهات الإصلاحية من أحزاب سياسية وحركات وجمعيات إصلاح اجتماعي، هو القياس -مع عدم مراعاة الفارق- على تجارب مماثلة في أقطار وأزمنة أخرى، عاشت ظروفا مغايرة تماما والعوامل المؤثرة فيها غير العوامل المؤثرة في غيرها.
إن التاريخ لا يعيد نفسه والتجارب لا تتكرر بحذافيرها، وهذا لاخْتلاف الأيديولوجيات والاستراتيجيات والتكتيكات، ونوع العدو وحجم الإمكانيات والظرف الدولي والاستعداد الشعبي والوضع الثقافي والنفسي والاجتماعي، وباختصار فالمُشكل سواءً كان معقد أو مركبا لا يمكن حله ببساطة، ويجب تظافر جهود الجميع، ومن يريد إصلاح حاضر العراق ومستقبله عليه أن ينظر للعوامل والثنائيات التي شَكلته في الماضي، لأنها هي ذاتها التي ستُشكله في الحاضر والمستقبل.